أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
صراخ بحجم وطن !!

د. نوري المرادي
- السويد -

"صراخ بحجم وطن" هو الديوان الجديد للشاعر عدنان الصائغ, الذي أصدره العام الجاري عن دار المنفى في السويد, ويضم قصائد نضمها الشاعر في بغداد ومدن الاغتراب. وللوهلة الأولى يبدو العنوان غريباً عن المفهوم الجاري –"صراخ بحجم وطن" فهل هذا معقول؟! فزمن العفاريت التي تولج الجبل في عنق زجاجة والجمل في سم الخياط مضى, فأي وطن ذلك الذي صار بحجم الصراخ؟! ومتى صغرت الأوطان في عين الشعراء؟
فعن الوطن يقول الصائغ:

"وكان المعلم حين يعلمني
كيف أرسم فوق الكراريس شكل الوطن
أغافله ثم ألصقه فوق قلبي وأبكي
وحين تسلقت يوماً لأسرق رمانة راودتني
ترددت ساعتها ورجعت لمدرستي راكضاً
خوف أن يغضب الله مني ويزعل مني الوطن"

إذاً, فالوطن, وإن احتواه الوجدان وصار كالحب البديهي الذي تعلق بالقلب, فهو ليس صغيراً, ولم يكن, مطلقاً, وحاشى شاعرنا الصائغ من اللوث وخلط الحديث وهو الذي يقول عن الحكيم:

"بينما كان يلقي محاضرته
في القاعة المحتشدة
كانوا هناك
يفصلون جثته على مقاس التقارير الواردة
ويتركون ما تبقى من دمه
في ثلاجة العائلة
حين ترجل من المنصة
وسط موسيقى التصفيق
تحسس عنقه
لم يجد غير فراغ مهول,
وثمة حز طويل ما زال ندياً فوق ياقته
ركض هلعاً إلى الجمهور,
مستنجداً بالكراسي الفارغة
متعثراً بقهقهات الصدى
لا أحد
غير حارس عجوز
كان يهذي عن رجل مخبول
شاهده قبل قليل
يبحث بين المقاعد
عن رأسه المقطوع!"

فالصائغ إذاً واع, ويعلم حتى ما ينتظر الحليم بين المخبولين, والعارف بين أشباه السعادين, وحنينه لذلك الوطن ليس أقل من حنين الجواهري العائذ حتى بين الماء والطين, حين قال:

"لي بظل النخيل
بلاد مسورة بالبنادق
كيف الوصول إليها,
وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب,
وكيف أرى الصحب
من غيبوا في الزنازين
أو سلموا للتراب
إنها محنة بعد عشرين
ان تبصر الجسر غير الذي عبرت
السماوات غير السماوات والناس
مسكونة بالغياب"

ربما, اعتصرت أسواره البنادق ذلك الوطن وصيرته بحجم الصراخ! وهو على أية حال "وطن يبدأ من خطاب الرئيس وينتهي بخطاب الرئيس". وهو وطن "نصف تاريخه أغان وكحل ونصف طغاة" وشارعه لم يفتأ "ملغوماً بآذان, يربطها سلك سري بذلك الرئيس", آذان تنصت حتى على:
الذين صُفّوا في ساحة الإعدام
حملقوا بعيون مرتجفة إلى الفوهات السود
المصوبة إلى رؤوسهم الحليقة"
نعم!!! و"الحروف نميمة
والطبول لحاء تساقط من مقصلة
يدفعوك للقبو تنبح خلف دماك التقارير والمقل القاحلة
فيصرخ فيك المحقق مرتعباً
كيف بدلت شين الرئيس
بثاء تعيس
سللته إليك المناشير في لحظة غافلة
سيدي إنه محض طبل تشقق من كثرة الضرب
فاختلطت في تجاويفه الأحرف القاتلة"
سيدي! صاح الشاعر, إياك لا تفعلها! سأذهب وأشتكيك إلى وطني العراق! سأشتكيك عند العالم الآخر لو أرسلتني إليه! إياك, سأشهد, لو أبقيتني, عليك الأوطان الأخرى...
"سأتمدد على أول رصيف أراه في أوروبا
رافعاً ساقي أمام المارة
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات"
سأقول لهم:
"ليس ما أحمله جواز سفر
وإنما تاريخ قهر
حيث نقف أمام المشانق نتطلع إلى جثثنا الملولحة
ونصفق للحكام خوفاً على ملفات أهلنا
في أقبية الأمن"
"سأوزع" يا سيدي "قلبي", هناك, "على الأرصفة"
سـ "أنتظر العائدين من الموت" تحت يديك,
"في عربات الصدف"
وبينما سها الجلاد لحظة, غارقاً بالتفكير فيما يفعله ليجعل الناس في الأوطان الأخرى, تصفق له بحرارة كالناس الذين تحت يديه, وكيف يجعل الجيوش في البلدان الأخرى تتلقط أخبار انتصاراته كما تفعل أجهزة استخباراته, ليجعل الناس هناك يلفظون هؤلاء الذين يفترضهم ضالين جاحدين فالتين من حسنات سياطه, بينما غرق الجلاد في تفكيره لحظات, فهم الشاعر خطأ, أن جلاده احتشم وخاف الفضيحة عند الآخرين هناك, فغادر الزنزانة, عائداً لشعره, عائداً ليجعل القلم يخط ما يقوله الوجدان, فاختلى يوماً يكتب قصيدة فاذا به يقول:

