أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ شاعر ينضج تحت سماء غريبة

محسن الرملي
- مدريد -

بعد سيل الاكتشافات الجديدة والمتجددة لحقول "الشعرية" في شتى ميادين الفنون, حتى ما كان منها غير منتم لجنس الكتابة: كالرسم والموسيقى والنحت والرقص وغيرها... أصبح من المتعذر والمتحذر حجب صفة الشعرية والشاعرية عن أية جملة كلمات يتم رصفها جوار بعضها, أو نفي تسمية "شاعر" عن أي شخص يزعم أنه شاعر, الأمر الذي سيضطرنا إلى اللجوء صوب باب المفاضلة والتشديد على التسمية بغية تمييز الشاعر عن غير الشاعر وبالتالي الشاعر الحقيقي عن الشاعر الطاريء أو المتشاعر, ومن خلال هذا المدخل نشهد – هنا – ونقول بكل ثقة: أن عدنان الصائغ "شاعر.. شاعر" بغض النظر عن مستوى اهتمامه بالتجريب والاشتغال فيه وعن مدى بطء هذا الاشتغال وعمقه, ذلك أن لعدنان خاصية أصالة الاستشعار لكل ما هو متفاعل مع المشاعر الإنسانية ويمتلك طاقة المرونة وبث الحركة المنفعلة حتى في الجامد من الأشياء, بل ويبرع في إنطاق المكرور والميت اليومي فيمنح كل ما يلتقطه – من بين الركام المتزايد – بريقاً وحياة:

      "أنحني كي ألم بقاياي
          من صحف اليوم
            يدفعني العابرون...."

وفي تشديدنا ومزاوجتنا لتسمية "شاعر" تجاه عدنان الصائغ... كأننا نشير أيضاً إلى تحسسنا لوجود شاعرين فيه: أحدهما غائب غائر في الهناك يستشعر الما حول وبواطنه بمجسات مرهفة.. بالغة في الرهافة.
والثاني يتلقى عنه ويدون ما يتسلمه من منقولات باستجابة كاملة واستسلام تام ينتج عنه استرسال في بث المشحون لتفريغه, ومن هنا نتمكن من تأويل انثيالات بعض القصائد عند عدنان, فنشيد بنقاء روحيته الموصلة أحياناً, ونعيب عليه هذه الاستجابة والاستلاب والخضوع أحياناً أخرى, فنقمعه حين نطالبه بضرورة إجهاد نفسه على تعلم الاشتغال في تقنيات الصناعة الشعرية حد الاحتراف.. إلا أن الحق قد يكون معنا _ إلى حد ما – في ذلك حين نقصد ضرورة العمل الواعي على المدون الذي تم استلامه من اللاوعي – إذا جاز التعبير – أو من الشاعر الغائب – الغاطس – فيه وذلك بواسطة استخدام الأدوات التي تمخض عنها نتاج تراكم التجريب الشعري والتراكم المعرفي, لكي يتم تضبيط القصيدة وعصرنتها, وليس في ذلك ما يشوه عذرية القصيدة كما يرى البعض وإنما سيجعلها أكثر حصانة وقوة وتهذيباً... ونعتقد بجزم أن عدنان الصائغ يدرك وجود هذه الحالة عنده فيعنون قصيدة له من هذا النوع بكلمة "جنوح" ثم يتساءل بعد خفوت توهجها أو بعد بثها فيقول:

             " – أين نسيت القصيدة؟ "

ثم يجيب نفسه على تساؤلها بتأكيد الجنوح والإقرار به:

             " لم أنسها
               كان محض جنوح إلى عزلة الروح"

