أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تواصل أم انفصال

هيفاء زنكنة
- لندن -

البدايات

تميزت الكتابة الأدبية في العراق، منذ اصدار أول رواية عراقية، بالقضايا الاجتماعية والسياسية مقارنة مع الأدب العالمي. وهو هم تحول منذ السبعينات الى الأرتباط بالأيديولوجية العقائدية . كتب محمود السيد روايته جلال خالد عام 1928، بعد ان انتقد تجربته السابقة بشدة واصفا اياها في مقالة له كتبها عام 1923، بأنها "لطخة عار" في حياته وحياة الأدب، لأنه كتب "روايات غرامية فاسدة " (1) . وقد دعى رواد الأدب العراقي الى التعبير عن ألام وهموم الناس ومجتمعهم وجعلهم الأدب " صورة مجسمة من صور الحياة الاجتماعية حسب تعبير محمود السيد . وقد شاركه التجربة ذو النون ايوب ليأتي عبد الملك نوري مطورا للكتابة القصصية المتميزة بالتآلف بين الموضوع الاجتماعي والسياسي مع الآطلاع على الأدب العالمي. وقد استغرقت موضوعات الزواج والحب والبغاء والقتل غسلاً للعار القصاصين في الأربعينات والخمسينات (2).
وفي الخمسينات، في الوقت الذي ظهرت فيه كتابات ادبية لا يتعدي دورها تسجيل الأحداث الاجتماعية ونقدها حاول آخرون أبداء اهتمام أكبر بالنواحي الفنية للعمل الأدبي والاستفادة من التأثيرات العالمية . من بينهم عبد الملك نوري، حسين مردان، غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي. كما شهد النقد إنفتاحاً وتطوراً مسايراً للكتابة الأدبية . وساهم كتاب مثل عبد الملك نوري وفؤاد التكرليفي حقل النقد أيضا . وكان عبد الملك نوري قد بدأ نقده للكتابة الأدبية متأثراً بكتابات دستوفسكي وتيار التحليل النفسي فأنتقد الكتابة الواقعية والأغراق في الوصف لأنه " يهمل ما وراء ظواهر الواقع ولا يغور الى الحس الإنساني المشترك والتيار الذي يجري في الخفاء " (3) .
اتصفت الكتابة الأدبية في الأربعينات والخمسينات بتعددية الأتجاهات وغناها في حقلي الأنتاج الأدبي والنقد الموضوعي المتجرد من الأهواء. وتم تشكيل التجمعات الأدبية في المقاهي وحلقات الجامعات وكثر الجدال وتبادل الرسائل بين الأدباء وتمرير الكتب بشغف ولهفة . كما تميزت الفترة بكتابة القصة القصيرة مع قلة الأنتاج الروائي ، مما أدى الى ظهور القصة الطويلة ، فنشر جبرا إبراهيم جبرا " صراخ في ليل طويل " عام 1955، ونزار سليم " اللحن الأخير " والتكرلي " الوجه الآخر " .
وعاش الشعر أيضاً فترة تنوع وإزدهار تجريبي ، فولدت القصيدة الحديثة على أيدي روادها : نازك الملائكة ، بدرشاكر السياب ، بلند الحيدر وعبد الوهاب البياتي.
إن النقطة التي تستحق التأمل في هذه المرحلة وينبغي التوقف عندها لأهميتها فيما سيليها من تطورات هي كون الموقف السياسي للأديب هي موقفا فرديا وليس حزبيا ايدولوجيا . إذ كان منبع اهتمام الأديب بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية انسانيا عاما . لذلك كان من الطبيعي أن يعيب مؤيد الطلال وهو الناقد الايديولوجي على نتاجات تلك الفترة لأنها " كانت تفتقر الى مقومات فكرية وتكنيكية عديدة بحكم قلة تجاربها ، واهتمامها بالقضايا .. وبذلك غاب عن قسم كبير منها المنظور الايديولوجي الواضح والمنهج النقدي العلمي " وإن إستدرك قائلاً " ومع ذلك استطاعت بعض تلك الأعمال التقدم الى الصفوف الأمامية .. وأن تشكل القاعدة لبناء مدرسة واقعية اجتماعية نقدية ذات مهام ايديولوجية في القصة العراقية " (4)

