أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
كيمياء الغربة لعدنان الصائغ:

شعر يليق بوطن ليس لنا

عذاب الركابي
- ليبيا -

1.     وتبقى القصائد أبداً.. ويبقى على الأرض "ما يتركهُ الشعراء" هذا ما قاله "هولدرلين" وقد أثنى على قدماء اليونان حين جعلوا للشعر إلهاً، يحرس نبض هذا الكون، ويباركُ خطوات إنسانه الحالم الجريح..

والشاعر "عدنان الصائغ" في ديوانه "تحت سماء غريبة" يجسد كيمياءَ غربةٍ مزمنةٍ، خالدة خلودَ القصائد، خفض لها جناح الود فسكبت في أحشائه عصيرَ القصائدِ، وزرعتْ فوقَ لسانه أعذبَ الشتائم الملائكية، أرادَ بها الفوز على زمن جاحد، وعصر خؤون أرخص ذراعيه للسماسرة، والطغاة، والمخبرين، وماسحي أحذية السلاطين المتهرئة..، تناصرهُ وترتفعُ بهمومهِ لغةٌ شعرية متمكنة، ودافئة، قادرة على إطفاء نيران شاعر غريب.. فكانت سلمهُ للفوز، أيضاً بقرصِ الشمس.

"كانَ يلزمني للرحيلْ
انطفاءُ الحنينْ،
وقبرتانْ
وذل التسوّل في الزمن – الثلج
ظل التجمّلَ في الوطنَ القمع" ص9

2.     أي غربة هذه؟ أي انكسار؟ وأي وجع مزمن تحاول أن تنكس راياته أيها الشاعر العاشق؟.. ولكن لا تبتئس فثمة شمس لها ضحكة أنثى.. وثمة فجرٌ من عسل ولوز وقبلات. وكلماتك تبقى تحرث في ذاكرة التاريخ.. وفوق إصبعه المراوغ والمهادن وطنا بنفسجياُ لا يليق إلا بك.. وطناً لا يليق إلا بالشعراء المذبوحين عشقاً!!

3.     أي عالم قاس، وحجري القلب هذا الذي نعيشُ فيه، استنشق هواءه الفاسد، وهو يبدع أبشع وسائل الرعب والدمار، ويتفاخر بذلك بكل وقاحة ويمشي بزهو مفتعل، كطاووس خائب ركلتهُ أنثاه..!! أي عالم بلاستيكي القلب هذا الذي يعمق جراحنا، ويوسع من مساحة غربتنا، ويبدع كلّ يوم لنا أسباب النفي والتشرد، والجوع، والظمأ، والموت، ويمنع بشتى الوسائل كلماتنا، ورسائل عشقنا، وشوقنا لأهلينا، لأناس محاصرين بالقهر، والموت المجاني، والرغيف المراوغ، وإذا ما أرادَ الشاعر أن يغني للوطن.. أو لامرأة يحبها، أو لنهر عاشق يشتاقُ لأعشابه، وأسماكه، وموسيقاه.. أصبح مطارداً، محاصراً، حزيناً،.. وكانت هذه بعض معاناة الشاعر "عدنان الصائغ" في سمائه الغريبة.

"ما بيننا البحر
والمخبرون
وهذى البلادُ على بعد آه، من الياسمين اليتيم بقمصاننا
المنافي تضيق بنا..
والفيافي تحيقُ بنا" ص 6
* *

4.     لقد قلتُ في مقال سابق عن "الصائغ" أن شفافيته الجميلة هي مصدرُ الجذب لديه، وهي نافذتهُ السحريةُ التي يدلقُ منها همومَه وأحزانه تارة.
ويستقبل أحلامه التي صادرها المخبرون وحرس الحدود تارة أخرى:

"يصفر شرطي المرور
إلى دِمنا المر
أن يتوقفَ،
كي يمرقَ الباصُ
محتشداً بالمدينة" ص 5