وعند قراءتنا لديوانه "تحت سماء غريبة" الذي يحوز على التسلسل السابع بين دواوينه المنشورة سنلاحظ غياب البؤرة أو الموضوع الواحد الذي يجمع ما بين دفتي هذا الديوان, وكلما حاولنا المقاربة بين اتجاهات مدلولات القصائد فيه أعادتنا خطوط السير بعد تعرجاتها إلى ذات الشاعر لتؤكد لنا أن الثيمة التي توحدها وتنطلق منها هي: ذات الشاعر نفسه, فنسمي بؤر قصائده "نحلات" – مثلاً – تحط جميعها على وردة واحدة : هي وردة روح الشاعر فتعصر منها شعراً – شهداً, رغم أن لكل نحلة صبغتها الخاصة وتسميتها : فهذه "الحرب والذكريات" وتلك "الوطن والمنفى" وتلك "المرأة والحب" والأخرى "الأهل والأصدقاء" والأخرى "اليومي والمعاش" والأخرى "المكان والتأريخ" والأخرى "الواقع والأحلام" وغيرهن.. حيث:

               "وقف الشاعر
                 مبهوراً
                 لا يدري من أي الحلمين يفيق"
  
إن المتتبع لمسيرة عدنان الصائغ الشعرية سيكتشف بيسر فارق التحول الحاصل بين دواوينه السابقة وهذا الديوان ابتداءاً  من وضوح الاهتمام بتشذيب القصيدة وتكثيفها, وتحريرها من مثقلات كثيرة كانت تؤثر سلباً على حساب المكونات الشعرية الأساسية والخالصة ومن بين ذلك, تلك المساحات التي كانت تمنح للاقحام التعبوي الذي يجلب – بدوره – معه فجاجة المباشرة واستطالات الخواطر, والمطبوخ على سرعة نار المواكبة والتزامات التواصل الخارجي, الأمر الذي يلطخ القصيدة بالكثير مما هو غير شعري.. فبعد أن كان الصائغ يحاول قول كل شيء في القصيدة ويثق بمقدرته ومقدرتها على الطرح الشامل والكافي المتكامل لكل ما يريد, أصبح يدرك أن القصيدة ذاتها تحتاج إلى فهم أعقد وأعمق وأدق لشائكية تشكلها الخاص وأنها تتطلب اعترافاً بكينونتها أثناء الخلق وبعده.. بل نراه أحياناً يعتذر لها عن تقصيره وهو يستشعر تسربها من بين يديه أو بعدم اكتمالها حتى بعد أن ينهيها, فيتساءل:

                "- أين القصيدة !؟
                  - غَسلتها مع البنطلون المبقع
                                عاملة البار
                   .... كانت تشير
                                   لحبل الغسيل
                                                يقطّر بالكلمات"

ويقر بدائمة استلزامات القصيدة وفداحة ما تتطلبه من قرابين تضحى لشحذ الاستجابة المتمنعة بفعل الاصطدامات بمعرقلات الايجاد – الخلق – حتى بعد توهم الوصول إلى نهاية المرمى – نتيجة العملية – فيعترف عندها في نقطة النهاية : قبل الخلاص وبعد وهم – أو اعتقاد – انجاز القصيدة فيقول:

                    " تلزمني غابة للصراخ,
                                ومحبرة من دمٍ
                      كي أتم القصيدة"

كما نلاحظ بجلاء تطور القاموس عند عدنان الصائغ في ديوانه "تحت سماء غريبة" حيث أثري بمفردات عديدة كثيرة تضاءل أمام دخولها التكرار الطاغي للمفردات التي عرفناها في دواوينه السابقة والتي تتراوح بين : الحرب وانعكاساتها والوظيفة والهاتف والأصدقاء والبريد والشرفة وحبل الغسيل والأرصفة وشعرها الطويل.
... والتي أعاد التعامل معها – هنا – وفق زاوية نظر جديدة أيضاً هي أقرب إليها وأنضج بعد انجلاء العتمة ووضوح الرؤية, اثر رصدها من خارج دخان معمعة تصادماتها, وحلت إلى جوارها مفردات جديدة نأمل أن لا تستهويه حد الاستلاب – هي الأخرى – طويلاً فتعيق التنوع ومواصلة النضوج, ثم تقطع عنا نعمة التمتع باستطعام التنوعات الجديدة, ونؤشر من بين هذه المفردات أبرزها : كالغربة والمنفى والرحيل والبحار والآثار والحنين والحرية وجواز السفر.....
ومثلما نراه يحاول الموازنة بين تجاور هذه المفردات نجده يحاول ذلك أيضاً مع ذاته في تجربتها ووضعها الجديد, ومن مكان وجوده في نقطة الموازنة تلك يصف لنا صعوبة المعادلة التي تشطر روحه والتي يسميها أحياناً بالمعادلة المرّة.

