أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
فيحاء السامرائي

              و... 
يسطع دائماُ، حاملاً فانوس القصيدة

 


(و...) عنوان ديوان صدر حديثاً للشاعر عدنان الصائغ ضم بعض من قصائد جديدة وأخرى نشرها أو ألقاها في محافل ثقافية متنوعة، يضم 74 قصيدة، بعض عناوينها متكرر كـ (حرب) و(مرآة) و(تشكيل) و(غربة)... والمعروف عن الشاعر كدّه الانتاجي والابداعي المدعم باجتهاد معرفي ورهافة احساس وبراعة صور شعرية، وتحمل قصائده عشقاً ووجعاً وتأملات فلسفية، تموج بمعان انسانية وبعواطف مشبوبة لمنبت حالت بينه وبين قلب مغروس به، منافٍ ومسافات غياب لأخلاق وأزمنة، لتنبت وتتجذر في داخله أعشاب ذاكرة لا تنفك آخذة به نحو واحاتها وفيافيها، بشهدها ومرّها...
ويأتي الديوان جسداً مكتنزاً بسمات روحية عميقة لشاعر، يحتضن حرارة أشعار تشع من واقع عايشه وامتلكه، ونفس تحيا منزوعة من أحلامها، معبأة بتساؤلات وخيبات، وذات حائرة هائمة، تيمّم وجهها صوب أرض مشوّهة وملوّثة بطغاة وعتاة ومغالاة، وتندب أبناءً تلاشوا وتناثروا في موت وشتات... فالشاعر غالباً ما يقلّب ماض رابض فوق جمر فواجع ومحن ونار عشق وغرارة عمر بيد الاستذكار وكماشة الذكريات، ناشداً سحق حياة صعبة عاشها زمن الحروب وتوهان الدروب، بمطارق قصائده... ورغم اختلاجات المفردة المنتقاة والمحمولة على أكف لغة رقيقة ورهيفة، يلاحظ في بعض القصائد تكرار الحدث واعادة استخدام بعض الألفاظ (حزن، وحشة، تذكر، وحدة، غياب، فقدان، عراق...)  ويرتسم في صوره الشعرية انطفاء لأشياء مغرقة بسلبية المنفى، رغم إيجابيات توفرت للشاعر خارج الوطن... وتبرير ذلك كما أحسب، شدة تعلق الشاعر بوطنه ليتحدث عنه وهو يعنون قصيدته لندن أو باريس، وليكون مسكوناُ به رغم وجود جسدي له في دول أوربية، لم تفرض عليه استخدام أجوائها ومحاسنها ومصطلحات لغتها، لإبتلائه بأرض أخرى، فلا ترى عيناه غيرها ولو في دمامتها وخرائبها وسوئها وفواجعها ونكباتها وسوادها، وكأنها عادة وفاء وإخلاص توارثناها نحن العراقيين، في بكائيتنا وانتحابنا على أطلال ديار لنا، وحنيناً لماض ومكان مرّا بنا ولم يبرحانا.
تتوزع في أرجاء قصائد الديوان مواضيع ذات بعد وجداني وفكري واجتماعي وأخلاقي وسياسي وتراثي، كثيمات الوطن والمنفى  والحرب والحب والرب وأنا الآخر، وأنا والآخر، والنفس الحائرة المكبلة بتساؤلات، في مناقشة لمعنى الوجود والخالق، مما يوسمها حتماً بميسم الجرأة والمشاكسة، وفي الخصوص حين تتحرش بمألوف وموروث ومقدسات، وكأن كاتبها ينادي من على جواد شعره: هل من مبارز؟...مسترشداً بدعوة الشاعر الأمريكي ويليام كارلوس ويليامز: (اكتب كما تشاء بلا مبالاة، حتى يهلك كل شيء ليس أخضراً و يفنى)
وتتمازج وتتماوج التجربة الذاتية للشاعر مع ثقافته فتتجلى في عدنان الانسان، وعدنان المواطن، وعدنان المفكّر، وتتضح أيضاً في بصمات فنية تتميز بها قصائده لا تدنو من خطابية مباشرة، رغم توصيفات، بعض صيغها تبسيطية موجزة وسهلة الهضم، تحقق قوة شعرية مبهرة في الوقت عينه، وتتسرب برقة من عالم خارجي مادي خشن، الى آخر داخلي يفيض بروحانيات وجمال.
امتلك الصائغ في ديوانه جسد القصيدة، فنراه يذرعه جيئة وذهاباً، تارة بوزن وتارة بنثر وأخرى بسجع أو في مرات أخر، بتحرر من أدنى اعتبار لأي تقليد شعري... مراعياً على الدوام تجسيد معاني قصائده في شكلها، فتتيح له تقنيات كولاج وتشابك غير مفتعل، بين تشكيل لغوي وتركيب بنائي وتقطيع عضوي واع للصورة والمفردات والعبارات المتناثرة في القصائد، جمالية شكلية ووظيفة دلائلية، ترمي الى تعميق فعل درامي وموسيقي دون إخلال بوحدة القصيدة العضوية...
وفي منحى آخر يستخدم قصيدة الومضة، ذات الضربة السريعة في ارتدائها لثوب اللحظة والطاقة الخبيئة والاستنفار الشعري، وإظهارها حاجة النص الى التكثيف الخاطف، تلبية لحالة تشظٍ أو قلق وصراع داخلي تعتمل في ذهنه، أو ضرورة تتحكم بها ضوابط فنية وبنيوية، كما أورد الناقد الانجليزي هربرت ريد في وصفها، هي (عندما يسيطر الشكل على المحتوى -الفكرة- أي عندما يمكن حصر المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية والنهاية، بحيث تبدو في وحدة بيّنة).
