أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
السؤال المضمر
بين الحداثة وفلسفة الإغتراب

قراءة في "تكوينات" عدنان الصائغ

غالب الشابندر
- السويد -

(القسم الأول)
1

في ديوانه الجديد [ تكوينات ]، يشكل السؤال المضمر نقطة مؤسسة، تترُّ من جسده المتوهج إشراقات أمل مكتوم، سؤاله يتوارى خلف الصورة الظاهرة، ليرتعش بعطاء حزين، يحكي محنة الإنسان في الشرق المسكين، حيث تتوالى صور اليأس، لتشكل هيكل المعرفة و أقنوم الفكر. لقد استهلك اليأس كل نفحات سحره الوجودي، فبدت الحياة في عينيه شبحاً مخيفاً، يلاحق الإنسان في كل مكان.
الاستلاب استفز طاقة الشاعر وفجرَّ خياله الخصب، ليطل على الآخر بسؤاله المضمر، سؤاله الخفي، فأن بداهة الفطرة تؤكد أصالة الجمال وأسبقَّية العدل، وقبل ذلك أولوية الخير، فلماذا يستهلك الرعب صدى الحب؟ ولماذا يرتعد النهار من ليلٍ داهم يريد الاستئثار بمقولة الزمن؟ ولماذا يرتعد ليل من نهارٍ ثقيل، استبد به طغيان [الأنا]؟
أنثيالات النفي تتلاحق بضلالها الكئيبة على ساحة الوجود… المعنى الأصيل للحياة يتقهقر,‎…العالم يتلوى من طعنات الموت الغادر… والحياة … هذا المعطى الأولي، المعطى السابق على كل تجربة… هذه الحياة تتحول إلى هبة عابرة، مرسومة على ورق مزخرف، وممهورة  بتوقيع زائف، فانسلخت البديهية في ذهن شاعرنا، في إحساسه المرهف، في وجدانه  المتوثب …انسلخت من حقها، فيما هي ينبوع الحكمة ومصدر التكوين.
السؤال المضمر أنسلَّ بهدوء من هذه التراكمات القاسية، فطرح روحه المعذّبة بعفوية مرتعشة، يفتش عن جواب هو الآخر خفي، فكأن الحرية قد صلبت إلى الأبد.
يبرز السؤال المضمر من خضم التناقض الفاضح الذي يشهد على فساد الزمن ورداءة إيقاعه، فتظهر لوحة الوجود خريطة مشوهة، تتنافس على اهترائها نتوآت القدر الجاهل، ومخالب البديهية الملغاة، وعندها يندثر التاريخ، فيندفع الشاعر إلى تصوير أحزانه وإهمال أفراحه، ولا يأتي على ذكر هذه الأخيرة الاً عابراً، وربما لأيهام الذات وتسليتها… يذكرها أمنية تائهة، وليس واقعاً يفرض نفسه على الشاعر.
السؤال المضمر يتكون عبر تجارب حادة، عبر تراكم الصدمات التي تقود الفكر إلى الخدر، وهو إنما ينبثق من بقايا الوعي السابق… من بقايا  رعشة الروح.
السؤال المضمر حائر وفي الوقت ذاته خلاًق… حائر لأنه سؤال… خلاًق لأنه يؤسس رؤى تتسم بالعمق مهما كانت سلبية المضمون.
في مفتتح ديوانه:

(أتصفح كتب التاريخ
فتتلوث أصابعي
… بالدم
كلما قلبت فصلاً لطاغية
قادني حراسه
إلى الفهرست
فأرتجف هلعاً)

فالتأريخ أذن جسد منفي… جسد مثقَّب برصاص الموت الكريه، الموت الأسود… والفهرست يختصر الحياة كلها بصدى الدم المسفوح بلا حساب وبلا سبب، والجريمة عندما تستوعب الزمن تصبح عصية على التفسير، وهذا الفهرست كما يبدو، وفَّر على الشاعر جهد الاستقراء الطويل، ولكن ليرمي به في جحيم النتيجة.
يهرب الشاعر من هذا القدر الجافي، فيرسم في مخيلته حلم البلاد الوردية… الهادئة … الوديعة، ففي قصيدته [غياب ]، يتحول الحلم إلى مهرب… طريق إلى الحقيقة الملموسة بشخوصها الكبيرة [البيوت المضيئة، الجسور، الأشجار، القطط ] ولكن الحلم، هذا المهرب الوحيد، ينتكس داخل مملكته… ينقلب إلى مأساة، إذ  ينعى الحلمُ بدايتهَ الواعدة بنهايةٍ كان الشاعر قد هرب منها في يقظته… ويُكمل النفي دورته القاسية عندما يطبع صحو الشاعر بمراسيم الاتهام البغيض.
يقول:

(رسم بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والاشجار والقطط
قطع تذكرة
وسافر أليها محملاً بحقائبه وأطفاله
ولكن رجال الكمارك
أيقظوه عند الحدود
فرأى نادل البار يهزه بعنف
إلى أين تهرب بأحلامك
ولم تدفع فاتورة الحساب)

هذه المعادلة الصعبة المرعبة كانت تطارد الشاعر… تطارد روحه الندية… تطارده بلا هوادة… فهو على موعد دائم مع المسير المعكوس للزمن… مع الحلم  المغدور.
هناك اغتيال علني للحقيقة… امتهان سافر للشمس… اعتداء صلف على الوضوح … فأي قيمة ـ بعد ـ يمكنها ان تستهوي الضمير الحي؟ وأي شهوة فرحة يمكنها أن تمارس صلاحيتها في العطاء؟ وأي كلمة يمكنها أن تستدعي شقيقتها لتبني قصيدة؟
الظلام يحيك خيوطه الكئيبة حول العالم، يخنق انفاس الخلاص وقد لف بسواده الكثيف حلم الوجود، فاختار الشاعر العزلة، فهي الملجأ وهي الملاذ وهي العلاج… هروب من القوة الغاشمة التي راحت تفكك بعنف ظاهر بين الجسد والروح، تشظّي بمساميرها الصدئة جسد المغامرة، فتفسَدُ الحياة التي هي ليست فرصة الإنسان الوحيدة، بل هي البديهية التي تتر بتلقائية بريئة من مسامات جلده ونفحات روحه وتموجات صوته.
في قصيدته [ عزلة] يتحول الشاعر إلى صرخة ترتد داخل جسدها فتختنق، واذا تحرك فيه شوق قديم، يقتلع قلبه المحزون، ويضعه على طاولة مكسورة، ليذكّره بالماضي المطعون… أنه يعتزل حتى قلبه.
الشاعر صريع دوائر يحتضن بعضها بعضاً، تعتصره داخل مراكزها المتحدة، ومحيطاتها الصلدة تحجب اسرار التواصل بينه وبين حقه في مباشرة الأشياء.
يقول في [ عزلة ] وقد هجر كل شيء:

(هكذا انتقي عزلتي
وساعتادها
…………….
غير أني اذا اشتقت للاخرين
سأجلس قلبي إلى الطاولة
وأحصي له
الطعنات)

ويمضي الشاعر في عزلته الرهيبة، فيودّع قلبه إلى الأبد، لقد تحولّت عزلته إلى نسيان، فها هو يهب قلبه للطرق العنيف:

" كي يتمدد
…………
ويصبح جسراً للنسيان" .

إنه يخشى أن تكون عزلته هذه نوعاً من الرؤية التي تزيد من شقائه ومعاناته الوجودية الطاحنة، فربما ينبثق من داخله شوق الى الاخر، فيما هو الجحيم بعينه، فليسلًم قلبه، اذن، للطرق الذي يستنفذ حضوره وشهوده.
فهذا العالم ينبغي أن ينسى، يستحق أن ينسى، ونسيان الشيء ملغوم بأعلى طبقات التعامل السلبي وأقصى درجات الموقف  العدمي
وكيف لا ينسى هذا العالم، وليس فيه ألاّ:

"مخبر قمئ يلحسني
مختبئاً، خلف جريدته"

وفي خضم صراعات الحياة، وفي تيار سحبها المتلاطمة، حيث لابد أن يكون البقاء للأصلح والنجاة للاطهر… ينفرد هذا المخبر القميء بحصة الوجود التي لا حقيقة قبلها أو بعدها.
كيف لا يهمل هذا العالم، و[ الكولونيل الذي لم يجد من يكاتبه ] يسري في جسد التاريخ ؟ فهذه هي الثورة تأكل أبطالها الحقيقيين، ويغتصب المناضل الورقي أرملة المناضل الصادق في صبيحة يوم أسود على الوطن وأهله:

"بينما كانت بلاده تحترق
كانت شفتاه تحترقان
على جسد الأرملة الفاتنة
التي كان زوجها يحترق
على سواتر الحرب
……………  دفاعاً عن شرف الأرض"