تقييم الستينات

شهدت فترة الستينات نمو بذرة الأختلاف العقائدي ومظاهره الأدبية والفنية بالأضافة الى كونها مرحلة تجريب في الكتابة الأبداعية مما أدى الى بروز تناقض حاد في تقييمها. وقد اختلفت وجهات النظر بصدد هذه المرحلة ففي الوقت الذي يصف فاضل العزاوي جيل شعراء الستينات بأنه " جيل عاش تجربة اخرى غير تجربة الشعراء الذين سبقوه .. جعلته يمتلك وعياً مختلفاً بالكتابة وجماليتها وبالعصر وإشكالاته .. إن وعيهم بالشعر هو حلمهم بتحرير القصيدة العربية من اوهامها عبر تفجير مخيلتهم ، طاعنين كل الأبتذالات والعبوديات القائمة في قلب التاريخ العربي .. إن الروح التي أشتعلت في النصف الثاني من الستينات واستمرا أعواما قلقة فقط قبل أن تتعرض الى القمع الشديد هي التي نقلت الكتابة الشديدة في العراق من حال الى حال .. ففي أعوام قليلة أبدع أجمل النصوص وأعمقها في الأدب العراقي الحدبث " (5).
ووصف الجنابي تلك الفترة من الناحية السياسية قائلاً "
ثمة غياب للسلطة ، والأحزاب كانت منشغلة بما ينخرها من الداخل " . وكتب الشاعر والكاتب الراحل شريف الربيعي الذي يعتبر من " شعراء الستينات " واصفاً تلك الفترة مركزاً على علاقة السياسي بالكاتب " شهدت تجربة حكم البعث في أواخر الستينات حالة من نوع جديد على صعيد العلاقة بين السياسي والثقافي ، تمثلت بتقسيم الأدباء والشعراء العراقيين بمؤتمر الأدباء العرب الذي عقد ببغداد أنذاك ، على أساس الفكر السياسي حيث تم الفرز بموجب أنتماء الأديب العراقي لها ، هكذا إختار البعثيون أعضاؤهم للوفد المشارك في أعمال المؤتمر منهم ومن أنصارهم وتركوا للشيوعيين أن يفعلوا ذلك، وإقتضى الأمر مفاوضات سرية أدارها السياسيون من الطرفين ، تمخضت عن غريب من الإختيار لا يجمعه سوى الشعار الذي عقد المؤتمر تحت لوائه " كل شئ من أجل المعركة " ولم تكن تلك " الحالة الثورية " في التعامل مع الأدباء والشعراء والكتاب العراقيين وليدة الفكر الجهنمي للبعث ونشوة إنتصاره إثر عودته الى حكم العراق للمرة الثانية . فقد سبق الشيوعيون الجميع في ذلك المجال رغم إنهم لم يحكموا العراق كحزب " ويضيف قائلاً " دون أن نهمل الأبداع المتيسيس في الثقافة يومها " ، ويقول " وفي وقت سابق سجل الستينيون في العراق ونتيجة ظرف سياسي سانح إنهم أكثر المثقفين العراقيين قدرة على السخرية من السياسيين العراقيين وكشف هزال برامجهم المطبقة في الواقع العراقي سلطة ومعارضة . والشواهد على ذلك كثيرة آخرها سقوط تجربة القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والحالة المآساوية التي تمت فيها عملية إنهاء تلك التجربة وما عكسته في الثقافة العراقية من تفاصيل " (6) . تلك هي وجهات نظر كتاب أسسوا وساهموا في صياغة التجربة الستينية . أما وجهات النظر المغايرة في تقييمها لتلك المرحلة فمن بينها رأي مؤيد الطلال الذي أعتبرها " نكوصاً ثقافياً وأدبياً خطيراً وفسح المجال للأعمال الذاتية والشكلية والعاطفية السطحية بالظهور والسيادة .. فعبرت القصة العراقية عن إحباطات الفرد وفرقة الجماعة، كما لهثت وراء الأشكال والأساليب والأفكار الغربية وأمتلأت بروح العبث والفوضى والغثيان " (7) وقال الناقد عبد الجبار عباس " علينا التمييز بين جيل ستيني فوضوي يرى التراث ركاما ميتا من مخلفات البداوة وأضاليل يجب نسفها وبين جيل جاد يتعامل والرتاث تعاملا نفعيا " ووصف المرحلة بكونها " منتصف الستينات العارفية الرجعية " (8) .
وأبدى الشاعر سعدي يوسف رأيه قائلاً " مازلت مقتنعاً الأقتناع كله بأن الأدب – الشعر بخاصة – تعرض لعملية تشويه بين 1964- 1968، وإن عملية التشويه هذه كادت أن تقضي على حيوية الشعر العراقي وتقاليده المشرفة .. وقد وضحت المسألة بكل جلائها فيما أعقب التأميم من تحرك أدبي ، إذ لم ينشأ طيلة شهر كامل من 1 حزيران الى تموز سوى سبع قصائد تتناول الحدث الكبير وأبعاده ، وتتمتع بمستوى أبداعي معين " ( 9 ) .
في الستينات صدر البيان الشعري موقعاً من قبل فاضل العزاوي وسامي مهدي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى ، كما صدرت مجلة " شعر 69 " التي منعت فيما بعد ومجلة " الكلمة " لحميد المطبعي وموسى كريدي وإشتهرت أسماء وكتاب وشعراء من بينهم سرجون بولص، عبد الرحمن طهمازي، صادق الصائغ، عبد الرحمن مجيد الربيعي، جليل حيدر، مؤيد الراوي، ومنهم أيضاً سامي مهدي الذي يصف نفسه بأنه " شاعر  منتم  وله رسالة أيديولوجية " .

