أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
"تحت سماء غريبة" للعراقي عدنان الصائغ

في هجاء التشرد وتمجيد الحرية والتحديق بالكابوس

عمر شبانة
- بيروت -

تظل الحرية هاجساً في روح الشاعر وحياته وسلوكه، يبدأ بالكتابة الشعرية المتحررة من القيود، وصولاً إلى العلاقات اليومية البسيطة. وعليه، يبقى الشعراء أسرى دوامة القمع والتشرد، فهم وارثو الندم، ليس من أبائهم وأجدادهم، كما عادة الوارثين. بل من أبنائهم كما عادة الشعراء. هكذا كتب الشاعر عدنان الصائغ إهداءه حين قدم لي ديوانه الجديد "تحت سماء غريبة" (منشورات البزاز في عمان – الأردن)، فهو لم يجد شيئاً "سوى الندم الذي ورثناه من أولادنا".
ومنذ العنوان، يعلن الشاعر غربته عن هذا العالم، فيبدو تحت سماء غريبة، حيث تعج الحياة بالشرطة والسجون والمنافي والقطارات والمسافرين والضحايا... وحيث الكوابيس والمراثي المبكرة ومحاولات النسيان والبلاد الضيقة والرحيل والمخبرون... ثم حيث "الشعراء الأقصر قامة../ يضعون لقصائدهم كعوباً عالية" وحيث "كثرة الطعنات وراء ظهري دفعتني كثيراً إلى الأمام" وحيث "غصن حياتي ممتلئ بالعصافير الميتة". "الربان المتردد يجد كل الرياح غير مؤاتية... للإقلاع" والموت في كل شيء، و"خلف الخطى الصاعدة/ إلى العرش/ ثمة دم منحدر على السلام".
في هذه القصائد الناعمة والمتوحشة في آن، ترتسم صورتان للإنسان: الصورة التي تنجزها الحرب، والصورة التي تلغيها الحرب. وجهان لإنسان واحد، يهرب من الوطن المدمر ليبحث عنه ويقيمه في داخله. ويمضي به إلى المنافي فيتدفأ بنيران ذكرياته الصغيرة ذات الحضور القوي الباهر.
قصائد لا تمجد الوطن إلا بقدر ما تعيد صياغته في صورة تفاصيل وملامح الإنسان الذي يمثل العنصر الأساس في هذا الوطن. الإنسان الذي نجده أما مهاجراً إلى المنفى، يشير إلى البحر ويسأله "من سيظلل أحلامنا في المنافي/ وننسى على كل مرسى/ مناديل بنلوب بنسجها أهلنا..."، وإما في حانة يكشُّ الذباب المشاكس عن صحن أحلامه، ويدفع فاتورة القيء، ويتذكر أنه كان سيسافر منذ عشرين عاماً، ففي جيبه ما تزال "تذكرة لقطار مضى...".
وتقف ثنائية الوطن/ الغربة شاهدة على صورة العلاقة الملتبسة مع كل من طرفي العلاقة. فالوطن "مدجج بالحراس" وديكتاتور يندلق "من أفواه الجماهير الملتهبة بالصفير والهتافات" و"مفرزة إعدام" تمر أمام المرأة التي اقتادوا زوجها قبل عام، وحبل غسيل تنشر المرأة عليه "ثيابها السود" فتهرع جارتها وتتشبث بعنق زوجها كأنها تخشى أن تفقده كما فقدت الأولى زوجها.
ومن رموز الوطن، ذلك "الجندي المجهول" الذي لم يحلق ذقنه ذات صباح فعاقبه العريف، ثم غدا "الجندي القتيل الذي نسوه في غبار الميدان، بلحيته الكثة غدا متنزهاً للمدينة". وفي المقابل يبدو المنفى وحدة وصقيعاً وأرصفة تسكع ومهاجرين "بلا وطن ولا سجائر ولا جوازات سفر" وفوق ذلك حنين إلى النخل والحانات.
وتتلخص علاقة الشاعر بتلك الثنائية في قوله "كلما فكرت في الغربة/ سبقتني دموعي إلى الوطن".
و"تحت سماء غريبة" قصائد تراوح بين النظم (قصيدة التفعيلة) وبين قصيدة النثر، فتجيء القصيدة – من دون اعتبار لشكلها – مكثفة شديدة الاختزال حيناً، كما في قصيدة "حرية" التي نثبتها كاملة:

"قبل أن يكمل رسم القفص
فر العصفور
من اللوحة".

