أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تراتيل

تأبط منفى

محمد الدبيسي
- السعودية -

«الجوع.. يمد مخالبه في بطني..
فألتهم أوراقي
وأمشي..
واضعاً يدي على بطني
خشية أن يسمع أحد طحين الكلمات..»

= في مجموعته الشعرية الجديدة.. يتوقف
الشاعر (المنفي) عدنان الصائغ.. إزاء الفعل/
الفعل اليومي.. ليحيله إلى مشهد.. ويعيد
استبصاره، بأثر جديد.. يمنح المعالجة البصرية..
قدرة أن تشكل الفعل، وفقاً لبراعة الشاعر..
الصورة اليومية المرتجعة.. والمتكونة
من تطاحن الأرق اليومي.. ومكابدات المنفى.. والأسى اللحظوي؛ الذي يستدعي ما انطبع في (الذات)
محفوظ الذاكرة.. عبر الزمن..
وفي (المنفى) يصير تجدد الصورة اليومي
مخبراً حساساً.. وفائق الحساسية..
إزاء المشاهد.. والعابر.. والمهمش..
متناغماً مع رصيد الذاكرة الحية..
واستدرار هذا الرصيد.. وتحويله إلى
فعل (شعري).. يستأنس في تشكيله
إلى صور بصرية مشاهدة.. يرسمها الشاعر في لوحات شعرية..
حيث تبدأ الصورة في تكوين ملامحها الصياغية في انشداد قوي، لتحويل المشاهد إلى صورة
شعرية../ تبدأ أولى ملامحها عبر الفعل..
ثم تواصل اندياحها المتشكل، لتأخذ
ايقاعاً وجودياً، يتفاعل مع ذراته الجينية
التي تتلمس انوجادها العفوي.. وببداهة
مادتها الأساس..

«يسقط الثلج
على قلبي
في شوارع رأس السنة
وأنا وحدي
محاط بكل الذين غابوا»

= وتتقابل نسب القصيدة.. كخط إيقاعي بيني
في فلاشات تعبيرية، ذات بعد إشاري
واستدعاء للمكونات اللفظية للجملة
الشعرية، بحيث لا تتجاوز بضعة أسطر..
وأخرى مطولة.. تتجاوز خمسة عشر مقطعاً..
وأكثر من عشرين صفحة..
كما في ((أوراق من سيرة تأبط منفى))
التي تنحاز إلى (الفعل) المسند إلى الشاعر
في إيماء واضح، على تجذر بداية تكوين الفعل
الشعري منه.. وكذا تورية عفوية
للحفر.. والاستفزاز.. واستحثاث
ملكة التداعي الدلالي.. لدى الذائقة
القارئة.. المتلقية.. والحفر بالفعل
ذاته؛ في استدراج معاني ودلالات
مواتية لتيمات الصورة، المكثفة للموقف الواحد..
وهذا المنحى (الاركولوجي) يعمق من
ترسيخ الدلالة في ذائقة التلقي.. والذاكرة
البصرية.. بحيث تستقطب أثناء القراءة
آلية ربط بين المعنى المجرد/ بدلالته الشعرية
وبين واقعية الربط، بينه وبين المشاهد
اليومي..
= وهي بذلك تؤرخ فترة زمنية من سيرة الشاعر
بملابسات الزمان والمكان.. والظرف..
ومختزل تجربته الشعرية، المتحدرة من تجربة الحياة في المنفى..
و(الفعل+المفعول) المتكونان ظاهريا من تضامن جملة (تأبط منفى) وإضمار الفاعل
وهو(الشاعر) في سياق العنوان
إلى وجود مبطن، في نسيج تفصيلي للجملة.. لا تفصح عنه، مثلما أن الفعل الشعري، الذي تبرزه
الصورة.. فعل ظاهر لجرح الغربة والمنفى..
ووجه آخر لعذاب البعد عن الوطن..
حيث يتقادم عهد الذاكرة بالوطن.. وتتوالى
إفرازات اليومي المؤرق.. ومكابدات رحلة
النفي..
وإعطاء (تأبط منفى) تكثيفا معاصرا
بوحي واقعي جديد..
فهذه المتلازمة الثقافية.. وما تشير إليه
في مرجعيتها، في الثقافة العربية للشاعر
الصعلوك.. بوصفها علامة على تواشج
العلاقة بين (المتأبط) كفاعل
مضمر (وجودي)، وبين(المفعول) كملاذ
اختياري وقسري، في آن واحد..
للتعبير عن حالة النفي
والشتات..
= ولا تنفصم علاقة الجملة، في الذهنية العربية
عن الرسوخ في فهم دال العلاقة، ومؤداها بين
الإنسان، وما يتأبطه..
ولا في دال وحيثيات، اسم ((تأبط شرا))
الشاعر الصعلوك..
في إبراز دلالي ثنائي. لمعنى الجملة وتركيبها
اللغوي المجرد.. وكذا معناها الثقافي..
ومعطياته وأبعاده..
فالتعويل.. هنا.. على المنفى.. كبديل
حتمي عن الوطن..
فكأنما مدلول العبارة ((تأبط منفى)) =
(شعر تأبط منفى) أو سيرته..!
وتجريد العنوان من العبارة الثانية.. وتركه
بجملته التي اختارها الشاعر.. يفتح فضاء
الدلالة، إلى أمداء من تراكم المعرفة، بسيرة
تأبط منفى، المعاصر..
وهل هو امتداد.. لسلفه القديم..
فالشر.. والمنفى؛ معادلان طبيعيان
في السياق المعجمي المباشر للمعنى..
أحدهما يخلف الآخر.. في الاستيلاء
على جارحة الشاعر العربي القديم.. والمعاصر..!