السبعينات

إنها فترة ترسيخ الفروق الأيديولوجية للكتاب والشعراء والفنانين . إنها مرحلة مع أو ضد أو التهميش والألغاء للفئة الثالثة التي تميل الى موقف محايد حسب تعبير شريف الربيعي. فيها واصلت السلطة حملتها المركزة لترسيخ فكرها الأيديولوجي القومي وخصوصية صفة الوطنية العراقية، أدبيا وشعريا وفنياً. كما يشير قرار صادر بهذا المعنى من قبل المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث 1974.
من بين ملامح السبعينات
-  تشجيع السلطة للأتجاه القائل بأن تاريخ الأمة العربية لا يبدأ مع ظهور الأسلام كما قال صدام حسين في كراسه المعنون  نحو كتابة التاريخ 1977 : " فحين تحدث الغيبي السلفي بالأتجاه الأسلامي التقليدي القديم الذي صور العرب بأنهم أمة متفسخة، متصوراً بأنه بذلك إنما يقّوي الدعوة الأسلامية ويوفر أسس ومستلزمات مشروعياتها الدنيوية إنما يرتكب خطأً كبيراً. ونرى ذلك في الكثير من الكتابات العربية " . وقال ملخصاً ايديولوجية البعث " نحن لسنا بحاجة الى تزوير التاريخ أو الى اصطناعه من أجل أن نقرأه قراءة بعثية، وانما نحن بحاجة الى أن نفهمه فهما بعثيا ليس غير وأن ذلك يضفي عليه من الحقيقة ما لم يكن ظاهر منها ".
- إيلاء السلطة موضوعة التراث والأصالة والمعاصرة إهتمامها. إذ قال الياس فرح : فاحياء التراث لا يعني الرجوع الى الماضي بل يعني فهم التراث فهماً علمياً ثورياً على ضوء متطلبات النضال في المرحلة التاريخية الراهنة للأمة العربية.
- وعلى الرغم من إن الأهتمام وأعادة تقييم الأنتماء العراقي الى حضارة وادي الرافدين يعود الى الخمسينات وبرز في إستخدام شعار الجمهورية ومواصلة الأهتمام به في الستينات من قبل الشعراء والكتاب والفنانين ، الا أن الأيديولوجية البعثية كرسته بعداً أساسيا وضروريا في شخصية العراقي من خلال الكتابة الأدبية والبحوث الأكاديمية التي ساهمت في نقل الفكرة من محيط المثقفين الى الأواسط الشعبية .(10)
-  وقد بدأت الحملة فعليا بشكل ثقافي غير ملحوظ منذ لحظة تسلم البعث للسلطة الا إنها لم تتحول الى قرار حزبي الاّ بعد مرور عشر سنوات على تسلم السلطة . فقد ظهرت الدراسات والمقالات عن رافدية العراق في مجلات الطليعة الأدبية وآفاق عربية والتراث الشعبي. وتم شن حملة كبيرة لتشجيع وصيانة وحفظ الفلكلور العراقي والتوعية بتاريخ ما قبل الأسلام في العراق .  
- إفتتاح بيت الأزياء العراقي بتصميماته المستوحاة من الحضارات القديمة بالأضافة الى صرف ةتكريس ميزانية لا مثيل لها للتنقيب على الأثار وصيانتها وترميمها. وبعث المدن القديمة مثل آشور والحضر وأكثرها أهمية من الناحية الأيديولوجية مدينة بابل . وفي هذه المدن تم تقديم العديد من الأعمال المسرحية بين أعوام 1968-1979. وعلى الرغم من إن هذه المسرحيات كانت مكتوبة من قبل إدباء شيوعيين الاّ إن الملمح العام كان بعثي الأيديولوجية ، أهمها كانت مسرحية كلكامش . في عام 1970 تم تغيير أسماء بعض المدن العراقية تماشياً مع رافدية العراق . الموصل صارت نينوى والحلة تغيرت الى بابل كما تم إطلاق أسماء سومر وأكد والحضر على مدن أخرى مع التنبيه المستمر الى أهمية القادة العسكريين في التاريخ العراقي القديم. فنشأ شعور بالأعتزاز الكبير والعميق بعراقية العراقي ووطنيته وتميزه على بقية العرب في كل المجالات. وأصبح الأحساس بالعراقة التاريخية والحضارية عاما وليس منحصرا بفئة قومية أو دينية دون غيرها. فليس غريبا إذن أن يكتب جميل روفائيل واصفا شهر تموز." إذا نظرنا الى أحداث شهر تموز في بلادنا لوجدناه حافلا بالثورات القائمة لصالح شعبنا بدءا من أول حركة تحرير ضد الحكم الأجنبي في العراق حين ثار ملك الوركاء السومري أوتو هيجال عام 2116 ق.م ضد المحتلين الأجانب مما قاد الى تحرير واستقلال أهل العراق.. لذلك بأمكاننا أن نقول بأن تموز هو شهر السعد للعراقيين لأنه أيضا هو شهر الأله تموز (11) .
- إنطلاق مهرجان المربد الشعري. الأحتفال الذي سيمتد ويتسع ليضم بين قائم مدعويه ألف شاعر وشاعر. كما في مربد النصر، المعقود عام 1988 وحضره أكثر من ألف أديب عربي. عن هذا المهرجان كتب القاص محيي الأشيقر عام 86 في مجلة "فتح" مستعيدا بدايته:" وهنا سأتذكر شيئا آخرا أي يوم دعي الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو بالسطور التالية التي نشرها في مجلة الطليعة المصرية : في الوقت الذي تغيب فيه أصوات شعراء العراق وراء الجدران الصماء بقصر النهاية وفي الوقت الذي لا يملك فيه شعراء العراق الا أصابعهم المهشمة العريانة اقلاما يكتبون بها فوق جدران الحجرات المظلمة ، في الوقت الذي يعيش فيه في المنفى عدد من شعراء العراق لا يملك الشاعر الا أن يأخذ موقف بوشكين وأن يصرخ: إن موقفي الى جانبهم .. من أجل هذا أرفض أرى أن أرفض الدعوة الى مهرجان البصرة الشعري ".
- وكانت السبعينات مرحلة بدء الهجرة الجماعية للمثقفين والناس العاديين، ضحايا السلطة القمعية وفشل تجربة الجبهة التي أمدت السلطة بالدماء الضرورية لأبقائها حية ومجددة حيويتها .

