أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
دراسات

عدنان الصائغ.. من أين لك هذه الشفافية الجارحة؟

عذاب الركابي
- ليبيا -

"خذ ثمانية أعوام من عمري، وصف لي الحرب
خذ عشرين برتقالة، وصف لي مروج طفولتي
خذ كل دموع العالم، وصف لي الرغيف
خذ كل زهور الحدائق، وصف لي رائحة شعرها الطويل
خذ كل البنوك والمعسكرات والصحف، وصف لي الوطن.

1 – قرأتُ الصديق الشاعر "عدنان الصائغ" قبل أن أراه وألتقيه، وشدني إلى قصائده هذا التوهج الرائع، وهذا الصدق النادر، المصحوب بتماس طفولي جميل لحب الشعر والذوبان في كونه، وقد أذهلتني هذه اللغة الشعرية المتمكنة الشفافة التي تصدر عن روحه العاشقة المعذبة دون تكلف أو تصنع ..

"كفاك تحديقا في مرايا عيوني
لقد بكيت كثيراً، أكثر مما يجب،
أكثر من كمية الدموع المخصصة لحياتي"

"عدنان الصائغ" يراه القارئ المتابع للشعر كأنه على موعد دائم مع الكلمات، فهي هواؤه، وطريقه، وامرأته، وأصدقاؤه. إنه يعقد حلفاً هادئاً جميلاً مع الكلمات على بناء مدنه الشعرية الخاصة به، فأنت تراه حين تقرأه، ربما لأنه استطاع أن يحول جراحاته وهمومه إلى ومضات شعرية، بل إلى نيران متأججة مذهلة لا تستقر، لهذا حين التقيته – ولأول مرة – في عمان، لم أفاجأ بهدوئه وشفافيته وجنونه بالشعر والعلاقات، والفضلُ يعود أيضاً لكلماتنا الدافئة الحزينة والصادقة التي استطاعت أن تختصر كل هذه المسافات والطرق، ونقاط الحدود، ومراكز الشرطة والجمارك، ومزاج الأنظمة المتقلب، ومقدمات التعارف التقليدية...

2 – وأنا أقرأ كتابه الجميل "مرايا لشعرها الطويل*" توقفت كثيراً عند محطاته الحزينة، والتي فاتتها قطارات، وقطارات، وأناس، وعشاق، وطيور، وسحب، وأمطار، ومواسم.. هكذا تراها في كل نص من نصوصه، باردة، رطبة، ثقيلة، حزينة، وقد اغتالت أيد خفية خطوط الضوء، وعناقيد البهجة فيها، وتساءلت عن أي شيء أكتب؟ هل أكتب عن "عدنان الصائغ" الشاعر المعذب، العاشق، الشفاف أبداً؟؟ هل أكتب عن مدن قهره وعذابه؟ عن غربته الروحية؟ عن حالات عشقه النادرة؟ تساءلت... ولكن عبارة هامة كتبها "روجي كايوا" عن "سان جون بيرس" تقول: "لا أحد يعلم من أين له هذه الرقة الساحرة التي يملكها وحده" أيقظتني على هذه الشفافية النادرة التي تفرد بها هذا الشاعر الشاب دون غيره من شعراء جيله الذين أعرفهم.. وقد خيل لي أن أهتف: عدنان الصائغ من أين لك كل هذه الشفافية الجارحة؟؟

"اتركيني لدقائق
ريثما يهدأ هذا الهلع الذي يسكنني
منذ دخلت – سهواً – رصيدك العاطفي
اتركيني لدقائق
ففي داخلي سنوات من الوحل والهلع والرصاص"

ألستم ترون مثلي أن هذه الشفافية الجارحة لا تليق إلا به؟؟ (تتساقط صور القنابل بدل الدموع) وأن هذا العذاب الحر، والحزن الدافيء، وهذا السيل الجارف من الذكريات الأليمة – البهيجة أحياناً،/ التي ثقبت قلبه، وجردته من نعومة يديه ليس لها من عنوان إلا جسده الموشوم بجراح لا تشفى ولا تهدأ، وهو يعرف هذا جيدا، وكان صعباً عليه أن يغير حياته، ما دام هذا الألم نبضه، وهويته، وسلوته، وقلمه الذي يسجل على ورق خجول هذه التراتيل الشفافة الجميلة..