وقد تنفلش القصيدة لتغوص في صور ولغة وتشابيه وتراكيب مكرورة ومرددة في الشعر. وفي الحالين لا نعدم حضور الحالة الشعرية النابعة من حالات يصورها الشاعر بانفعال كبير يجعل المعنى يطغى على العبارة مرة. ومرة ثانية نجد ذلك التوازن بين الدال والمدلول فلا يطغى أي منهما على الآخر.
ولعل في قصيدة "جنوح" بعض سمات القصيدة التي يريدها ويكتبها عدنان الصائغ. إنها تلك التي تحتاج إلى لغة خارج اللغة – البيت:

"معنى يشكّله الطفل، قبل الفراشات
في رعشة البرعم الغض".

إنها عفوية الكتابة المشردة، حيث اللغة لا تتعالى على قاريء المقاهي والأرصفة، والصور قريبة من الرؤية العابرة واليومية. لغة وصور تجسد التفاصيل الصغيرة، فتقدم خريطة الحياة في توغلها من اليومي إلى الجوهري في حياة الشاعر/ الإنسان المتعدد الوجوه وزوايا الرؤية، حيث:

"النجوم التي يتوهمها المطبعي حروفاً متناثرة..."
يراها المدفعي دموع الأرامل التي
سيخلفها بعد كل قذيفة...
يحسوها السكير حبيبات طافية من الذكريات المرة...
يتلمسها السجين سجائر مطفاة في جلده...
يتأملها العابد، رذاذ ماء الوضوء
على سجادة الكون
النجوم...
ترى أين تختفي
عندما تفتحين نافذتك
في الصباح".

وثمة أبعاد في كل قصيدة، في كل رؤية شعرية، لكن قصيدة "أبعاد" تحدد، من خلال أبعادها الثلاثة، رؤية كل شخص في المشهد الذي يضم طفلاً "يلحس البوظا" و"مخبر قميء يلحسني، مختبئاً خلف ثقوب جريدته...". هذا المشهد المكرس للانكسارات، ينتهي بأن "تعصف الريح بالجريدة فيطير الحمام/ لكن النافذة تبقى مفتوحة" أملاً بالحرية.
الحياة بتفاصيلها وعناصرها – هنا – تتوازى مع الفن والحرية المفقودة، الضالة التي يسعى وراءها الشاعر، تتجلى في معظم قصائد الديوان. ففي هذه المجموعة، كما يرى سعدي يوسف في كلمته على الغلاف الأخير، يفتتح عدنان الصائغ "مشروع حريته الشعري". وليس المشروع هذا سوى محاولة للنجاة من الكابوس، استدعت – حسب سعدي يوسف أيضاً – التحديق فيه (في الكابوس) طويلاً... من موقع الحرية.
هذه الحساسية العالية تجاه الحرب (دونما وصف خارجي للحرب) تدفع الشاعر إلى التقاط رموزه وتفاصيله من روح المعاناة والقهر، والابتعاد عن الوطن في صورته القديمة بما تمتلكه من مقومات استهلكها الشعر. وبالحساسية نفسها يكتب، كأنما بالدم الحار، الحب الضائع في زحام التشرد والهجرات المتلاحقة.
تتساوى إذن عناصر الوطن من الإنسان المسجون في فضاءات وطنه، إلى ذرات التراب والنخيل ومياه النهر التي يحملها الإنسان المقهور في وطنه أو الهارب من عدم قدرته على بناء ذلك الوطن/ الحلم ومن عدم قدرته على تحمل رؤية الوطن سجيناً راكعاً أمام الجلاد – الديكتاتور!


(*) صحيفة "الحياة" 28/9/1994 – صفحة ثقافة وفنون
 
البحث Google Custom Search