أختلاف التجربة

في هذه المرحلة، بدءا من أواخر السبعينات ، ستتأسس ظاهرة الكتابة في المنفى كأتجاه مختلف عن الكتابة في الداخل حتى بالنسبة للكتاب المخضرمين المعروفين في داخل العراق. بأختصار شديد ( لأن كتابات المنفى متوفرة لدينا) سأذكر بعض الموضوعات التي تطرق اليها كتاب المنفى. من بينها: الحنين الى الوطن. إسترجاع أحداث الماضي عبر الذاكرة وأعادة تقييمها . العودة الى أماكن الطفولة وتسجيل الذكريات الشخصية . تسجيل التجارب الشخصية النضالية . فضح زيف الحرب وكابوس الخدمة العسكرية الألزامية . طرح التساؤلات بصدد عبثية الحرب ولا جدواها. التعامل مع ظاهرة الموت المجاني التي عاشها ويعيشها العراقيون . البحث عن معنى للمنفى وأسبابه . محاولة فهم الحاضر من خلال المجتمع الجديد. والى حد ما تصور ما سيحدث في المستقبل . وقد تميزت كتابات المنفيين التمتع بطعم الحرية الجديد. التمتع بحرية الأختيار . الكتابة عن كل الموضوعات التي يختارها الكاتب. معالجة موضوعات الأيديولوجية والسلطة . ومعنى الهوية والتقاليد الأجتماعية والجنس وإن بقي موضوع الدين محرماً تقريباً .
- إن الميزة الأساسية التي يتمتع بها كاتب المنفى هي إحساسه بالأمان وتمتعه بحرية الأختيار حتى لو لم يلجأ
- الكاتب عمليا الى إستخدامها أو تطوير نصوصه وفقا لها. لأن التمتع بحرية المنفى لا يعني بالضرورة تحرر الكاتب من سلطة الرقيب الأيديولوجية والقمعية فكريا ومسلكيا التي عاش تحت سيطرتها فترة طويلة تمتد في بعض الحالات الى فترة الطفولة .
- تنوع وغنى " اللهجات" والأساليب المستخدمة في الكتابة تبعاً لتأثر الكاتب المنفي بالأتجاهات الأدبية في بلده الثاني.  
- بالنسبة للموقف السياسي واصل بعض الكتاب الألتزام بأيديولوجيته السابقة . وإستقل آخرون عن أي انتماء حزبي مفضلين استمرارية العمل الثقافي ، بينما تبنى آخرون مسايرة أيديولوجية النظام العالمي الجديد أملاً في تحقيق " تحرير العراق " وفق سياسة أمريكية – بريطانية وانعكاس ذلك على الثقافة العربية والعراقية.

داخل العراق

يعيش العراقي منذ الثمانينات وحتى اليوم في ظل كابوس حرب مستمرة ، ي ظل كابوس حرب مستمرة ، ذ كان معرضاً في سنوات الحرب العراقية الأيرانية الى الأعتقال والتعذيب والموت والخدمة العسكرية الألزامية في ظل سلطة شمولية . أضيف الى ذلك في التسعينات وحتى اليوم القصف اليومي، الحصار الاقتصادي وانعكاساته من فاقة وامراض وجوع ويأس وتغيرات اجتماعية غيرت من طبيعة المجتمع العراقي. فالفرد العراقي محاصر مرتين مرة من قبل السلطة ومرة من قبل النظام العالمي الجديد متمثلاً بأمريكا وبريطانيا .
هذه هي الخلفية العامة لعقدي الثمانينات والتسعينات التي عاش ويعيش في ظلها الفرد العراقي عموماً. وتزداد الحالة سوءا بالنسبة الى الأدباء والشعراء لأنهم مطالبون أكثر من غيرهم بموقف واضح وصريح من السلطة ومنجزاتها واجراءاتها . من جراء ذلك تباينت مواقفهم متراوحة ما بين الكاتب والشاعر الأيديولوجي كما في حالة سامي مهدي، موفق خضر وحميد سعيد. وبين من انجروا الى إعلان ولائهم للسلطة نتيجة ايمانهم أما بقومية العراق أو الحرص على سلامته بعد إن تعرض لما تم تصويره من قبل السلطة وأجهزة اعلامها بأعتباره عدوانا فارسيا مجوسيا هدفه القضاء على العراق وانجازاته القومية العربية.. وبين من اختار الصمت والأنزواء بعيدا عن الحياة الثقافية العامة متفرغا لمهنة التعليم مثلاً مع مواصلة الكتابة سراً بأنتظار قريب الفرج. من بين هؤلاء ادباء وشعراء اختاروا العودة الى الكتابة بعد صمت أثر ما تعرض له العراق من قصف وحصار وجوع وظلم خارجي فوجدوا أنفسهم يواجهون خيبة جديدة : هي خيبة اللاعدالة العالمية إضافة الى المحلية . كما في حالة الشاعر محمود البريكان الذي عاود الكتابة والنشر في عام 1992. كما كتب ونشر عدد آخر من الأدباء مسايرة لسياسة الترغيب والترهيب التي تفننت السلطة في تطبيقها .
- سأترك، بقدر الأمكان، لبعض النصوص الصادرة، في داخل العراق ولشهادات كاتبيها المجال لتوضيح ولو جانب بسيط من نوعية الكتابة السائدة في الثمانينات والتسعينات. يبدو لي من قراءة النصوص المتوفرة بأن موضوعات الكتابة هي :
مدح القائد والثورة.
الحرب العراقية الأيرانية
الأسطورة والحكايات الخرافية ورموز حضارة وادي الرافدين.
أعادة قراءة التراث مع الأهتمام بالحركة الصوفية.
الموت وخاصة الشهادة.
بناء مدن يوتوبية وشعوب متخيلة.
حرب الخليج والحصار.
وقد يبدو لمن يقرأ تعدد الموضوعات بأن الأديب العراقي يعيش فردوساً من الغنى التعبيري لا يضاهيه أحد الا أنه سرعان ما يدرك عند القائه نظرة متفحصة على النصوص بأن في معظم نتاجات المرحلة، الموضوع مفروض على الكاتب والشاعر بفعل قرار أو حدث خارجي لا يد له في اختياره، كالحرب والحصار والشهادة والموت وسرد بطولات المقاتلين الخارقة.

