أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
قراءة:

نشيد أوروك
تهجداتُ أسئلةِ الكيان....

ماجد الشرع
- النجف - العراق

الكتابة داخل موشور

الشاعرُ مسكونٌ بالأسئلةِ الفاتحةِ لأسرار الكون ولمصير الإنسان, الأسئلة المؤسسةِ لما هو آتٍ من الضوءِ والمستقبل... أو لِما هو آتٍ من المواجهة ضد سائر أشكالِ الانحطاطِ والاستلابِ والموتِ والدمار!!..
والشاعرُ الرائي.. الشاعرُ القابضُ على جمرةِ الإبداع شاهدٌ على تناقضات الوجودِ, وانكسار أجمل القيم الإبداعية والإنسانية في عالمٍ يسودهُ القتلُ والحروبُ والمجاعاتُ وغيابُ الحرية... وبالتالي غياب الإنسانِ المختلف مع السائد النمطيِّ
إن وعي الشاعر بأوجاعِ عصرهِ يضعهُ في مواجهة الحقيقةِ المغيبةِ وراء حُجبٍ رهيبةٍ من المحضور والمقموعِ!!..
ولذا يرى أدونيس نهاية الكلمة/ الغاية: "لقد انتهى عهدُ الكلمة الغاية, وانتهى معهُ عهدٌ تكونُ فيه القصيدة كيمياءٌ لفظية, أصبحت القصيدةُ كيمياء شعورية, وأقصدُ بالشعور هنا حالة كيانية, يتوحدُ فيها الانفعالُ بالفكر, القصيدة الجديدة تركيبٌ جديد يتعرضُ فيهِ, من زاوية القصيدة وبواسطة اللغة, وضع الإنسان المعاصر." (1)
وإذن فالشعر ليس حالةً تزينية أو زخرفاً لفظياً يُزيّف الأشياءَ, ويعطلُ جوهر تناميها وفاعليتها بتراكيب وصياغات جاهزةٍ ميِّتة قد أكل الدهرُ عليها وشرب!!
الشعر ترجمة الأعماقِ.. ونقلُ الممكن إلى فضاءاتِ اللاممكن.. إنه السيرُ حثيثاً إلى معانقةِ الأشياء في طفولتها الأولى, بعد أن يُقشر الشاعرُ, أو يعري, تراكماتِ الصد أو الرماد, ويأخذ الشعرُ بُعداً ثورياً بوصفه عنقاء الحريةِ الأكثر ارتباطاً بمستقبل الإنسان وهمومه ومصيرهِ ليطلقها في فضاءاتِ أُفقٍ لا نهائيّ
إذ أنّ من سمات الشعر الحقيقيّ تغيير العالمِ, وتحويل قيمه وقواميس بنيتهِ التكوينيةِ لا سيما بعد أن تكون (المحافل/ المزابل) وأيدي الجلادين والطغاة قد عبثتْ بسمفونية الحياة للحدِّ الذي كرّستها رديفاً لوعي زائفٍ تحتمي وراءهُ عروش وكروشٌ وسماسرةُ حروبٍ وقهرٍ وقتلٍ...

"في المحافل.. أو في المزابلْ
في الأغاني التي كرزتها الاذاعاتُ
في حجر القحطِ يجرشُ ضحكَ السنابلْ
في دروبِ الصحافةِ, في اللادروبِ, الغروب الذي سالَ أو مالَ
مَنْ قال إن القصيدة لا تنتهي في جيوبِ المقاولْ.." (2)