"كان علي – على الأقل – أن أحدثك قبل هذا
عن بساتين طفولتي التي حرثتها أسنان البلدوزرات
والمجنزرات ...
عن قلبي الذي ما زال يرتجف على الأرصفة كلما
مر به ما يشبه شعرها الطويل.
عن القنابل التي حفرت ذكرياتها على ملامحي..
ورغم ذلك فلست على استعداد
لأن أبدل حياتي بأية حياة على الإطلاق
فأنا أملك هذا الألم الذي يضيء"

3 – قال "إزرا باوند": "كل شعر يتوقف على الأحاسيس"، وأشهد أن القصيدة عند الصديق "الصائغ" نبض، وإحساس وهي عنده لا تهدا أبدا، غزالة نافرة، أو امرأة من نار..

"من أين للقصيدة كل هذه الرغبة
في البكاء على شرشف الورق الأبيض،
لا مطر، لا تفاح، لا أجراس، أيتها النافرة
كغزالة، في براري الفكرة الشاسعة"

فهو في شفافيته الجارحة كأنه يقيم في وردة.. في قطرة ندى.. في صباح عطر بأنثى، بعلاقة كونية، برائحة وطن حنون رائع.. والنص لدى "الصائغ" سكن في حالة عشق،.. سكن في وطن مضاع،.. سكن في روح نابضة بالعشق والحياة، فكيف تهدأ عنده القصيدة وهي كروحه، وهو العاشق الذي (يرف بجناحيه الكسيرين في غابات اللغة). اللغة (كلماته) التي تكون الشاعر على نحو سحري، وهو مكون من كلماته، حسب تعبير "والاس فاولي".

"مبتدئا بعشب القصيدة وهو يذبل،
بعشب الأرملة وهو يذبل،
بالفتيات وهن يزقزقن أمام باب المدرسة وسط صياح الباعة..."

قلت أنها الشفافية الجارحة، موت وولادة، عشق وجروح، وعذاب واحتراق، ومرارة، أليست هي قريبة من شفافية "اندريه فليتير":
(في أكفنا صور من رمل،
وسيوف من دموع)؟؟
في كتابه الجميل "الأجل أية شمس يا ستيفان"؟ ترجمة الصديق خالد النجار..

4 – كتب "والاس فاولي" يقول: "الحب أضمن السبل التي نتبعها للفرار من العالم، وهو في الوقت نفسه أعمق أساليبنا في معرفة العالم"..
وأنا حين أتحدث عن صديقي "الصائغ"، وأقول في حقه هذه الكلمات التي تتدحرج بثقة، وصدق على أرصفة هذه الشفافية الجميلة، رأيت أيضاً أن أرشقه بباقة ورد تحية لروحه العاشقة.. التي أفرزت هذه الحرارة، وغرست في نصه هذا النوع من الحب، والدهشة والمفاجأة، والطرافة الموجعة أحياناً، فيرغمك للانجذاب إليه دون ملل.

"من يدلني على مشجب
أعلق عليه معطفي البالي، وقلبي
لقد تعبت من هذا القلب وأريد
استبداله الآن..!!"

ترى هل أن هذه الشفافية هي سر الانجذاب إليه؟ أم أن طريقته في الحب والعشق أضفت عليه هذه الشفافية الجميلة؟ ولماذا لا يكون هذا صحيحاً ما دام الحب "دراما كونية عظيمة بالنسبة للرجل" – حسب تعبير "بول إيلوار"، فكيف وهو الشاعر الشفاف، الرقيق ذو النص السحري الممغنط برقة وهدوء كل الأنهار، وخجل كل النسمات، فيكف لا ينقاد إليه القارئ دون أن يشعر بملل أو ضجر، وهو الشاعر الذي تصير الدهشة في نصه شجراً قد يثمر هذا التلذذ الخالد في مقطوعاته.. ومضاته الشعرية:

"أهربُ من الشوارع، باتجاه النسيان
أهربُ من ذكريات أمطار يديك على نافذة قلبي
باتجاه عزلة المقهى
أهربُ من البحر: أمواج ضفيرتك – وأقصد –
اضطراب القصيدة،
باتجاه رمال الندم: نسيانك – وأقصدُ –
النثر اليومي
أهربُ من الدقائق التي تنبضُ بكِ.."

5 – "على الشاعر أن يعرف نفسه أولا، عليه أن يبحث عن ذاته عبارة هامة من رسالة الشاعر العبقري "رامبو" إلى "بول دوميني" وقد حدد فيها طريقة البحث والكشف التي لا تتعدى ثلاثة أقانيم "الحب والمعاناة والجنون"..، فلماذا لا يكون نص عدنان الصائغ المرآة الصافية للكشف عن خلجات نفسه العاشقة، القادمة من قعر هذه المعاناة، والحاملة كل وصايا العشق والجنون..