مدح القائد والثورة

تم هذا في المهرجانات والأحتفالات والملتقيات وكافة وسائل الأعلام وتباري الشعراء خاصة في المديح والثناء ورفع القائد الى مرتبة سامية تماثل في قوتها وقناعاتها الأنبياء والرسل. يقول عبد الأمير معلة ، مثلاً ، وهو نفسه كاتب رواية " الأيام الطويلة " عن سيرة حياة صدام حسين، في قصيدة " الصقر "
إنه الصقر الذي يولد من جذر قريش
حاملاً من شجر الله لنا ملحا وعيش.
وفي قصيدة " الفارس" ينشد الشاعر علي الياسري:
وطلعت يا تعب السنين الماضيات
مقاتلاً صلبا أصيلا
تهتز بالأرض النبية ترتضيك لها قدرا نبيلاً
ويبلغ مديح القائد ذروته في إحتفالات البيعة السنوية . ومن خلال تصفحي لجريدة الجمهورية الصادرة بتاريخ 14/11/93 إنطلقت صيحات الشعراء الشعبيين هاتفة : " لك البيعة الدائمة ياعزنا " . وناداه الشاعر فاضل عباس الكعبي في قصيدة " يا سيد المجد " . بينما اكتفى باسم عبد الحميد حمودي بكتابة عمود شرح فيه معاني استذكار البيعة التاريخية لصدام حسين، قائلاً : ومن معاني البيعة للمفكر صدام حسين أن نرد اليه بعض دينه ، أدباء وكتاب وصحفيين ومبدعين في مجال العمل الفكري. ذلك أن هذا الرجل الفارس قد قدم للأبداع في شتى الحقول ما يثمر ويضئ ويطور، وقاد بنفسه الفيلق الأعلامي الأبداعي. " وكتب الروائي والقاص غازي العبادي بعنوان – بيعة القائد تجديد البيعة للتاريخ – :" لكن العراق الذي صقلته المعارك حبته العناية الألهية بقيادة مجربة حكيمة استطاعت أن تمسك بزمام المؤامرة بوقوفها وحيدة بوجه أعتى الحصار وأكبر عدوان استعماري صهيوني تألب فيه علينا العدو والصديق والمحايد والطامع" . وشاركهم جبرا إبراهيم جبرا العزف على موسيقى البيعة قائلاً " حب الجميع للسيد الرئيس المناضل ، حفظه الله، أيمانا منهم بحكمة قيادته وصلابة عزمه في السير بهم صعدا في مدارج الأزدهار ".