يضعنا الشاعر عدنان الصائغ في (نشيد أوروك) أمام نسيج شعريٍّ هادرٍ يعري ويفضحُ تراكمات الزيف والانحطاط, حيث يرسمُ لوحاته الرؤيوية بعلاقاتٍ متعددةٍ منصهرةٍ في بنية النص, ومنها الابتداء بعلاقات الجار والمجرور ليهيء ذهنية المتلقي – بوصفه مستقبلاً – لما سيجيء من فضح وطرح جريء وكشفٍ للمُعمّى المغيّب, الذي طالما مُورسَ في غفلةٍ من الإنسان والحياة والزمن...
تتحرك القصيدةُ/ النص الملحمة/ في غابة من الرموز والدلالات العميقةِ التي استمدت من الحضارات البابلية والسومرية والتراث العربي الإسلامي والإبداع الإنساني العالمي...
داخل موشور الإحالات تتعدد تقنيات السرد لتشكل فضاء نص مركبٍ ومتشابكٍ, وتظلُّ لغة الشعر متوهجة مُشبّعة بطاقة الإيحاء والفاعلية, فلم تفقد نظارتها كما يحصل غالباً في النصوص الطوال ذوات البعد الملحمي لتعلو المباشرة الفجّة والتقريرية المجدبة. إن اشتغال الذات بتلاوين الأساطير والرموز تنبثقُ منه دلالاتٌ جديدة لم تكن معروفة من قبلُ كأنما ألقى بها الشاعرُ في فضاءٍ جديدٍ خارج حقلها القاموسي أو إطارها الأسطوري المعهود. وجرّاء هذا ينشأ من تركيبة النص اللاتناظر بين النص والقاريء كما يسميه إيزر في نظرية التلقي RECEPION THEORY  حيث أن اللاتناظر يشتمل على انحرافين عن المعيار, في الانحراف الأول لا يستطيعُ القاريء أن يختبر ما إذا كان فهمهُ للنص صحيحاً. وفي الانحراف الثاني لا يكونُ هناك سياقٌ ضابط بين النص والقاريء من أجل تأسيس المقصد فلا بدَّ للقاريء أن يشيدَ هذا السياق من الخيوط أو الإشارات النصية. (3)
وبناءً على ما تقدم فلا معنى للبحث عن الصوتيم المهيمن في نصٍ مركبٍ متشابكٍ ذي نفسٍ ملحميّ حُرِّ الإشارة كما هو (نشيد أوروك) لأن الصوتيم المهيمن كما عبّر عنه الغذامي في كتابه تشريح النص بأنه: "الذي به يكون النص أو لا يكون, وباقي العناصر هي إفضاءٌ إلى هذه النواة أو نتيجة لها" (4)
إذ أن الصوتيم المهيمن يمكن البحث عنه في نصوصٍ لا تتسم بالطول وتعدد مستويات السرد والأقنعة والتقنيات والحوار والدراما وغير ذلك مما هو في النص الملحمي... ولكن يمكننا أن نحدد الحافز الشعري الذي تعودُ إليه عظمة القصيدة كما يقول غوتيه وكولرج, والحافز الشعري هنا:
1. الحرب والدمار
2. غياب الحرية
3. الفقر
4. الزيف

الخاص مرآةٌ للعام

(نشيد أوروك) قصيدةٌ خرجتْ من رحم الأحزان الكبيرة!!.. ومن الوجع الرافديني بكلِّ مفاصله فكرياً وسياسياً وثقافياً... وتلوّنتْ جذورها بألوان هذا الوجع المتشظي... لكنها لم تقع أسيرة همٍّ أحادي الجانب, بل نسجتْ أبعادَ الرؤيا بعمقٍ لتتفاعل مع قضايا الإنسان في عالمنا المعاصر, حيث بدا الشاعر شبيهاً بجرّاحٍ يُشرِّحُ جثة عصرٍ من الكبت والزيف والألم... في قصيدة الشاعر الصائغ أصبح الهمُّ جماعياً شمولياً كونياً, فخطاباتُ الجوع, والقتل, والنفي, والحروب... لا تخصُّ إنساناً دون إنسان, والذي يختلفُ هو درجة الاستجابة لمشاعرنا ووعينا وإحساسنا أمام هذه الثنائيات القائمة في الواقع الراهن:

"في الطريق لعينيكِ / أوقفني الرجلُ الجمركيُّ / وفتشَ قلبي ومحفظتي / لم يكن في دمي غير خارطةٍ للعذابات / لم ترها عينهُ الزئبقية /
- والله يا سيدي انها صورتي/ ناحلٌ كالقطارات في البردِ / متشحٌ بالتشردِ والمفردات اللعينةِ / يا ليتها تعرفُ الآنَ أيَّ المخاوف تقتسمُ القلبَ – هذا المجوَّف - / كالطبلِ هذا الكسير أمام وجوم المفوّض / والله يا سيدي إنّها.../ كان وجهي خلاصة جوع المدينةِ / كان صديق الكلاب التي قاسمتني / فتاتَ المزابلِ والبردِ..." (5)

