أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
بهدوء رجاء

شاعر تأبط منفى!

عبد الستار ناصر
روائي وقاص

شاعر يعطي وآخر يأخذ.. واحد منهما يفتح الممرات ويكشف المستور.. والثاني ما يزال يكتب عن الصباح المشرق وطيور الجنة، وبين أهمية الأول وسطوة صورته وأصالة إبداعه، وبين هشاشة الثاني وعصافيره الولهانة في بيت الحبيبة النعسانة يقع الشعر في صراع حقيقي مع نوع من قراء اليوم.
ذلك أن قاموس الكلمات التي يختارها الشعراء أنما تأتي من نبعٍ واحد وتصب في كتب شتى، وقد يخسر الشاعر عملاً خطيراً بسبب غلاف رديء والعكس معقول أيضاً.. وقد يفضح أحدهم نفسه عبر (تصريح) مضحك أو (قول) ما كان ينبغي أن يقال.. وهنا تمكن علة الشهرة ومنها قد نفهم مدى شهرة العيوب التي تضع الملح في طعام مالح ثم في طبق مرشوش بالملح مع خبز محروق بأملاح التنور وتقدمه لقارئ مريض بارتفاع ضغط الدم إذا به يعاف الشعر وطعام القصائد بعد أن شبع الجلد والمسامات من كثرة الملوحة التي يرميها بعض الشعراء على كتاباتهم الماسحة!
صارت نسبة من يكتب الشعر (أو ما يسمى شعراً) أكبر بكثير من نسبة قارئته، لذلك انقلب المشهد منذ أعوام ليست قليلة، إذ ليس من السهل بقاء الحال على ذات المنوال، ولا بد من (غربال) كبير وتصفية صحيحة وصريحة مع الشعر الذي يعطيك ما تريد ومع الكلام الذي يشبه الشعر ولا يأتي بما تريده النفس أو تعوزه الروح من ثورة وجمال ومعنى..
وهنا نعود إلى الكائن الشعري الذي تأسس شاعراً في كل شيء، والذي تعرفه من لباسه وأفكاره وكوابيسه وأسفاره أو عزلته وتكاد أن تشير إليه وأنت تشاركه تأملاته ورغباته ورؤيته، وربما حبيباته وجنونه معاً، الشاعر بهذا المعنى هو كل ما يصنع أيامه التي ستجيء..
الشاعر الكبير لا يأتي مجاناً إلى ملكوت المجد، ويكذب النقد أو يتحامق إذا ما طرطش بالصفحات شمالاً وشرقاً حتى يقلع هذا من (مجده) أو يجرجر ذاك إلى عرش لا يستحقه المجرور.. ومن المهم ما دامت الحقائق كعادتها تأتي متأخرة أن نقف الى جانب المشهد بحياد أولاً، مع الكثير من المحبة، من دون أن نقف (تحته) ونرى بعض عيوب التجربة، أو نقف (فوقه) حتى يصغر أمام إحساسنا بالسطوة والغلبة ذلك أن الشعر حالة من حالات الشهيق وطريقه مثلى من طرق الكلام وصورة من سريان الدم على جسد الورق وحين نحاكمه على ضعف أو نصفق لقوته، لا بد أن نفرض على أنفسنا محاكمة بمستوى ما سنقضي بأحكامنا عليه.

*  *

لا أدري لماذا كتبت هذا الكلام كله وأنا أفكر بالرحيل (معكم) إلى ديوان (تأبط منفى) للشاعر العراقي المبدع عدنان الصائغ فهذه المرة رأيت نفسي قبالة نفسي وأنا أقرأ كيف أن (العراق الذي يبتعد، كلما اتسعت في المنافي خطاه، والعراق الذي يتئد كلما انفتحت نصف نافذة قلت آه، والعراق الذي يرتعد كلما مرّ ظل تخيلت فوهة تترصدني أو متاه، والعراق الذي نفتقد نصف تاريخه أغانٍ وكحلٌ ونصف طغاه) وفي الوقت الذي حاصرتني الغربة فيه رأيت نفسي ثانية وأنا:

"من امرأة إلى امرأة
ومن رصيف إلى آخر
أمشي
قاطعاً حياتي
سيراً على الأحلام"

هكذا مضيت مع الشاعر عدنان الصائغ أنحني – مثله كالقوس على نفسي لكنني أبداً ما انطلقت ثمة أشياء مريرة تشدني إلى الأرض وأنقل رمضائي بخفة أحسد نفسي على نيراني، عساني أقول الشعر أو أكتبه بالطريقة التي أكتب فيها القصة القصيرة لكن أنين القطار يثير على الصفحة 102 شجن الأنفاق هادراً على سكة الذكريات الطويلة وأنا مسمر إلى النافذة بنصف قلب تاركاً نصفه الآخر على الطاولة يلعب البوكر مع فتاة حسيرة الفخذين تسألني بألم وذهول: لماذا أصابعي متهرئة كخشب التوابيت المستهلكة؟ فأحدثها عن الوطن واللافتات والاستعمار وأمجاد الأمة!
الشعر – اليوم – يجب أن تكونه أنت بنفسك مخلوط بك حد أنك لا تدري أيهما (منكما) هو المكتوب على الورقةـ تماماً كما فعل غارسيا ماركيز في روايته المذهلة (الحب في زمن الكوليرا) إذ أنك ما ان تزرع أحزانك بين أحزان أبطالها، سوف تنسى من الذي كتب عن (من)؟ تسرح ثمة في خارطة مزحومة بالرياح والحشرجات والدموع ورسائل الحب، ثم تنام على هسيس العشاق وهمس البحار وحرقة الأشواق برغم شيخوخة الحياة التي تتسرب إلى الروح وإلى الملامح والأصابع وسوف تستيقظ من الرواية من دون أن تصل إلى (أيهما كان بطل القصة؟ أنت؟ أم الذي كان في مكانك خلف حجاب النوم)؟؟
باختصار هذا هو الفن العظيم في الكتابة ولا فرق أي نوع جاءت به أنامل اليدين أو أصابع العقل، القصة القصيرة أم الشعر أم الرواية أم الموسيقى أم الجنون، وأعتقد جازماً، وأنا أترك نيراني تحت بحر الإبداع – أن لا أحد يستطيع قتل المبدع حتى وإن قتلوه.
هذا يتأبط منفى وذاك يتأبط شعرا وبينهما من يتأبط أوجاعه وأحلامه ويرحل صوب لا مكان. المهم في رحلة المنافي هو أن لا نتأبط شرا ونكتفي بالكتابة حلاً وسيفاً ومأوى.

تأبط منفى عدنان الصائغ، شعر، دار المنفى، السويد، عام 2001


(*) صحيفة" الزمان" لندن ع1082 في 24-25/11/2001
 
البحث Google Custom Search