أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ في " نشيد أوروك"

خارجا من لعبة الأقنعة

كريم جثير
- كندا -

[في زمان الحصار تلفت أبحث عن جثة لصديقي أضعت ملامحها في المطارات والواجهات المضيئة والملصقات/لم يكن في الطريق سوى جثتي والبلاد/حملتهما واتجهت إلى المقبرة] هذا المقطع من قصيدة ـ نشيد أوروك ـ للشاعر عدنان الصائغ، وعندما تفرغ من قراءة هذه القصيدة لا تتردد عن القول أبداً بان الشاعر عدنان الصائغ هو شاعر من طراز خاص، يقف بقامته الشعرية إلى جانب الشعراء الكبار الذين عرفهم شعرنا العراقي والعربي المعاصر، كما أنه يجعلنا نعيد النظر في مسألة الأجيال الشعرية مرة أخرى، بالرغم من أنه أبرز الأسماء الشعرية من جيل الثمانينات، كونه يتقدم جيله بمسافة كبيرة ويتقدم أجيال أخرى سبقته خاصة بعد نضوج تجربته الشعرية من خلال عدة مجاميع توجها بقصيدته الاخيرة الرائعة ـ نشيد أوروك ـ مما أهله لأن يمنح جائزة (هيلمان هاميت) Hellman Hammett العالمية للإبداع ولضحايا الاضطهاد وحرية التعبير في العالم لعام 1996م وهي المرة الأولى التي ينالها شاعر من العراق، كما منح جائزة (الشعر العالمية) في روتردام وثبت أسمه بأزميل تذكاري على الجدارية المرمرية في روتردام التي ثبتت عليها أسماء الشعراء الفائزين بهذه الجائزة منذ عام 1979م من مختلف أنحاء العالم، وبعيداً عن هاتين الجائزتين وأهميتهما التي حاول البعض التقليل من شأنهما  بمحاولة منه للتقليل من شأن الشاعر والتشكيك في مواقفه رغم أنه اكثر الشعراء الذين كانوا بداخل الوطن ممن ترددت مفردة الحرب في قصائدهم، وحاول أن يقف ضدها وضد مشعليها ضمن المساحة الممنوحة له التي كان يتحرك بينها وبالتالي ممارسة لعبة التخفي وراء أقنعة القصيدة وإمكانية التأويل للإفلات من رقابة السلطة التي ـ اصدرت مجاميعه الأولى ـ حاله حال (عبود) بطل قصيدة ـ نشيد أوروك ـ تلك القصيدة التي تستحق وحدها أكثر من جائزة. فهي قصيدة تشبه بتدفقها الشعري الأخاذ مياه شلالات نياكارا، وببعدها الإنساني تشبه بياض تلك المياه ونقائها، وقد جعل الشاعر ضوء الحرية هدى لتدفق قصيدته، هذا الضوء الذي تحاول الدكتاتورية بكل ما أوتيت من قوة حجية، جامعاً ما بين الحلم بذلك الضوء ودهاليز الظلامات ليرسم من خلالهما صورة الدكتاتورية البشعة وهي تمارس القمع والجنون وتضييق المساحة التي يتحرك عبود بينها والمحددة باللقمة التي يطاردها.
"أنها صورتي، من زمان الطفولة ـ يا سيدي ـ وأبي يسرق اللحم من لحم أيامه ثم يطعمنا لقمة بالحلال، وما كنت أعرف أن طريق الحلال يقود إلى السل يوما ، وما كنت أعرف أن أبي كان يمضي بتابوته غارقاً بالديون إلى رأسه وعويل النساء على باب دكانه.." ..
وبين الطلقة التي تهدد عبود على الدوام وتكاد أن ترديه قتيلا كلما حاول رفع رأسه

"ـ البلاد بخير
ـ وعبود
ـ في باحة السجن يرفل بالقمل والركل/ينزف من طلقة أخطأت رأسه
ـ صدفة ـ/فانحنى ريثما تعبر الروح/ أو.. ريثما يستريح الرماة/ سيطن الذباب على جرحه ويطير/يطير/ليلعق ما ظل في وجهنا من بصاق الغزاة .."