إنها ملحمة احتراق، احتراق من أجل المصير، واحتراق يدمّر المصير، واحتراق يستهتر بالمصير، ويشاء الزمن الرديء أن يكون الانتصار والبقاء والظفر لذلك الاحتراق الذي ينسج خيوط حقده الغادرة من هذا التضافر المنطقي بين الدمار والاستهتار، فيضيع شرف الأرض بضياع الدم المسفوح من أجلها.
لماذا لا يودّع الشاعر قلبه، وزمنه يذهب هدراً للارهاب الاستطرادي، والشعر يُصلب على رغوة التصفيق البليد، فيموت الأمل في مهده، وتقتل التجربة في لحظة تفجرها الواعي: ـ

"ما أسرع ما دق جرس رحيلها
وأنا لم اكمل بعد أبجدية انوثتها
فدرسوني شخير اللغة
ما أسرع ما انفض الحفل
لأبقى وحيداً في حانة القصيدة
طافياً على رغوة التصفيق البليد"

والآخرون يشيّعون جسده، وهو يرتعش بحرارة الحضور المتدفق بـ[الأنا] الشهودي، ولأنهم يقبضون على سلطة النفي القهري، ولأن نفياً من هذا النوع يعتمد القوة الغاشمة، كان الشاعر ارادة ملغاة، رغماً عنه، فتعطلت فيه قوة ادراك الحقيقة… حقيقته هو:

"مالي أراهم
ينثرون باقات الزهور الندية
على سريري ـ شاهدتي البيضاء
دون أن أعترض
أو أصرخ
أو أبكي
هل مت حقاً
ولا أدري"

هناك موت موهوم ولكنه مفروض، الأمر الذي يخلق وعياً ساهياً، يفرز فكراً متردداً، ويصل الذروة هذا التنازع بين الرغبة في الحياة من جهة وهذا المنطق المفتون بقلب الحقائق من جهة أخرى… يصل هذا التنازع المر الى الذروة في محنة الوطن.
يقول:ـ

"أصيح بلادي
وأشهق
أحتاج حبراً بمقدار ما يشهق الدمع في فمنا
لأكتب أحزان تأريخنا
……………………………..
والوطن المتباعد خلف زجاج المطارات
يأخذني للشتات
ويتركني للفتات"

الحزن يضاف إلى التاريخ، فيتبدى سطحاً متواصل الانات، الحزن يشخص هنا، ومن خلال هذه الاضافة… يشخص قدراً امتطى كلمة البديء، ليحتكر فعل الأزل، فيما لو أضيف التاريخ إلى الحزن، يكون ـ الحزن ـ قضية من جملة قضايا أخرى، قضية على قارعة الطريق التي طالما تصطف على جنبيه قضايا كثيرة ومن انواع شتّى.
فليودّع الشاعر قلبه…
يتعامد السلب على نفسه ليمسك جسد الديوان، تتر من سطوته رغبة الرحيل… رغبة النسيان… رغبة الهجر… هجر الذات… هجر كل شئ.
هذا التيه يؤدي إلى تشكل سؤال غير صريح في حروفه وصوته، ولكنه صريح في أندياحه الروحي على قلبه وضميره، وكل ذرًة من ذرًات كيانه.
الوجود لوحة متهرئة، فيما هو في الأساس بيان مشرق… فلابد أن يكون هناك سؤال عن سرّ هذه المعادلة الصعبة… وهو سؤال مضمر، فان استعراض المفارقة وخاصة اذا كانت كبيرة وصادمة عبارة عن سؤال حائر.
أنه السؤال المصنوع من روح الحقائق المضطهدة، من افرازات النفي غير المعقول، فليس من التجربة، ولا من الفكر، أن ترفض الأرض أبنائها، فهي الأم الحنون بطينتها الحرة وجسدها الدافئ
وانفاسها الطيبة.
الوطن، هذا الطين المعجون بأفراح ابنائه واحزانهم… هذا الهواء الذي يدخل في تكوين وانعاش كل خلية من خلايا اجسامنا… هذا الوطن الحاني الجميل… الصادق… يقذف بنا إلى العالم المجهول، يؤسس في داخلنا طاقة التسكع، يبني في انفسنا غريزة النفرة.
ان الشجرة التي تنمو باتجاه معاكس تتصدع من داخلها… وعندما  يحسر البياض البصر عن جولاته المنتشية في اجواء الشعر وشهوات الفكر، يتاكل التأريخ، وتصدأ الأيام.
فلماذا لا يتأسس السؤال المضمر وخاصة في ضمير الشاعر؟

