أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ في "تحت سماء غريبة" :

قصائد ذات ملاح متشابهة وطاقات
مكشوفة من القراءة الأولى

خالد محمد المصري
جامعة اليرموك- أربد/ الأردن

يتميز الشاعر العراقي عدنان الصائغ بمقدرة واضحة على الإمساك بالعادي والمألوف المستهلك ولملمة أشياءه المبعثرة وتطويعها داخل فضاء جوّاني لتسير في مسلك شعري متنامٍ تغذيها حدوس باطنية واستلهامات مؤثرة لأشياء غائرة ومختبئة في مناطق جانبية ناتئة تسترها حُجب اليومي المُبصَر صريح الظهور. وعدنان الصائغ, ببصيرته الشعرية, يمسك بتلك الأشياء ويمرر حدوسه عليها بعد شحذ الطاقة للتركيز على بؤرة واحدة فيها, يطيل تأمّلها ويبرع في إدخالها في نسق واحد مع محايثاتها حتى ينعطف, في النهاية, بالمجموع باتجاه ثيمة أساسية مقصودة تسيطر عليه. وبذا تتأسس القصيدة عند الشاعر بمعالجة أشياء تبدو عادية ومبعثرة هنا وهناك, برهافة دقيقة, وإعادة ترتيبها بشكل يمنح تبعثرها انتظاماً واتساقاً داخل تكوين مبهر ومبهج.
يأتي ديوان "تحت سماء غريبة" الصادر عن منشورات البزاز بعد ستة دواوين صدرت كلها في العراق. في هذا الديوان تواصل الأنا الشعرية هديرها المتفرد والمدهش الحامل لطرائق خاصة ومعتادة في القول والتشكيل لا تقصر عن غمر المتلقي باللذة, هذا الهدير يسري, في مجمل آليات الاشتغال, في مجرى واحد يكاد يكون مستقيماً, لا يصادف صخوراً تكسر رتابته, ولا يمر في منعطفات حادة تحول مجرى السير صوب تفرعات أخرى.
أن قصيدة الصائغ مشغولة بموضوعات كبرى كالحرب, لكنها لا تتورط بإطلاق صرخات غنائية عالية أو نداءات حالمة, بل تشدد التركيز على علاقة الإنسان, شاعراً.. جندياً أو... بالعادي من الأشياء والأحداث اليومية المكرورة التي تقع في ظل الموضوع/ الحرب أو على حوافه ليعيد لها حقيقتها المفقودة وليخلصها من تأويلات بعيدة أو من رتوش عالقة بها.. إنه يبقيها كما هي أصلاً, ويجعلها تتحدث عن نفسها وعن هواجس إنسانها الذي تتوزعه أبعاد جارحة مختلفة كالقلق الدائم على مصيره, أو الخوف من ضياع وطنه, أو إدراكه لعدمية الحرب وعبثية نتائجها :

"تضيق البيوت
وتتسع العائلة
تضيق النساء, الخنادق, والأصدقاء
وتتسع الطلقة القاتلة
وبينهما أنت مرتبك ووحيد
بين أن تبتدي في شتات الجنون
أو تنتهي في سبات السجون"

وتخلًق القصيدة, عند الشاعر الصائغ, إنما يتقوّم بتشديد التركيز على المشهد البصري بانفتاح ذات الشاعر على المحسوس ومحاولتها ضبطه واستبطانه. ترصد الذات حالة ما تقوم بملاحقتها بسلسلة نامية من التراكبات للوصول إلى لحظة معينة في سياقها العام والإمعان في تأملها وتفحصها لتتكشف عندها مصائر خطوط البناء المحسوبة بعناية, ومن ثمّ تضاء جوانب المشهد وتتجلى مناطق كمون الشعرية المرتكزة في جسد النص (في الأرض الحرام, في حديقة الجندي المجهول, أجاممنون, دبابيس, حبل غسيل, وقصائد أخرى):

"الندى ..
فوق سلك السياج الصديء
قطرة ..
قطرة ..
يتساقط من دمه
النوارس تعبر جثته – لامباليةً –
..........
..........
وهو مسجّىً - على العشب –
تفصله طلقة في الجبين
سلك عالق بملابسه العسكرية
وهو يهمُّ ليعبر ..
..........
لا أحد يعلم
ما كان يحلم
لحظة داهمه الموت
لا أحد يعرف الآن
من أين هذا القتيل؟"

ثمة معادلة خفية في عملية الخلق الشعري يحرص الشاعر, عادةً, على إقامة التوازن بين أطرافها, هذه المعادلة تتمثل في إحداث تعادل داخلي بين تدفق الصور الشعرية والانتهاء إلى بناء كلية القصيدة على نحو دال, فكثيراً ما تتكاثر الصور وتتدافع بغزارة في حين تقصر عمليات بناء وحدات القصيدة ضمن نسق متراتب غير مختل تتآزر فيه الانثيالات الشعرية للوصول إلى بنية محكمة, وقد يحدث العكس إذ تنضب التدفقات الشعرية لصالح استظهار قصد النص بخطابات نثرية. إن طبيعة قصيدة الصائغ لها من إجادة اختيار زاوية النظر وفرادة طريقة الاشتباك مع الموضوع ما يمنحها تميّزاً  خاصاً, إنها طبيعة تتغاير مع السائد في الساحة الشعرية, تحمل في طياتها جاذبية وعذوبة, وهي في تحقيقها لخصائصها المنحازة لا تتكيء على الإغراق في التجريد أو الارتداد إلى دواخل النفس وإدراج ما تبثه في سياق هذياني يستعصي على المقاربة. إن جمالية قصيدة الصائغ لا تتأسس عبر صور جميلة مُدرجة في سياقها العام وحسب, بل تتمظهر الشعرية من خلال البناء المكتمل... شعرية تظهرها كليّة المشهد المرسوم:

"الفتى هائمٌ
خلف طاولةٍ, من ندى وفضول
تفصل البحر عن دمه
والصبيّة
خلف المجلة, ساهمة
صدرها من مرايا ولوز
تفتّح تحت قميص الحقول
ارتبكا...
حين حطّ على النافذة
ظلّ طيرين .. يعتنقان
نهضت أمها
تسدل الستر, في حرج
فاسترابا
وطارا بعيدين
لكن ظلهما
ظلّ مرتسماً
في فضاء الذهول"

لقد أشرنا إلى ما تتمتع به قصيدة الصائغ من ميزات العذوبة والجاذبية, ولكن ما مدى كمون العذوبة والجاذبية في وجداننا؟ وإلى أي حدّ تستغرقنا قصيدته؟ وإلى أي مدى تعلق بذاكرتنا؟ . هذه التساؤلات تستمد مشروعيتها من الحرص الشديد على فرز واستظهار قصيدة رياديّة تكتنز طاقة تأثرية لا تتوقف عند نهاية, وتمنح بعلاقاتها تجدداً دائماً يحفظها من التسرب والنسيان. إن طبيعة النظر الواحد للأشياء وآلية الاشتغال الشعري التي تكاد تكون وحيدة عند الشاعر أنتجتا, في مجمل دواوينه, قصائد ذات ملامح متشابهة حدّ التناسخ, سواء أكان ذلك في قاموسه الشعري أم في طريقته في نحت الصورة وبناء المشهد, بكلمات أخرى, تبدو قصيدته ذات ملامح واحدة.. قصيدة تستجمع طاقاتها وتجعلها في مواجهة المتلقي عند القراءة الأولى, وكأنها لا تبقي في دفينتها ما تكشفه قراءات تالية متأملة.
 
البحث Google Custom Search