«.. صافنا أمام رحيلك
كنسر يخفف في مواجه العاصفة
بينما ريشه يتناثر في السهوب»

* * وتتواطأ نصوص المجموعة في مجملها، على تكوين
دلالة، تتمحور حول نشدان
الحرية.. والضجر بالمنفى.. وإحالة معاني
المشاهد اليومي.. وأحاسيس المخيلة
وتجليانها، وانعكاس الفعل المجازي، إلى
لحظة شعرية، تختزل مجمل الألم وتعيد
رسمه بتفصيل مبسط، في منظومته
اللفظية.. ومكثف في إشارته الدلالية..
يعتمد البصرية وتجلى تكوينها في المخيلة
المتلقية؛ ركيزة لفهم وإدراك البنى
التي تحيله من عادي.. إلى فني متشاكل
مع روابط ذهنية.. تتيح للفهم المباشر
مدى في حيزها ومتاحها، ضمن الخارطة الشعرية
* * والبنية الجامعة لنصوص الصانع في هذه
المجموعة.. بكاء موارب لوطن بعيد..
واستحياء في الإحساس بذل نأيه
ووطأة تماثلاته في الذاكرة..
فكل ما في الوجود يحيل إليه..
والتقابل بين مشهدين، بهذه المفارقة
يعكس هذا التقابل أسى هذه الشعرية
وجراحاتها، الموزعة بين قسراً بين
وحشة المنفى.. وفضاء ذاتها
الذي لا يملك أن يستوعب مزيدا من
التراكمات..
وتحيل دلالات الخطاب الشعري إلى (المنفى)
ومعادلا للغناء للوطن.. وباعثا إلى حضور
الوصف المعاكس.. الذي تستدرجه
المخيلة الشعرية إلى مشهد النص.. وتفاعل
حركة الشعري بالذهني.. دون ما استرجاع
للمعنى العفوي اللاواعي للإحساس به..
وكباعث أساس، على توطين هذه التراتيل
الشعرية في قاع الذات المأزومة.. والنافرة
من منفاها.. والضاجة بأسى المشاهد.. وما
يستدعيه من ذكرياتها.. فترتد تنعي الوطن..
وتقيم مسافة لتأبينه.. في كل ما تشاهده..
وتعيه.. إذ هو انعكاس للحميم، في غمرة الشعور
بفقده..
* * وإذا كانت الصورة المؤسسة أصلاً على نظائرها
التقليدية في المنظور القريب.
و(الفعل) هو المعبر اللفظي الناقل.. إلى مستوى
الشعرية.. وعبر حقنها بمحتوى المقابل الذاتي..
فيأتي تلبسها بسياق السخرية المريرة..
وفي إطار ذهني مهيمن، لا يأخذ تداعيه الصياغي
في اللوحة الشعرية، احتكاماً للترابط الذاتي
المنطقي.. أو يتشكل في وحدات متزامنة دلاليا
بل ينصرف إلى التداعي.. عبر الرؤيا المهيمنة..
والمتركزة في ذات البناء الشعري، الذي تشده
عقلانية التعبير إلى التأمل.. الذي يصبغ
جملة شعريات هنا.. لتكتسب
هذه الشعريات، مزيداً من تأكيد عبورها
إلى ذائقة التلقي، بانسيابية وبساطة
المكون اللغوي، للجملة الشعرية..