في نشيد أوروك, ينبعثُ الخاصُ ليتشحَ العام مرآةً يتشكلُ على أفقها عنقودُ الصور الشعريةِ, وقد ذكر بعضُ الفلاسفة وعلماء المنطق أن الخاص لا يكونُ كاشفاً عن العام لأنه ليس وجهاً وعنواناً له.
ولكن في القصيدة تنقلبُ هذه القوانين الفلسفية, حيث إن الخاص في قصيدة الصائغ ليس هو الذات المغلقة المتحجرة في صنميتها داخل قفص ضيّقٍ...
في قصيدة الشاعر الخاصُ يلبس العام ويكون وجهاً وعنواناً له, لأن الأنا – أنا الشاعر- تتشابكُ وتتفاعلُ وتتقمصُ ماهيات كونية وأخرى ميثولوجية مبثوثة في حنايا النص.. مما يفسحُ لرؤيا الشاعر أن تسبحَ في عالمٍ بلا حدودٍ من الظلال والألوان والرؤى...
(الأنا) في نشيد أوروك هي (أنا) حضارية تفتحُ ذراعيها لتحتضنَ خلاصة الهمّ الإنساني..

الزمنُ الميتافيزيقي في النشيد

تتحرك القصيدة بحركةٍ إنبثاقيةٍ بين زمانين شرسين, الزمان الماضي, وهو ماضٍ أثيمٌ, والزمان الحاضر, وهو حاضرٌ مخربٌ! وكأنهٌ مدارٌ يفضي إليه أو نتيجة حتمية لكل جدل الماضي الملتهب على الأرض وقد بقيتْ انتقالات الشاعر بين هذين الحدين الحرجين, انتقالات رشيقة دلّتْ على امتثاله بعمق أمام جمرات التكوين, حيثُ تنصهرُ البنياتُ المتنافرة والمتضادة في جسد القصيدة/ الملحمة/ انصهاراً عضوياً دائرياً متنامياً في نسيج إشاريّ حرّ الدلالة...
إن أنفاس الشاعر مكبلةٌ بحسِّ المرارة والفجيعة.. وكيف لا تكون كذلك والشاعر مشدودٌ إلى أرضه ووطنه بحزنه المرير والطويل!! لكننا وسط سيل من الفجائع والنكبات لا نعدمُ أن نلمحَ ضوءاً يلوحُ في الأفق, إنه الضوءُ/ البشارة القادمةُ من أعماق الموت والانكسارات يقول الشاعر:

"من طحين القنابل نصنعُ خبزَ الحياة الشهيِّ
ونحلبُ هذا السراب, جروحي مسيجةٌ بالكريستال
تضوي أمام السياج بحكمتها
كلُّ موتٍ يُجذرني بالحياة..." (6)

فالموت بكثافتهِ الرمادية يتحول إلى نسغ مضيء يتحدّ الإنسان/ المقهور بولاداتٍ أجملَ من هذا الخراب المدلهم...
إنها صياغاتٌ لكياناتٍ قادمة لم تنتهكْ حدائقُها الذهبية ومن قبلُ كان السياب في عمق المأساة يزجي بشارتهُ الموعودة كما في قصيدة (النهر والموت):
"أودُّ لو غرقتُ في دمي إلى القرارْ
لأحملَ العبءَّ مع البشرْ
وأبعثُ الحياة, إن موتي انتصارْ.." (7)
ويقول السياب أيضاً في رائعتهِ (المسيح يصلبُ من جديد):
"متُّ, كي يؤكلَ الخبزُ باسمي, لكي يزرعوني مع الموسمِ
كم حياةٍ سأحيا: ففي كلِّ حفرهْ
صرتُ مستقبلاً, صرتُ بذره
صرتُ جيلاً من الناس, في كل قلبٍ دمي..." (8)
بصدد فهم الحاضر وتأسيس استراتيجيات لانطلاقةٍ مشرقة غير منكفئةٍ في أسر الرتابةِ اللافاعليةِ والاجترار يعبّر ت . س اليوت: الحاضر الواعي هو إدراك الماضي. (9) وفي الصدد نفسه يقول أدونيس: نحنُ لا نبدعُ المستقبل إلا في لحظةٍ تتصلُ جوهرياً بالأمس والآن. (10)
ومن أجل هذا الحاضر البهي تبزغ رؤيا الشاعر في نشيد أوروك لتحلّق في بُعدٍ ثالثٍ أو لنقلْ في زمنٍ آتٍ, هو زمن المجابهة:

"أجابه بالشعر
برابرة العالم
أيًّ مدائنَ
أنقلُ فيها قلبي.." (11)

طرائقُ السردِ في أركيولوجيا العُمق

ضمنَ انكساراتٍ لمصائد وجودية في أركيولوجيا تحثُّ الخطى لنبشِ طبقات العمقِ/ المقهور/ المغيَّب/ المسكوتِ عنهُ/ .... يجسُّ الشعرُ الطبقات الأكثر سرية وقسرية في هيولى الكيان عبرَ احالات دلالية ونفسية تارةً, وتراثية حضارية رمزية تارةً أخرى, يؤديها الشاعرُ في مستوياتٍ من السردِ المتوهج:
المستوى الأول (الراوي كلي العلم) OMNISCIENT POINT OF VIEW   نلاحظ في هذا المستوى من القراءة, أن الراوي/ السارد يملكُ حرية الحركة والتنقل بين مختلف عوالم الشخوص, حيث المجال الواسع للحركة ولصياغة أدوار هامةٍ دون التقيد بزمان أو مكانٍ معينين.
المستوى الثاني (الراوي الثقة والراوي غير الثقة)
RELIABLE AND UNRELIABLE NARRA TORS          
لقد اعتمد الشاعر هذه التقنية تبعاً لتشعبِ الحقائق والمعارف التي يجترحُها النص الملحميّ لا سيما وهو المأخوذ بمحاكماتٍ لمواقف مزيفة ومضللةٍ, مما أدى به إلى تشظيةِ السرد بين راويين, الأول ثقة يكشف ويعري, والآخر يحاولُ التمويه والتغطية على الفضائح وهذا جدلٌ محتدمٌ يطالعنا به الشاعر منذُ البدء.
المستوى الثالث (طريق الاسترجاع) FLASH BACK  
في هذا المستوى يقطعُ الشاعر تسلسل الحدث الزمني ليقدّم خلاصة لحوادث حصلتْ في الماضي كمرجعية إضافية تعيننا على تتبع الحدث ومجريات الأمور وظّف الشاعر بمهارة تقنياتٍ سردية أخرى كالمونتاج والدراما والحوار والكولاج وغيرها ليقدّم في نشيده الحقيقة وظلها/ والصوت وصداه معاً... ويظل نشيد أوروك شهادةً ابداعية هامة على عصر تعلفهُ الحروب والدكتاتورية, عبر نشيده يتقدّم الصائغ كشاعرٍ ذي رؤيا تكسرُ المألوف في الخطاب الإبداعي العربي.. إنها رؤيا ما هو كائن لِما سيكون!! وسط أمواج الأسى ظلّ الشاعرُ محتفياً بوردة الضوء وهو يكتبُ نصّه الجميل, وبالتفرد ينحتُ الشاعرُ نشيداً من أناشيد البقاء...

هوامش:

1. أدونيس, زمن الشعر, ص21 دار الآداب, بيروت 1971
2. عدنان الصائغ, نشيد أوروك ص5
3. انظر قول إيزر في نظرية التلقي, تأليف روبرت هولب, النادي الأدبي الثقافي بجدة, 1994
4. عبد الله الغذامي, تشريح النص, ص92 , دار الطليعة, بيروت
5. نشيد أوروك, ص125
6. نشيد أوروك, ص 122
7. السياب, قصيدة (النهر والموت) ديوان السياب, دار العودة بيروت 1971
8. السياب, قصيدة (المسيح يصلب من جديد) ديوان السياب, دار العودة, بيروت 1971
9. ر. أ . سكوت جيمس, صناعة الأدب, بغداد 1986
10. أدونيس, زمن الشعر, ص 95 , دار الآداب, بيروت
11. نشيد أوروك, ص 185

نشيد أوروك أو هذيانات جمجمة زرقاء, قصيدة طويلة للشاعر عدنان الصائغ, صدرت عن دار أمواج في بيروت – لبنان 1996 .


(*) نشر في موقع "كتابات"  15 آيار 2004
 
البحث Google Custom Search