2

الصورة الشعرية لدى عدنان الصائغ مشبوبة بنارها الذاتية، تلتهب بخزينها من خبرة الحياة، تضطرم في داخلها اسرار الولادة والتجدد، فهي ليست بالصورة التي تنتظر امتدادها من اضافات خارجية، ولا بالصورة التي تحتكر ذاتها لذاتها، هي انطلاقة حيّة تتوالد وتتناسل، امتداداتها تجليات متوالية لبذرتها الأولى، الوحدة الجوانية تمسك بها من الداخل والكثرة البرانية  تطفح عليها من الخارج، وبين الوحدة الجوانية والكثرة البرانية سر عميق، ذلك هو روح الشاعر.
ان الصورة الشعرية الجيدة، او الصورة التي تنتمي الى الشعر حقاً، تتمرد على التحليل التجزيئي، لأنها تصدر من روح الشاعر الكلية، تتجاوز فن المحاكاة، هذا الفن العاجز لاعتماده الانطباع الساذج، وهي لا تضطلع بمهمة الوصف ولا التفسير، لأن طاقتها الساخنة تتعدى لغة الرقم ولغة التعليل، وهي ليست بديلاً عن شيء أو حدث، لأنها تسمو على كل قيمة احتياطيّة. الصورة  الشعريّة تخلق عالماً جديداً، يفيض به كيان الشاعر كله لتؤسسّ كوناً غير مألوف سابقاً. أن هذه الصورة فيزياء أخرى، أنها فيزياء الشعر، حيث تتجه إلى ابداع عالم غير مسبوق على ساحة الفعل، يفاجيء الحواس فتنفعل، يصدم العقل فينتقل الى مقتربات أخرى، ينفض عن الوعي غبار ممارساته الرتيبة، وبالتالي، فأن الصورة الشعرية خلاًقةُ قيم.
إن القيم افراز للموجود، فأذا تغيّر الموجود استحقت قيم جديدة، فكيف اذا انبثق في عالم الحس والعقل والضمير والروح موجود جديد؟
هل يعني هذا انّ هناك انقطاعاً بين الشعر وهذا الوجود الماثل؟
الوجود الماثل محفّز، مثير، والأستجابة هي كون موازي، كون له قوانينه الخاصّة ونواميسه المرتبطة به واسراره النابعة من داخله وقيمه التي يفرزها، ان الشعر عالم، يحتاج الى اليّة تتماهى مع جوهره، اذا اردنا ان ننفذ الى عالمه.
لا اعتقد ان الشعر يفسًر هذا الوجود الماثل، بل يخلق وجوداً موازياً، وجوداً في محاذاته، فكما ان هناك سماءً طبيعية هناك سماء شعريًة، وكما ان هناك  جمال طبيعيً هناك جمال شعري.
الصورة الشعرية ليست مركباً من خيال وواقع كما يتصور بعض النقاد وانما هي كيان أصيل، لها استقلاليتها، لها شخصيتها الكاملة، انها كون ماثل.
عدنان الصائغ في ديوانه [ تكوينات ] يطرح صوراً شعريَّة مشحونة بحضورها الموحَّد، كتلة متصلة التكوين، لكنها تتخلق وتتبرعم من داخلها، فتمتد على جسد الزمن، تلاحق وجودها بهذه الأنبثاقات الثرية، والاساس هو البذرة الاولى، فهذه البذرة تشهق بعذاباتها وافراحها، تشهق بروحها الفائرة، بروحها الملتهبة، ولكن لا لتموت بل لتحي بممكناتها الغنية، وعدنان بصوره الشعريّة يستحدث كوناً صادماً، ودنيا تفاجئ المتلقي، فهو لا يصف ولا يفسر، بل يبدع ويخلق…
انه شاعر:

"الليالي بلا أرق
انساها على سريري في الصباح"

فهو هنا يؤسس قيماً جديدة، بعيدة عن القوانين الفيزيقية، ذلك، ان الأرق في تصوره يقظة روحيّة، والنوم الهادئ الرغيد عبارة عن ترف، لوثة في ضمير الانسان، انتكاسة في مملكة الطهر… من هنا حرص الشاعر على احتضان هذا الأرق، هذا الترياق الروحي الصافي:

"الأرق
نسي مفاتيح غرفته
على طاولتي
ترى أين يبيت الليلة"