الحرب

خلال الحرب العراقية الأيرانية تم نقل الكتاب والشعراء الى الجبهة مرتدين الزي العسكري ليعيشوا تجربة الحرب والكتابة عنها. وكانت النتيجة الفورية تجاوز النتاج الروائي في أعوام الحرب مع أيران مجموع ما صدر في تاريخ الرواية العراقية كله قبل الحرب. يقول الناقد جبرا إبراهيم جبرا " فأن تكتب في سنتين أو ثلاث في أي قطر عربي أكثر من ثمانين رواية ، أمر مدهش، وهذه كلها كتبت عن تجربة الحرب فقط" . ثم أضاف بتردد" هناك من يردد أن الكثير مما يكتبه الأدباء العراقيون من قصة أو رواية يدخل في الأغلب في مضمار الأدب التعبوي، وأن اهتمامنا به بأعتباره أدبا باقيا يدل على تناقض في الموقف النقدي ". كما يلاحظ بأن" روايات الحرب في سواء في أدبنا أم في الأداب الأخرى كتبت في معظمها بعد انتهاء الحروب التي تتحدث عنها، والجديد عندنا في العراق ، هو أن تكتب قصص الحرب ورواياتها في أثناء الحرب " (12).
- من بين الروايات المنشورة في الثمانينات وعالجت موضوع الحرب " من يرث الفردوس " 1987 و " بذور النار" 1988 " للطيفة الدليمي التي تقول في شهادة لها : " إن أبعاد التجريب عندها تكمن في طرحها لنموذج روائي عراقي ذي خصوصية محلية معاصرة لها سمات منفردة في أسلوبها ومعالجتها لموضوعة الحرب وانعكاساتها على حركة المجتمع العراقي في الثمانينات" .
- وعن الحرب من زوايا ترواح بين التمجيد وبطولة المقاتل العراقي وشهادته إزاء جبن العدو وخسته كتبت الكثير من المجموعات القصصية والروايات لكتاب معروفين وكتاب شباب من بينهم : علي خيون، عادل عبد الجبار، وارد بدر السالم، محمد الجزائري، جواد حطاب، جاسم الرصيف وفيصل عبد الحسن.
- بالنسبة للشعر أختلط مديح القائد " بروح المعركة وما يخوضه العراق من حرب عادلة " ففي الصفحة الثقافية لجريدة الثورة المؤرخة 15/2/86 نقرأ دفعة واحدة خمس قصائد عن الحرب. ينشد عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدة " رجز في المعركة " ياجند صدام، بصدام إنتخوا / أخ إذا ما أعسرت، نعم الأخ / لا تتركوا في الأرض صلا ينفخ / فهم إذا دبوا بأرض افرخوا . وتقول ماجدة الموسوي في قصيدة " قطعت يد الظالم " : حين اشتد وطيس الحرب / صدح العشاق جميعاً / بأسم واحد/ صدام سنوفي العهد . وكتب الشاعر زاهر الجيزاني قصيدة " سقوط " : سقط الخمينيون / لا دبابة نفعت / ولا أرتالهم وصلت / وماتوا قبل أن يصلوا . وكتب غزاي درع الطائي " موعد مع جواد عراقي " : ومن يوم آدم كان العراق بيهياً / وكان تقياً / وكان عظيماً / وكل الذين يمدون سوءا اليه/ يموتون موتاً أليما ً . وكتب كمال الحديثي " ويدّعون إنهم عرب " : يدّعون إنهم عرب يشترون بالدماء مجدنا/ ويشربون نخب كسرى وهو يزجي بالحشود/ في دروبنا/ ويشربون كل نخب للمجوس/ والمجوس يشعلون النار/ في أبوابنا .
- في كتاب الشعر في زمن الحرب لـ دز أحمد مطلوب الصادر في بغداد عام 1987، نشر الباحث قائمة بأسماء 49 شاعرا عراقيا تغنوا بالقائد وبطولة المقاتلين وكتبوا الدواوين والملاحم والتمثيليات الشعرية عن " قادسية صدام" ولعل الملحمة التي تستحق دراسة وافية بحد ذاتها قصيدة : الحرب : لياسين طه حافظ. وواضبت وزارة الثقافة والأعلام في الثمانينات على اصدار مجموعات شعرية بعناوين مثل " القائد في ذاكرة القصيدة" و " اغنيات الحرب" و " لماضينا نغني لمستقبلنا نطلق الكلمة" وهو نفسه شعار مهرجان المربد . كما تم تأسيس مسابقة " قادسية صدام " للرواية والقصة القصيرة وتخصيص جائزة صدام للأداب .
وقد أوقعت الحرب العراقية الأيرانية الأديب العراقي والعربي في متاهة الحيرة والتخبط في إتخاذ موقف واضح من حرب وصفت بأنها " عملية غزو غادرة يدافع فيها العراق عن وجوده " . وبدا العديد من الأدباء العراقيين والعرب في داخل وخارج العراق وكأنهم يحملون بين أصابعهم بوصلة معطوبة قادتهم الى دروب تتنافى حتى مع مواقفهم ومبادئهم الخاصة. فها هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش يصف الحرب بأنها " تجديد لمشروع الأمل العربي " (13). ولا عجب أن يسبقه بصوت غاضب الشاعر الرقيق رشدي العامل في عمود سماه " أنه الوطن " قال فيه :" لا غفران لمن يواصل النوم ، عبر حلم جميل، عندما تدوي طلقات الغزاة في أرض العراق .. عراقنا . لا غفران للجندي ترتخي يداه ولا للأمر تفلت أعصابه ولا للعامل يتوانى ساعده ولا للشاعر تصمت حنجرته عندما يكون وطننا حلما طائشا في عيون الغزاة " (14). ثم كتب بعد أسابيع ما يشبه الإجابة إما على لوم قد وجهه اليه أحدهم أو تبريرا ذاتيا لما كتبه سابقاً، عموداً بعنوان " أجل أني منحاز " :" إن المرء يفهم أن يركن أديب ما، فنان ما ، الى عزلته، عندما يجد في سكينة العزلة وهدوئها غذاء لعمله الأبداعي، وأن يهاجر داخل نفسه حين يرى في هذه الهجرة الداخلية تعويضاً عن أحلام مستحيلة . غير إن الشئ الذي لم أستطع أن أفهمه وأظنني لن أستطيع فهمه، مهما حاولت أيجاد تبرير له ، الركون الى مثل هذه العزلة عندما يكون الوطن في خطر.. وفي هذه الأيام حيث تبدو المعركة أكثر شراسة، أشد وضوحاً، أشد زخماً ضد الغوز الأيراني، فأي عذر للصامتين ؟ ليست هناك كلمة يقال لها الحياد في هذه المعركة اللاهبة .. اللهم إني منحاز" (15) .
في الوقت نفسه يتساءل السارد في قصة " حكاية قديمة" لمحمود الجنداري قائلاً :" أيوجد ما هو أقسى من أن يقضي المرء عمره كله شاهد حرب ؟" ومع الجنداري تعالت في فترة أقتراب الحرب العراقية الأيرانية من الأنتهاء همسات أدباء ضمرت فيها نبرة البطولة الخارقو والفروسية العربية ضد الفرس المجوس. إنها أصوات باتت ولأسباب عديدة عاجزة عن مواصلة رسم صورة زاهية الألوان لحرب لم يتحقق فيها النصر القومي خلال أيام معدودات . حرب حل من جرائها في كل بيت عراقي تقريبا قتيل أو هارب أو معطوب .
وانطلاق هذه الهمسات الإنسانية وأسبابها ومظاهرها ، بأساليب أدبية ونوعية مختلفة دفعت البعض الى المقارنة النوعية بين أدب الداخل والخارج ومنحت أدب الداخل صفة " الأدب الحقيقي المستند الى المعاناة الإنسانية " ، هذا كله يستحق البحث بأسلوب نقدي تفصيلي ، الا انني أظن بأن كتابة جملة إنسانية أو بيتا شعريا أو قصيدة أو قصة قصيرة عما سببته الحرب من دمار بأسلوب أدبي جيد أو رواية رمزية شعرية عن النزول الى العالم السفلي أو سرد سيرة مدينة، لا يشكل ظاهرة ابداعية تعمم على الأدب العراقي في الداخل . إنها في أحسن أحوالها كتابة فردية مراوغة توفر الأمان لصاحبها ولا تلحق الأذى بالسلطة. إنها كتابة تقف مع وصف الظاهر ( خراب الحرب ودمارها ) فتغطي به على المعنى ( مسؤولية الحرب ، معناها، جدواها، قمع السلطة وشموليتها) إنها من نمط الكتابة التي وصفها د. حسن حنفي في الثقافة السياسية قائلاً :" يستطيع الأديب إستخدام الرمز في الرواية والقصة والمسرحية والشعر .. ويستطيع المفكر أن يترجم ويشرح ويعرض أفكار الأخرين وأن يتحدث عن لسان الفلاسفة وناقل الكفر ليس بكافر . ويستطيع الفيلسوف الأكتفاء بعالم المثال دون إعطاء الأمثلة في الزمان والمكان ، وأن يعبر عن المعاني الخالصة دون الوقائع المتعينة خطراً على السلطة ".
وعن الأسطورة والحكايات الخرافية ورموز وادي الرافدين، فيمكن أن نذكر جبرا إبراهيم جبرا كأفضل مثال ، إذ كتب عن بابل ونبوخذ نصر راسماً صورة قائد تتماهى مع صورة صدام حسين بأعتباره " الملك الشمس – وهو القائد الذي لم يخسر معركة طوال حياته " (16).

