أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
مرثية الأزمنة – بيان الوجع والجنون

إطلالة سريعة على نشيد أوروك – القصيدة الطويلة لعدنان الصائغ
إصدار: دار أمواج – بيروت

صلاح أحمد
السويد

تبدو الكتابة عن شاعر مثل عدنان الصائغ جنوناً أو تخبطاً في العتمة .. كون شعره، بكثافته الجمالية والصورية حد الرعب أحياناً. عصياً على المتابعة والرصد، لما ينطوي عليه من تراكمات الأسى والمعاناة .. خالياً من ومضات الفرح .. تتشابك فيه المتناقضات المسكونة بالقيح والجراح والعفن، يجسد ما أعتور تأريخنا الحزين من امتهان واستهانة بالأنسان، حين ديست إنسانيته .. واستبيحت كرامته.. واستهلكتها عجرفة الحاكمين، وسياط جلاديهم .. والأصعب أمام الكاتب أن يقترب من قصيدته المتميزة "نشيد أوروك الصادر عام 1996". ذلك أنها مسكونة بالمشاهد المأسوية والرؤى الكابوسية، راصدة تاريخ الإنسان العربي طوال قرون بعيدة .. وما رافق مسيرته من عسف وهوان وسحق لآدميته .. واهدار لدمه .. وتصفيات لوجوده .. وكبت لصراخ عذاباته.
نشيد أوروك – أولاً وآخراً – ملحمة مزدانة بالدم والانتهاكات والأوجاع. خلل سرد تاريخي، سياسي .. وحكي عن الإنسان في كل العصور ..
وأقول بصراحة إني – بعد الانتهاء من قراءتها – غشيني التعب واضطرب عقلي ومشاعري وأحسست أن كل العروش فوق هذه الأرض.. من أقصاها إلى أقصاها شيدت فوق الجماجم .. واهريقت من حولها أنهار من الدم الزاكي .. قلت مع نفسي: ماذا سيقول الأوربي عندما يقرأ هذا السفر الدموي وهو الذي يرتعش لمرأى طائر مكسور الجناح .. أو حيوان صغير يعرج في مشيته .. هذا ما يتظاهر به في الأقل .. فيما تعرض أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة حالات من الجرائم البشعة .. وهدراً مستمراً لحقوق الإنسان في أوطان العالم الثالث.
وحين تعرض "نشيد أوروك" أبعاضاً مما جرى ويجري من أحداث دموية وانتهاكات فأنها في الوقت ذاته صيغت صياغة شعرية عالية الإداء، رفيعة التعبير. فضغطت تأريخنا الدموي خلل 198 صفحة، وألحق بها هوامش طويلة فيها إشارات واقتباسات واستقدامات شعرية ونثرية (دينية، فلسفية، صوفية، سوسيولوجية، جغرافية .. الخ) كل ذلك يؤكد أن نشيد أوروك ليست نزهة ماتعة يعبرها القارئ من أجل المتعة والترف الذهني، بل عليه أن يتسلق القمم والمسالك العالية، ويخوض القفار والديار والبيد والغابات عابراً فوق الجمرات والأشواك والسكاكين والجليد وتمتلئ سمعه وبصره بدوي الصراخ .. وصور كابوسية لا عهد له بها. لأن الصائغ في قصيدته هذه قلب الدنيا ولم يقعدها بدءاً من صفحة 5 وصولاً إلى صفحة 198 .. ولم يترك لحظة أو صورة .. أو واقعة مرّت بباله، أو ستمر إلا ورماها فوق الصفحات .. وكأنك لا تقرأ شعراً .. وإنما تقرأ يوميات كُتبتْ بالجمرات وبالسكاكين .. وخلال درامية الحدث يحترق الشعر والناس والزمن والأشياء والأفكار والتواريخ .. كأن حنجرة الصائغ بركان هادر قذف كل تلك الحمم اللاهبة.. وأقول مرة أخرى أن الكتابة عن هذا العمل ضرب من اللاجدوى.. ذلك أن محتوياته وحدها تستطيع الحديث عن نفسها بأمانة أكثر من أي كاتب .. والحزن سيد الموقف يغشى جميع الصفحات .. فالصائغ أعاد علينا تفصيلات الأهوال التي عاشها بنفسه، وقرأها في متون الكتب أولاً بأول، ولا أحد مثل الشاعر مسكون بالوجع يعبّر بحق عن واقعية الألم:
(في المحافل .. أو في المزابل .. ص5) ماذا سيحدث ؟! وتساوى لديه المحفل والمزبلة .. وكلاهما مخزن للعفونة .. عفونة النفوس من رياء وكذب وتدليس وتلبيس .. وعفونة المزبلة حين يعرو محتوياتها العفن والفساد فلا تجمع حولها سوى المرض والدود والذباب .. وحين يستمر .. (في الأغاني التي كرستها الإذاعات…/ في حجر القحط يجرش ضحك السنابل/ في دروب الصحافة .. في اللادروب ../ الغروب الذي سال أو مال../ من قال أن القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاول /.. في مقص الرقيب..) يتذكر أن شبه الجملة – الخبر المقدم – في حاجة إلى المبتدأ .. ويضيف:
(كلب سيقعي على ما تبقى من الورد..) وكأني به نسي قلمه .. وجعل يكتب بالسكين جارحاً وجوه الصفحات .. والكلمات .. وقلوبنا .. وبنفس الهاجس يفتح الصائغ جروحه الراعفة أيضاً ليبين عمق وفداحة تألمه سواء حين كان في الداخل .. داخل الجحيم .. أم في أحضان المنفى .. وإذ نجتاب صفحات القصيدة – الملحمة – أو المصيدة التي تلتهم القاريء وتقرؤه – ننغمس في طمي الظلمات .. فكأن الأقدار شاءت للإنسان العربي أن يعيش داخل دوامة اليأس والاستلاب والاغتصاب والمهانة حتى أفرغه الحكام الظالمون من إنسانيته (كل يغني على ليله، وأنا في مديرية الأمن كنت أغني على كل ما مر. ص197) .. وتزدحم ثنيات القصيدة بإرهاصات الغربة والمنفى، حيث القلق والخوف .. والمجهول .. (حتى إذا أورق الفجر/ فوق غصون المصاطب/ ودعتني/ ومضيت وحيداً لمنفاك، تنشد في الريح منكسراً مثل ناي غريب/ أماناً بلادي التي لن أرى .. ص198) وفي وسع القارئ أن يكمل بقية الفقرات ويضيف إليها ما يحلو له .. فحياة المنفى برغم مظاهرها اللامعة .. هي سجن آخر يساق إليه مختاراً.
هكذا ابتدأ الصائغ جحيمه بالمحافل والمزابل .. وأنهاها بـ (أماناً بلادي التي لن أرى ..) وبين المبتدأ والختام يصرخ الصائغ حتى يهتريْ صوته، ويجرح حنجرته كونه الشاهد على امتهان الزمن والإمعان في سحق إنسانه النبيل .. (ماذا تبقى من الحلم في حلمتها/ الدموع ستنسى مناديلها/ والخريف سينسى صهيل المروج على بابها المقفلة .. ص6) – لا أدري لِمَ أنث الصائغ كلمة الباب إذا كانت بمعنى المدخل – وإذا كان للوطن عذابه ووجعه وقد يخسر الشاعر فيه حياته حين تكون الرياح ضد السفائن والسفّان .. فإن للمنفى مرارته ومهانته (خسرنا البلاد/ خسرنا الأغاني .. ورحنا نجوب المنافي البعيدة/ نستجدي العابرين .. ص6) .. ولا يني الصائغ ينتقل بنا من جحيم إلى جحيم مثلما ينتقل بنا من إقليم إلى إقليم كاشفاً عن إهدار كرامتنا. معبراً عن الحيف الذي نزل بسوح حياتنا.
(كلما سفحوا دمنا في الحروب/ نما زهر تيجانهم في السهوب ص43) وقبالة الوضع المأزوم .. المأهول بالدم والإنكسار والنكوص يعلن الشاعر هزيمته (كل الليالي تؤدي إلى حانةٍ نصفِ مطفأةٍ/ والأزقة تفضي لأخرى/ وحزن الغريب بلا خارطة/ تتصاعد روحي عند الغروب فيخنقها الأفق، لا أفق غير السماء - الرماد .. ص151) .. وإذ ينطفئ الصائغ منكفئاً مسحوقاً تبقى قصيدته وامضة مثل نجوم السماء .. وتبقى "نشيد أوروك" انجازاً شعرياً عالي البناء والإيقاع تحكي حزن العراق والأمة .. تعبّر عن تأريخنا الفاجع المزدحم بالنجيع والأشلاء والمظالم التي تأباها كل المعجمات.
(كل شيء بدد/ وما نحن إلا خيول سباق الأبد/ فلماذا ولدنا وفي عنقنا حبل مشنقة/ تأرجحنا الريح ذات المنافي/ وذات البلد .. ص192) وبرغم ما يسكن نشيد أوروك من صور قاتمة .. وشروخات إنسانية كأداء، فإن فيها وجوهنا نحن، شئنا أم أبينا .. وإذا أردنا أن نرى أنفسنا على حقيقتنا ففي هذه القصيدة – المرثاة نكمن تراثاً حزيناً، وتاريخاً دموياً، مستلبين .. منتهكين .. تشخب جراحنا دماها طوال القرون البئيسة.
(في الطريق لعينيكِ أوقفني الرجل الجمركي/ وفتش قلبي ومحفظتي/ لم يكن في دمي غير خارطة للعذابات/ لم ترها عينه الزئبقية/ والله يا سيدي هذه صورتي/ ناحل كالقطارات في البرد/ متشح بالتشرد والمفردات اللعينة .. ص125)
أخيراً .. يمكن أن نقول: نشيد أوروك سعيٌ أبدي وراء الحلم عبر ممرات الحزن وصخور الأزمنة الجارحة .. فمن أراد ارتياد عوالمها ومعالمها عليه أن يكون قوياً بما فيه الكفاية .. ويعد العدة لهذه المغامرة العصية، عليه أن يمضي قدماً وسط النار والجمرات والسكاكين والكوابيس .. ويختار أقاليم الوجع اختياراً طوعياً .. ففي القصيدة كل شيء مما يدمي ويضني سوى الفرح .. إلا أن صلابة الصور .. وسوداوية الشعور واللاشعور حملتها ايقاعات شعرية نابضة وامضة مؤتلقة تدفع القارئ الواعي إلى إعادة قراءتها مرات مرات .. ذلك أن قسوة الحدث .. ودرامية تناميه، وازدحامه بحالات إنسانية بالغة المرارة والقسوة لم يمنع شفافية الشعر والموسيقى من التدفق والإنثيال ..
وبدا الصائغ يعدل في توزيع ثنائية سيرورة القصيدة وتناميها .. سواء في الإمساك بتلابيب الشعرية الغنائية .. أو بعثرة همومه وهواجسه الكابية في جنبات القصيدة .. وكانت إيقاعات ألوانه الشفيفة قادرة على توازن المعادلة بحيث تمضي النبرة الشاعرية مع صدمة الأوجاع جنباً إلى جنب..
نشيد أوروك عمل شعري عميق يحتاج لفهم وصبر عميقين.
إنها شهادة موتنا الفاجع في نهارات الجنون والغربة والعزلة والنسيان.


(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002 النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search