"منذ الصباح وهو يجلس أمام الطاولة
فكر أن يكتب عن ياسمين الحدائق
فتذكر أعواد المشانق
فكر أن يكتب عن الهزائم
فتذكر نياشين العقداء اللامعة
فكر أن يكتب عن الانتصارات
فتصاعد في رأسه نحيب الأرامل
ممتزجاً برفات الجنود المنسيين هناك"

ففكر أن يكتب عن جلاد خاف ضحيته, فخانته القوافي, وذهب يستعين بمن عرفهم ممن نطقوا صدقاً وقالوا سابقاً ما علمهم الوطن والوجدان, فذهب حيث عكاظم, حيث المربد لما كانوا يجتمعون هناك, فإذا الحال كالتالي:

"دخل الشعراء الرسميون إلى القاعة
واكتظ الحفل
لكن الشعر غريباً ظل أمام الباب
بملابسه الرثة يمنعه البواب"

فطلق الشعر, ورمى الطومار, ليحيى الآخرون بلا شعر ولا حكايات. فمن اشترى شعراً بهذا الزمن ومن استنطق عبرة من الأخبار! وعلّ الخمر يذهب ذلك الهم, فذهب لصاحب كان يوماً قد أبدل عبارة في قصيدة له بأخرى, حتى يختلط الأمر على الرقيب, تلك العبارة التي يفهمها الطغاة ولكن بعد حين, حين أما أن يكون الشاعر قد شبع ذبحاً ولا يؤذي الشاة المذبوحة السلخ, أو أن يمضي الرقيب إلى من مضت بهم ريح الدبور. فدق الباب, في غفلة من هدير القصف ورحب به الصاحب النديم, ولكن ما هي غير لحظات حتى:

"بكى صاحبي لما رأى الوطن القلب
تنهشه الطائرات
تنقر في نبضه قطعاً من ضلوع المنازل
والشهداء"
و"النجوم, دموعنا المعلقة بالدبابيس في
ياقة السماء"
"أيها الرب!!..
افرش دفاترك وسأفرش" معاناتي "وتعال
نتحاسب"

فما فرش الرب دفتراً ولا إزاراً, بل فاق الجلاد "من حلمه برماً وصاح في جنده:
كمموا الريح!" جيئوني به الساعة, أو تندمون! وما مر غير قليل, والوطن تربطه الأسلاك وملاقط التنصت والعيون وجدوه, و:
قادوه "معصوب العينين إلى الخشبة
وأداروا" نحوه "فوهات بنادقهم"
فعاينهم وصاح.. صارخاً "قفوا!!
ستجروّن على هذه الرقعة أيضاً
كبشاً بعد الآخر كي تعلو فوق سلالم أشلائكم التيجان"
وما سمعه من الجنود أحد. وأنى لهم أن يسمعوا, وهم أشلاء تتحرك وأموات لم يقبروا. وعندما "أخرجوه من الكوة المقفلة, بعد عشرين عاماً" جثة مهملة, اكتشف الجلاد حسب التقارير الواصلة, أن طيفه لا زال "يحلم بالثورة المقبلة", فعالجته السياط المملحة القاتلة "على طاولة الأسئلة", وألقته "إلى مزبلة" الأشباح المنملة" ويا لها من نازلة ماثلة, للأشباح فيها والعفاريت مقصلة, ويا له من صراخ موجوع ليس له في حاله أمثلة. وليس الوطن صغيراً إذا, بل الصراخ عظيم,, عظيم,, بحجم الوطن!.


(*) صحيفة "الوفاق" – لندن - ع339 10 كانون الأول 1998 صفحة ثقافة
 
البحث Google Custom Search