                " معادلة صعبة
                  أن توزع نفسك بين فتاتين
                                     بين بلادين
                                    من حرس وأناناس"
                       ....................
                      " معادلة مرّة
                        أن تظل كما أنت
                            ملقى على الرمل
                                   ترسم أفقاً وتمحوه
                                          برقاً وتجلوه ."
                        ....................
                        " معادلة صعبة
                          أن أبدل حلماً, بوهمٍ
                                           وأنثى,.. بأخرى
                                   ومنفى بمنفى
                                        وأسأل
                                             أين الطريق؟"

أن التحول الذي يشهده الشاعر عدنان الصائغ على أصعدة الإنجاز الشعري والتجربة الشخصية تحول غير مقطوع الصلة بجذور ما سبق وإن خاضه, وإنما يأتي نمواً صحياً متسلسلاً في سلّم بنائه, الأمر الذي يجعل ما ينتج عن ذلك راسخ في ركائزه وأكثر صميمية وأصالة.. وأكثر اقتراباً من الصدق مع الذات والتطابق معها فقد شرع عدنان بقول الكثير, والصراخ بما كان يكتمه ويكبته بفعل سلطات المحاذير والمخاوف, وقد أشر ذلك أيضاً الشاعر الكبير سعدي يوسف بقوله : "إن عدنان الصائغ, بهذه المجموعة "تحت سماء غريبة" يفتتح مشروع حريته الشعري" وقال : "ثمت جرعة أكبر من الحرية, أثرت في الشكل وفي طبيعة النظر إلى المادة الخام" ثم تساءل عن قصد : "أهي النجاة من الكابوس؟" تلك التي جعلت عدنان يبوح بصراحة وجرأة أكبر ليصف ما حدث للحكيم:

                       " كانوا هناك
                         يفصلون جثته على مقاس التقارير الواردة
                         ويتركون ما تبقى من دمه
                                               في ثلاجة العائلة"
                         ........................
    
و    " كلما سقط دكتاتور
           من عرش التاريخ, المرصع بدموعنا
           التهبت كفاي بالتصفيق
         لكنني حالما أعود إلى البيت
         وأضغط على زر التلفزيون
         يندلق دكتاتور آخر
         من أفواه الجماهير الملتهبة بالصفير والهتافات
         ... غارقاً من الضحك
                  من سذاجتي
                  التهبت عيناي بالدموع"

لقد استطاع الصائغ أن يجد صوته الخاص الذي يميزه عن أقرانه من الشعراء الذين جايلوه دون أن يقطع التواصل بالتجارب الشعرية للرواد ودون أن يهمل تجربته الخاصة والتي ننبه عدنان إلى ضرورة الهضم الجيد لتحولاتها وعدم التسرع في عكسها, ومحاذرة التوقف عند اجترار الناجح منها إلى جانب محاولة تحري العمق وإيجاد حضور الاستعداد الدائم للانقلاب على الذات داخل الذات.. أي على التجربة الخاصة داخل التجربة نفسها.. ذلك أن التلون في الصوت وتعدد مقاصده لن يعيبه وإنما سيثريه ويديم تجدده, ونأمل أن يواصل عدنان الصائغ التنقل والتصاعد في خط تحليقه الذي انطلق من سماء الكوفة ومر بسماء الخوذة ثم السماء الغريبة.. وإلى سماوات أخرى.


(*) مجلة " ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search