التراث- الصوفية – الشهادة- اليوتوبيا
حرب الخليج والحصار

أصدرت وزارة الثقافة والأعلام في جريدة الثورة بتأريخ 6/11/1993 أعلانا جاء فيه: " تدعو لجنة تدوين التاريخ الإنساني والأدبي للحرب الذوات المدرجة أسماؤهم أدناه للحضور الى مبنى الوزارة في تمام الساعة 11 من صباح يوم السبت وذلك من أجل التداول في الصيغة العملية لتنفيذ أمر السيد الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه بتدوين التاريخ الإنساني والأدبي للحرب في قادسية صدام المجيدة" . وضمت قائمة الكتاب والشعراء 78 إسماً . فأي من النتاجات الأدبية الصادرة بعد هذا التاريخ هي تنفيذ لأمر السيد الرئيس؟ ومن من الكتاب قدم نتاجا عقائديا خالصا وتجديديا حقيقيا؟ ومن من الأدباء استخدم الرمزية والصوفية لأنه اختار استخدامها ومن منهم اعاد تقديم التراث وفق رؤية جديدة أو لأداء غرض مزدوج يجمع بين حماية النفس ومواصلة النشر وتولي المراكز والمناصب " الثقافية " أحيانا ؟
- تقول الكاتبة لطفية الدليمي " والى جانب الأستفادة من التراث الصوفي استفدت في صياغة النص المعاصر وتجربة القص من الموروث البابلي والسومري .. وفي مواجهة التعامل المستند الى موقف انثروبولوجي حيث تنظر الذائقة الغربية الى ثقافات وأداب الشعوب الأخرى والعربية بوجه خاص بأعتبارها تمظهرات فولوكلورية كان لابد من السعي لأنجاز نصوص إبداعية تمتاز بخصوصية مرجعياتها . " (17)
- أشار سليمان البكري الى موضوعة الشهيد التي تناولها الكاتب العراقي خلال الثمانينات " وفي غمرة من يقين تمسك به المبدعون العراقيون تحولت هذه الموضوعة في العديد من الأعمال القصصية والروائية الى طقس إبداعي طبيعي جداً في عودة الشهيد الى الحياة ثانية يمارس الحياة العادية ويقضي اجازته بين أهلة وأصدقائه ليعود ثانية الى موضعه في خطوط الجبهة لمقاتلة العدو." ملخصاً رواية " مدينة البحر " لناجح المعموري : " حدثها مختزل يتحدد بين وصول جثمان الشهيد الى القرية ودفنه فيها. وقد استثمر الروائي زمن وصول الجثمان ليجمع سكان القرية في تناول ملحمي لأستقبال الشهيد وتأكيد القدرة البشرية على تجاوز الموت " (18).
- من بين الروايات الصادرة في التسعينات أيضا رواية " في ظلال المشكينو" لأحمد خلف عن مدينة عجائبية اخترعها الكاتب، تقيم بروحها في أرواح المدن المنكوبة على مر التاريخ ، و " رجل من المحاق " لغازي العبادي عام 1997 وفيها يكتشف البطل بأنه أنثى تقبع في جسد ذكر زائف ينهي عذابه عبر موقف انتحاري مع العدو في حرب شكلت خلفية مباشرة للأحداث ، و " سابع أيام الخلق " لعبد الخالق الركابي 1994، وتدور أحداثها في مدينة خيالية مفترضة تحمل إسم الأسلاف ، على حد تعبير الكاتب (19) ، والمجموعة القصصية "مصاطب الألهة : لمحمود الجنداري الذي توفي يوم 14 تموز 1995، والتي كتب في أولها إضاءة تقول : الأسطورة والنص القصصي الحديث ".
- بالنسبة للشعر أسست وزارة الثقافة والأعلام سلسلة اصدارات شعرية تحت عنوان " ضد الحصار الثقافي ". من بين الدواوين التي صدرت :" غيمة الصمغ " لعدنان الصائغ و " حداداً على ما تبقى " لعبد الرزاق الربيعي و: مزامير الغياب " لدنيا ميخائيل . عالجت الدواوين الثلاثة موضوعة الحرب وما تخلفه من خراب وتدمير.    ( يمكن الرجوع الى قصيدة رائعة لدنيا عنوانها  " ح.ر.ب" في نصوص من المشهد في هذا الملف ص      ) .
ووصف الناقد مصطفى الكيلاني تجربة الشعراء الثلاثة بأنها " تحويل فوضى الحرب الى لغة وبناء وخبرة جمالية تكتب وتقرأ " .  
وقد برزت في التسعينات ، داخل العراق ، نغمة القاء اللوم الكلي على الحصار في كل ما يجري من مصائب وكوارث ، وساهم المقفون من خلال تعريتهم للنتائج اللانسانية للحصار في تطهير أنفسهم والسلطة الشمولية من تحمل أي مسؤولية محتملة . ويلخص الناقد حاتم الصكر في مقبلة معه ( أخبار الفن 97 ) الجو العام قائلاً ( الحصار وما حدث بسبب ماعرف بحرب الخليج وما تبعه من آثار مدمرة طالت الثقافة بشكل قوي ) مستعيداً بحسرة أياما وردية مضت : ( وقد أدى النشاط القافي العربي في العراق قبل 1990 الى أن يتحمل المقف العربي مسؤوليته في بلورة الفاعلية الثقافية نقداً وشعراً وقصة وفنا تشكيليا ) . من زاوية أخرى تصور رواية " صراخ النوارس" لمهدي عيسى صقر زوجا يعود من القتال معطوب الروح والجسد ، فنسمع الهدير المكتوم لماكنة الحرب بين السطور في هلوسات الزوج وهذياناته ومناجاته لربه، ونرى زوجة فاتنة ترغب بالخلاص من زوج أفقدنه الحرب وسنوات الأسر عقله وقدرته على ممارسة الجنس والعيش كرجل . ويقول الكاتب " كان بودي أن أنتزع الأحساس بالمرارة والأسى من خلجات العيون التي أراها من حولي وأجعل شخوصي يبتسمون متظاهرين بالسعادة ، الا إنني لا أستطيع أن أغمض عيني عن التأثيرات المدمرة للحروب في حياتنا " ويواصل بصراحة نادرة " وكنت وأنا أكتب أشعر بوجود رقباء يكمنون لي داخل رأسي ، يحذرونني من عواقب كتابة ما تغضب رجل دين متشدد أو رجل أخلاق أو سياسة . وكنت لا أكترث لهم وأنا في حمى العمل . الا إنني عند التنقيح حين يتراجع اللاوعي ويعود العقل البارد يفرض كامل سيطرته على الأمور ويتحسب للأخطار المحتملة التي ربما تسببت بها كلمة بريئة واحدة فأنني عندئذ أشطب جملة هناك وعبارة هناك لكي لا يضطر أو ربما يرغم القلم على التوقف فيما بعد ". (20). في ظل ضرف مثل هذا : هل بأمكان الأديب التجديد حقاً وهو سجين الأستدعاء على حين غرة للكتابة عن موضوع محدد دون غيره؟ وكيف ينصرف للأبداع الحقيقي وهو رهينة أيديولوجية شمولية تدعي وفق تعريفها حق أمتلاك المعرفة ووضع صورة نمطية معينة وقالب يتوجب على كل المجتمع التطابق معه ؟!.