لا يريد  للأرق ان يهجره ابداً، يطلبه حثيثاً، يبحث عنه، واذا دققنا في الصورة الجديدة، تكشف بأنها الوليد الشرعي لسابقتها، فالشاعر بعد ان وحّد بين الأرق واليقظة الروحيّة، طرحه خبزاً وملحاً وماءً، ولكن لا ليرتوي جسدياً، بل ليشتعل بنار الحقيقة المعذبة.
اذن الأرق، وهو بذرة التكوين في كلا الصورتين، ليس موضوعاً للحكاية  او الشكاية، ولا مادة للدرس او التجربة، ولا ظاهرة للنعت أو البيان، بل هو قضية قائمة بذاتها، عالم، كون.
إن عالماً جديداً يتكون، وقد استدعى هذا العالم الجديد قيماً جديدة، قيماً من نوعه وعلى امتداده.
ان الصورة الشعريّة هنا خلق وابداع، انشاء غير مسبوق، وله قوانينه النابعة من داخله، من احشائه، من اعماقه، فالأرق هذا ليس نسخة مكررة، بل نسخة أصيلة، وعلاقتها بالأرق الكوني، الأرق المألوف تقوم على التوازي والتناظر، ويخطئ من يفسّر الصورة الشعريّة بأنها عملية تطوير للظاهرة الكونية الحياتية او الاجتماعية، لانها في الاساس تكوين جديد، بدليل الانقلاب الكامل في الصورة الكونية والحياتية . ان الوجود الخارجي بالنسبة للشاعر حافز ومثير، والقصيدة وجود آخر.
يقول في تكوينات [ 4 ]:ـ

"حين بحث في أدواج الليل
ولم يجد سيجاراً
اشعل عود الثقاب
وبدأ يدخن نفسه ـ بهدوء ـ
ملتذاً
وهو يتلاشى رويداً رويداً
في سحاب الدخان"

وفي تقديري ان الشاعر حتى لو عثر على السيجارة المفقودة لعزف عنها، لانه في الاساس يريد ان يدخن نفسه بثقاب مصنوع من احزانه وآهاته وعذاباته، أن عود الثقاب هذا هو [ أحزان تاريخه ]… ان الشاعر يريد ان يتماهى مع عدمه، وهذا الالتذاذ بالتلاشي البطيء يضفي على السيجارة المفقودة قيمة سلبية، انها مفقودة حقا، ولكن الاشارة الى هذا الحرمان الخارجي، انما لمزيد من تشعيل الذات الطوعي وتحريقها المغيّا… انه لا يهدفها ابداً، وبحثه عنها خدعة، فاذا عثر عليها يهملها.
ان السيجارة الفيزيقية المتموضعة في حيّزها الخاص والمختفي عن العين الجارحة، لا يمكن ان تكون بديلاً عن احتراق الذات وتشطّرها، عن تولّع الضمير بلهيب الخزن الساحق، ان السيجارة المفقودة كما اتصورها، هي هذا الشيء المألوف، وأدراج الليل مخابئ مادية ملموسة، وهي ليست هدفاً ولا مقصداً، لأن الشاعر غريب، وغربته مع هذا العالم حيث يتجه الى الهاوية السحيقة بفعل انهيار القيم الجميلة، وتسلية مثل هذه الغربة لا تكون إلا بصهر الروح وهرس الأعصاب وطحن الدم.
إن الأرق اعتصار للذات من داخلها، أقصد، الأرق الذي يشكل رؤية قائمة بذاتها، وليس الارق الذي تفرضه الاسباب الطبيعية المدروسة، وذات الشاعر هي ذاك االتلاشي البطيء.
وحدة في كثرة وكثرة في وحدة، ولولا ثراء البذرة الأولى، لما تجلت هذه الجدلية المرتبكة في ظاهرها، المتماسكة في باطنها، وليس صعباً ان نتحسس وشيجة الامتداد الحي بين هذه الصورة و ذلك الامضاء الراسخ بين الأرق والوعي.
ان سحر الطبيعة من نوع القيم التي تسود المجتمع، واتجاه القيم من موقف الانسان، وهذه السلسلة من الحقائق اصابها الشلل، تسرّى في تضاعيفها السم القاتل، النفاق، الزيف، فكان الارق هو العالم الموازي، فان الشاعر لا يفترس الاشياء، وانما يستجيب لاثاراتها، فيؤسس عالماً جديداً
قالوا: ان الشعر نقد الحياة، وهو صحيح، ولكن كيف؟ وبأي معنى؟
ان نقد الشعر للحياة لا يكون باظهار محاسنها ومساؤها ثم بعقد مقارنة ميتة، هذه طريقة ساذجة، الشعر ينقد الحياة بطرح النموذج، والنموذج يكشف ويفضح ويبين، لانه اشبه بالمثل الاعلى، أو هو مثل أعلى، والمثل الاعلى يحمل في طيّاته مهمة نقديّة راقية.

21/5/1998


(*) نشرت في صحيفة "الفينيق" الأردنية ع43  1/2/1999
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search