وتبدو جلّ قصائده كلوحات فنية، ألوانها حروف مقطعة أومكررة أو ممتدة أو متدرجة، متحدية "تقاليداً بصرية" اعتادها القارئ، ليؤدي التشذير والتقطيع وظيفة هندسية ووحدة مضافة الى النص، رغم التفكيك الجزيئي وتمزيق أوصال الكلمة الذي لا يعيق تواصلها السياقي مع المقطع، وحري بالشاعر الذي يلجأ الى ذلك التكنيك، أن يستخدم توزيع السواد على البياض بعيداً عن كونه زينة خاوية من دلالة عضوية، ينجم عنها تفتيت وتخبط عشوائي ورغبة غير مدروسة في التجريب والتغريب.
كما وتتزين بعض القصائد بتقنيات الخلو من عنوان/ بالامتلاء والفراغ/  بنقاط دون كلمات/ بعدم إكتمال عبارة أو كلمة/ بمد حرف/ بتكرار آخر/...فنلاحظ مثلا في قصيدة (هم) الايحاء باندفاعة وخفة كلمات مثل:(الريح ـح ح) (طار رررر  ر/ ر/ و.../ طارواااا ا/اا/ ا)...ونحس بلذة الفعل وامتداده في قصيدة (أمينة...) حين يصور لنا زمن ونشوة عملية الاندماج والتواصل كما اللحس:
كل خلية
في جسده
لســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان
يلحســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني
وفي قصيدة تحمل عنوان (...) نرى تدرج الكلمات الذي يشبه رفات لميت على مشنقة: 
حتى تزهر أعواد دموعنا المتيبسة
على أديم رفات 
آخر 
الطغاة
و 
آخر 
الغزاة 
تقنيات الشكل هذه، ليست أمراً طارئاً أو جديداً في الشعر، استخدمها كثير من الشعراء المعاصرين، يكتب سعدي يوسف عن مدينة الكوفة التي يرحل منها:
لكن القرن الأول لم يعد الأول 
ها نحن أولاء نغادرها 
م
ش
ن
و
ق
ي
ن
ويفسر النقاد بأن في تقطيع كلمة (مشنوقين) هكذا، صورة توحي بتساقط هؤلاء واحداً إثر الآخر وتدليهم مثلما المشنقة.
وفي قصيدة (قالت لي العرافة) استخدمت فدوى طوقان تكرار الكلمة وحذف آخرها، في إيحاء دلالة "سرعة تنفيذ القتل"
أخوتي لا تقتلوه يا
لا تقتلوه 
..... لا تقـــ
تستخدم تلك الوظائف الفنية شاعرات عديدات وشعراء عديدون، للايحاء "بتغيير المزاج الانفعالي" والحالة الشعورية، ونلمسها في التنقيط وبملاحظة الأفعال ماقبل وما بعد التنقيط، في فعل يهدف الى استعانة المعنى بالفضاء المكاني، لحفظ التوازن الفني، حيث أن الفراغات المنقطة تصبح موحيات لتوظيف العبارة، بوصفها صدى يتكرر، تعبيراً عن حالات توتر إبداعي، مثلما نحت نازك الملائكة إلى رفض توزيع الأسطر على أساس المعنى. 
واستكمالا لوظيفة اللغة، استعمل الشاعر كلمات خشنة في موضوعة الحرب مثل (مفخّخة/ مفخّمة/ منفّخة/ قذيفة/ رصاص...) وللإغتراب كلمات موحشة متأسية مثل (غصص/ مثقلة بالغياب/ خريف موحش/ الآه والترحال/ التحفي...) وأخرى ناعمة في حالات الحب (القبلات/ رفيف فراشات وشهوات/ فتنتها/ الموسيقى/ تزقزق في غابات عينها...)
وفي تناوله للدين والغيبيات، يتمترس الشاعر خلف لغة رافضة متمردة كما في قصيدة (طواف): (عاند / يصطرع / أشركت / كفرت / عنوة /  عصيت...) وفي جوهر تساؤلات جريئة كما في قصيدة (لِمَ أنت صامت) يشكو الرب لصمته على أضرار ونوائب تحيق بعباده، وينحو في قصائد أخرى، بلائمة بيّنة على رجال مدّعين يخربون البلاد والعباد بإسم الدين، ويخشون من العقل والمناظرات العلمية والعقلانية فيأمرون بالمسلّمات ويحكمون بالشفاعات ويعدون بالثوابات. 
واستخدم ما يطلق عليه في اللغة الانجليزية  (ِAlternation) في بداية كلمتين متجاورتين كما في: 
(البلاد، البلايا / النأي، الناي/ قيلها ، قالها / التفريخ ، التفخيخ...) أي تكرار موسيقية نفس الحرف أوالصوت: (ب) (ن) (ق) (ت)...
يكررالشاعر استخدام ضمير المتكلم لوظيفة أخرى غير الفاعل، فتكون أناه هي فاعل ومفعول به:
كيف ألمنّي/ أخذني مني... فكيف أردني ألي؟/ فأغادرني/ أسكنني... فأين أيني؟

ويبرز الوجود الصوتي كما لمّح رينيه ويليك (كل قراءة بصوت عال أو انشاد للشعر هو أداء للقصيدة وليس القصيدة ذاتها)  في أغلب قصائد الديوان، دون هدر لغوي وزوائد لفظية، ويكتظ شكل القصائد ولغتها بتقنيات معاصرة متنوعة لا خسائر فيها، ولامجال لتناولها بشمولية هنا، تحمل المتلقي الى غنى التفكير وسعة التخيل دونما ملل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر في موقع الحوار المتمدن 27/7/ 2011، وموقع "أدب وفن"  28/ 7/ 2011. 
 
البحث Google Custom Search