ولم يعلن الصديق الصائغ في "سمائه الغريبة" عن خلود القصائد فحسب، إنما يؤكد على فعلها في زمن الغربة والذي يفوق فعل جيش تترى حين تغضب، وتدين، وتقوّض مدناً، وتحرق رموز القهر والتسلط والطغيان:
"يوقفني المخبرون بباب المطارات منقسماً
بين داري وسيقان من يعبرنَّ دمي
في ثياب الأغاني القصيرة..
لي وطنٌ في الحقيبة كيفَ أهرّبهُ من عيون المفتش وهو يجوب مسامات، نبضي رصيفاً.. رصيفاً،
فيربكني نايهُ في الجنوب البعيد..،
أنين قرانا التي مشطتها المفارز والطلقاتُ" ص10
5. أي غربة قاتلة هذه التي جعلت هذا الشاعر العاشق منكسراً، وحيداً يعيش على ذكرى وطن.. ولم يبق لهذا الفتى السومري الذي لعبت به القصائد، ولعب بها كطفل مشاكس،.. لم يبق له غير امرأة فردوسية الحنين، وطفلين من تين وزعتر، وتذكرة بللها مطر بربري.. مفاجيء، لقطار صدئ مضي:

"أرى مدنا نخرها الجنودُ
وأخرى رمتني ككلب طريد وراء الحدود
وأخرى تعلّق – في الحرب – سروالها راية
-     أين نسيت القصيدة؟
-     لم أنسها..!!
كان محض جنوح إلى عزلة الروح
تلزمني غابة للصراخ، ومحبرة من دمٍ
كي أتم القصيدة" ص 11

6.     لقد خسرتّ أيها الشاعرُ بعض أسلحتك، ورميتَ الآخر، ولم يبقَ لديك غير القصائد!! ربما تؤمن لك هذا الرصيد المتواضع من الدمع، ومن الشجاعة أيضاً لتبارز مدينة جاحدة – كنت قد سورتها يوما بحلمك البرتقالي ودمعك الياقوتي – علك تقذف بها خارج غرفة قلبك الدافئة. ربما يلزمك أيها الشاعر الجريح بعض الصراخ، والوقت، ومحبرة من دم، لتهزم هذا الزمن الصلف، وتشنقه بحبال عناده وغروره، وبحروف القصائد وتلك أمنية صباحية ربما حققتها لك القصيدة.. !!
والسؤال.. هل هي الغربة التي فتحت لك كتاب الخراب هذا، ودلتك على بساتين الرقة والدفء والتي ميزت قصائدك..؟!..
‘ذا كان كذلك .. فلتكن أيامك أيها الشاعر الغريب كلها ورقاً، وضباباً، وخراباً، وفوضى

"ماذا تفكر في شاعر من خرابْ
كل أيامه ورق..
وضبابْ"

7.     وفي "السماء الغريبة" هناكَ وردة الحلم التي لم تذبل، تفضض بأريجها سنين عمره وتمنع شيخوخة الوقت من أن تداهمه، فيستحضر أسماء، وصور الأصدقاء، ومواعيد العشق، ومسودات قصائده الأولى التي تركها هناك تحت وسادة النخل، وفي فم ذلك النهر الحزين.
وإذا كانت الغربة قد أمرت جنودها الطائعين، وبنت للشاعر كل جسور الود، والتذكر، والحنين هذه، فأنها قد ميزته عنا جميعاً بشجر الجرأة الضارب في أعماق شاعر ودود مثل "عدنان الصائغ" لم ينس وصايا مدينته التي توجته بالشعر، والطيبة، والغبار:

"كلما سقط دكتاتورٌ
من عرش التاريخ، المرصع بدموعنا
التهبت كفاي بالتصفيق
لكنني حالما أعود إلى البيت
وأضغط على زر التليفزيون
يندلق دكتاتور آخر
من أفواه الجماهير الملتهبة بالصفير والهتافات" ص 43

8.     "عدنان الصائغ" في ديوانه "تحت سماء غريبة" لم يتخل عن عذوبة وشفافية لغته، والتي كانت مثار جدل بيننا نحن أبناء جيله،.. ولم يتخاذل فيؤجل مطرَ إصراره. وصدق خطوته.. وجنونه بحروف وطن ليس له الآن.. وليس لنا أيضاً، وانه في فمَ ريح صلفة!! .. فقط له غربة "مزمنة، وكتاب دموع، وجواز سفر تبيض فيه أنات العناكب".. وجرح غائر يأخذنا – بين الحين والحين – إليه:
"كلما فكرت في الغربة.
سبقتني دموعي إلى الوطن"
ونحن سبقتنا الكلمات "نساؤنا الجميلاتُ" إليك أيها الشاعر العاشق أبداً.
* تحت سماء غريبة – عدنان الصائغ – منشورات البزاز 1994
* دراستي عن ديوانه "مرايا لشعرها الطويل" مجلة المسار التونسية العدد 28-29 عام 1996م



(*) صحيفة أخبار الأدب - القاهرة - 29 نوفمبر 1997 ص "ساحة النقد"
 
البحث Google Custom Search