ولكن هل حقاً أن البلاد بخير؟!! وهذا ما يجيب عليه الشاعر أيضاً "وطفلي الذي لم ير الموز يكبر في الخوف والبالة الأجنبية ـ ماذا يقول لأطفاله القادمين من التيه حين يشيرون نحو الخرائط يختصمون على أسمه؟ ـ ليس لي وطن لأحن إليه ــ أهذا التراب الذي سيجوه بأضلاعنا وطن؟ ـ ليس لي عتبة لأحن إلى نخلة في جنوب الطفولة والإرجوان ـ اهذي المدافع نخلي؟ ـ"
ونشيد أوروك قصيدة تدعو لقراءتها لأكثر من مرة للوصول إلى عمق موضوعها، وللاستمتاع بلغة الشاعر الثرة بتلقائيتها الشعرية الحية، وهو يختصر بقصيدته (كل ما مر على هذه الأرض من حروب وحضارات وطغاة) خالقا عبر ذلك نوعا من التحليق البعيد الذي يجمع تحت دفتيه الأزمنة والأمكنة .. (التاريخ والأساطير والفلسفات والسحر والسير والتراث الفكري والإنساني والعقائد والجنس والأشخاص والأحداث) ليقابل به الحاضر وما يجري الآن ليقول إلى الحلم بمستقبل ينبثق منه الأمل في أن سيكون هناك زمن آخر اقل بطشاً وسوءاً ، كل ذلك يأتي عبر يوميات عبود التي تمتزج بيوميات الشاعر عدنان الصائغ ذاته:

" نحاججه بالبلاد التي دفنت نصف أبنائها/في بطون الخنادق،/ فيحاججنا بالبنادق/ويصففنا ـ فوق رقعته ـ كالبيادق/.......... أنا مشجب للحماقات.. علقت معطف عمري ورحت إلى الحرب منكمشاً كاليتيم على ظهر ناقلة.. آه يا وطناً شطبّت ظهرك السرفات. ستحني لهم قلبك المر كي يعبروك إلى الأوسمة.."

وفي نشيد أوروك يجعل الشاعر من تلقائية الهذيان واندفاعه حركة لقصيدته، ولا يأتي هذا الهذيان افتعالا، كما انه ليس ذلك الذي لا تحكمه السيطرة، أنما هو يجري بتلقائية الحزن المرير الذي لا يفارق الشاعر، وبالتالي يقود ذلك الهذيان إلى مصبات الوعي والهدف الذي وضعه الشاعر لقصيدته، مما يكشف لنا وبوضوح عن مقدرة الشاعر وثرائه الشعري وثقافته الكبيرة وذاكرة خصبة للجمع بين ذلك التدفق الذي يحتاج إلى جهد كبير وتوحد ما بين الشاعر ومشروعه الشعري الكبير هذا، كما أننا نجد ورغم ما تحمله ـ نشيد أوروك ـ من رؤى سياسية، فأنها لم تكتب بطريقة الخطاب السياسي، انما كتبت بهدوء المتأمل، العارف، وبروح الشاعر الذي يعيش يومياته الحالمة، يسطر قصائده التي نلمس من خلالها تدفق آخر يؤطر الصورة الكبرى الجارحة التي ترسمها القصيدة، حيث يحاول الشاعر أن يخفف من خلالها من وطأة ذلك، وان يضمد جراحه ـ جراحنا، ويمسح عن الشهداء دماءهم ... وإن كان كل ذلك يأتي بلغة لا يفارقها الحزن .. حزن الشاعر الممتزج بعمق الأمة..

"وداعا يا رائحة الأيام المصفرة يا طعم الأرق المنسال على الصفحات ويا .. وترددت وقفت على الجسر اسرّح عيني الدامعتين على صفحات النهر المتماوج..." الخ..

هذا وغيره الكثير ما يقال عن رائعة الشاعر عدنان الصائغ ـ نشيد اوروك ـ وأن ما تقدم لا يفي هذا الإنجاز الشعري الكبير حقه، والذي يحتاج لسبر أغواره إلى دراسة أكبر من أن تستوعبها مساحة هذه الزاوية.. فتحية للشاعر عدنان الصائغ.. شاعراً كبيراً، عاش المأساة كلها حتى العمق، وأعلن موقفه بجرأة كبيرة دون خوف و تردد راكلا كل مغريات الداخل، مرتضياً الجوع والغربة والحرمان فاضحا الدكتاتورية بصوت عال في كل مكان مما دعتها لمطاردته، مثلما تطارده الانظمة والاحزاب والشائعات و(البيانات) أينما حل وهي تحاول كبح جماح تمرده المشروع.


(*) نشرت في صحيفة "المرأة " كندا ع 17 سبتمبر 1997
(*) نشرت في صحيفة "الفينيق" – عمان/ الأردن -  1/2/1998
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002 النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search