المصادر:

1. " نزعة الحداثة في القصة العراقية د.محسن جاسم الموسوى ص 17.
2. أستخدمت مصطلح الخمسينات والستينات تسهيلاً للأمر أكثر منه لوضع حدود فاصلة بين جيل وأخر لأن التداخل في النتاج الأدبي أكبر من أن يفصل بعقود .
3. جريدو " أخبار الساعة المصرية " 1953.
4. الواقعية الاجتماعية النقدية في القصة العراقية" مؤيد الطلال ص89.
5. مقدمة فاضل العزاوي لكتاب" انفرادات الشعر العراقي الجديد" اختيار توثيق    وتقديم عبد القادر الجنابي – 1993، ص6
6. جريدة الحياة اللندنية 8 آب 95
7. أنظر 3
8. مجلة الكلمة 1970.
9. مجلة الأقلام العدد 4 1972.
10. هوية ما بين النهرين في العراق البعثي مجلة دراسات شرق أوسطية بقلم اماتزيا بارام،  اكتوبر 83.
11. "تموز شهر العسل " جميل روفائيل، جريدة الثورة 17تموز 1979.
12. " الفن والحلم والفعل" جبرا إبراهيم جبرا ص 52
13. جريدة " الثورة" بتاريخ 2/3/86
14. جريدة " الثورة" بتاريخ 214/2/86
15. جريدة " الثورة" بتاريخ 29/3/86
16. أنظر 12
17. لطيفة الدليمي: " استفتاء سؤال الرواية في العراق" مجلة الأقلام العدد 7-8 1993.
18. مجلة الأداب العدد 5/6 1997.
19. التجريب اسلوبا ودهشة – عبد الخالق الركابي الأداب العدد 7/8 1997
20. عذاب الكتابة الممتع ، مهدي الصقر ،الأداب 7/8 1997.


(*) نشرت في صحيفة "القدس العربي" ع – لندن
(*) نشرت في مجلة "تموز" - مالمو
 
البحث Google Custom Search