"أنت أيتها الجالسة بهدوء
تنظرين من خلال زجاج اللامبالاة
إلى شوارع قلبي، وهي تضج بزحام الناس،
والهموم والباصات،
سأنقر زجاج وحدتك،
وأدعوك إلى التسكع معي تحت شمس الحياة الدافئة"

وهو في شفافيته هذه، ورقته، واحتراقه، وعناقيد جنونه المتدلية لشاعر عاشق حتى العظم، وليس شاعرا ساحرا أو سميائياً كما وصف الشاعر النزق "رامبو" يوما، وأن حبه نقي، صاف، وجارح، يذكرنا كثيراً بابتهالات عشق "إيلوار" السريالي الفرح بحبه أبدا:
"أيتها الوديعة
حين تنامين، يتحد الليل بالنهار
(بول إيلوار – المرأة الأولى)
وربما يقترب بامرأته المجنونة أيضا من "هيرودياد" "مالارميه" التي كتب بناريتها، وألقها وجوده، ورسم بعسل أنوثتها رقته:
"ساعديني
لأسرح شعري بتثاقل في مرآة".
إن شفافية الصائغ ترغمك على الإصغاء له، وإذا ما قررت منحه وقتك، وجنود ذاكرتك دفاعا عن شجر القلب، فأنك في قراءة كل نص يتحرك قلبك الموجه، فتهديه إليه غير آسف.

6 – وإذا ما جذبتنا حيرة "الصائغ" وقلقه المزمن، فأن نصه الواثق يجرنا من شريان القلب، لما فيه من إيحاء، وقوة، وثبات، كخطوات شاعرنا وهو ذاهب للاغتسال بدماء القصيدة، وبكل رقة الشاعر يغرس أسئلته في أحشائنا غرساً موجعاً أحياناً، طامعاً في اصغاءة هادئة، خفيفة:

"ماذا سأقول للشوارع، حين تسألني، غدا
عن حفيف خطواتك
ماذا سأقول لذاكرتي، حين تبكيك في منتصف الليالي الموحشة"

وبدفء الشاعر المتوهج، وأداته، ونبض همه يشتغل الصديق "الصائغ" على صورته الشعرية بكل هدوء، وكأنه يرسل نبضه، ورعشة جسده، ودفقه الشعري، وآهاته المموسقة وينتظر حتى تكتمل صورته نابضة بعذابه اللذيذ، متسلحا بآيات حبه، فبالبحث يتم (اقتحام حصون اللغة) حسب تعبير (والاس فاولي) فتأتي نصوصه هكذا جميلة، خفيفة الظل، مشعة بسحرها اللغوي:

"أحاول أن أغيّر شكل كتاباتي
فتتمرد علي أصابعي.
وتقفز – كأولاد مشاكسين –
فوق سياج حدائق شعرك
لتقطف اللوز والقصائد والفوضى"

7 – "أخذت نصيبي من المرارة، وحملت حظي من الشقاء"
(أراغون)
شقاء..؟ وأي عذاب هذا الذي يتقن أبجديته الشاعر "عدنان الصائغ"؟ طريق حالك يختار.. ناثراً وردات جسده الناحل، وأمنياته، وأيامه، وطفولته وصولاً إلى المرأة الدافئة الجفنين.. وصولا إلى القصيدة المتمنعة:

"لي كل هذا النبض الشمولي،
لي كل هذه المسافات، وأدعي أنني وحيد
وحزين تماما، على مصطبة قصائدي،
أغزل خيوط سنواتي الواهنة عباءة للريح،
بانتظار موسيقى خطاك القادمة من الينابيع
*
وصولاً إلى الدهشة، وصولاً إلى اللذة، ..
وصولاً إليك، وصولا إلى القصيدة المتمنعة،..
أتناثر يومياً في الطرقات كشظايا المرايا وأعود
مساءً لألملمها على الورق..
تلك هي حياتي!!

8 – وتلك هي حياتي.. أيضاً أيها الصديق!

فأذن لي بإرسال كتاب جراحاتي إليك.. بعض عناقيد الضوء.. وقلادة من دموع.. وحزمة من سطور احتراقي ولهفتي وشوقي.. وقل: فقرات من حديث إذاعي قصير لنهر غريب حزين، مع أملي بأن نلتقي مرة أخرى، وللقصيدة الحق في ترتيب هذه اللقاءات.

قراءة في كتابه "مرايا لشعرها الطويل" دار الشؤون الثقافية – بغداد 1992


(*) مجلة "المسار" – تونس – ع 28 – 29 حزيران ( جوان ) 1996
 
البحث Google Custom Search