«وإلام
تظل تدور
يا عبد الله المغمور
كحصان الناعور
تسقي أرضاً
لم تنبت لك غير البور»

* وتتوالى إيقاعية ترداد هذا النغم.. الحافل بالبداهة
والسخرية.. بصورته الأولية المتناهية ببساطتها
واحتكاكها بالمباشر والتعبيري العفوي..
حيث لا ينفلت نظام هذه البساطة في الربط
اللغوي ولا السياق الصياغي، بمدخلات
اكثر قرباً للذائقة الشعبية، وإلماما بوعيها المنساق
إلى المفاجأة والسؤال.. والمناسب مع تكوينات
الشعرية المباشرة في ظاهره، والتي تتقاطع
مع فلاشات شعرية مكثفة.. يمهد لها المد الإيقاعي
المتراسل، تناغما يسهم في تأسيسها على صعيد
قبولي واسع للشريحة القارئة:

«بين القفص المملوء حبوبا
والأفق الأجرد
يصفق طيرُ الشعر جناحيه
.. بعيدا
.. في الريح
.. ولن يتردد..»

فاليومي العابر.. والمشاهد البسيط.. والبهي
في الظواهر الواقعية، يختزل من قبل الشعرية
هنا.. ويستحيل إلى موقف يعاد تكوينه
وحقنه ببصيرة التأمل..
ويتجلى كمكمن فلسفي.. بعد تحويلة من العابر
إلى المعاد كشف ملاذاته الدلالية..
وإعادة شده إلى ذروة المشهد الإنساني

«جالسا
على الرصيف
أمام صندوقه
يرنو
لأيامه التي ينتعلها الناس»

فهذا النص المعنون بـ ((الإسكافي الكهل))
يمثل جانبا من جوانب الصورة المشاهدة، التي تعيد الذائقة الشعرية، كشف جوانب جمالياتها..
ومكامن التأمل والسؤال فيها.. وتعيد تكوينها
ورسمها مجدداً لتشيد بذلك رؤيتها
على النحو الذي تحدده الشعرية..
ولعل استخلاص الموقف الشعري العنيف
من بساطة المشاهد، كما في الصورة السابقة..
ينحاز إلى مدى الحساسية الشعرية التي
جذرها(المنفى) في تجربة الصائغ.. ولاسيما
في هذه المجموعة.. التي يقيم السياق الطبيعي
فيها للمشاهدات.. بتعبيرات تنهض بحمولتها
الجمالية.. وبزخمها الإنساني..
فتتم قراءة الصورة.. عبر إعادة تدوينها.. وتلقي
تفاصيل تكوينها.. ومن ثم تكثيفها لغويا.. بسياق لا ينم عن تعقيد نقلي لذائقة التلقي.. بقدر
ما ينقلها إلى هذه الذائقة، بحرفنة شاعر
مغبون بألم المنفى.. والحساسية المفرطة
تجاه المواقف الإنسانية..
باعتبار أن المنفى، يشكل ركيزة شعرية
الصائغ.. ومعينها المستديم.
الذي تعبر أفقه تفاصيل ونماذج لبنى يومية
يختار لها نماذج صياغية وتعبيرية، تحافظ على
طزاجة وقعها الطبيعي.
ووفقا لنموذجه التعبيري.. المنبني على
إعادة تكوين النسق الشعري من بؤرة «المفارقة»
مفارقة قراءة البنى الواقعية الصغيرة.. وتفاصيل
الزوايا المسكونة بالناس.. ومزجها بعذاب
المنفى..
* * ورغم تعدد رؤى الشعرية.. وتنوع تناولاتها..
تتشتت المفارقة في انبنائها، على محور «المنفى»
وتظل تعبيراته ومفاهيمه وخيالاته.. تغطي
مخيلة الإحساس بلوعته وعذاباته..
وبؤر تكوينات الشعرية.. تتوالد تبعا
في أنساق متشاكلة.. ومتداخلة..
في تماثلاتها البينية..
لتظل تلك البنى، متصلة بالوعي.. وببعدها
عن الوطن..
لتلي تبعات الإحساس المضني بالنفي، والفراق
والمزج بالأسئلة المقلقة.. الممنعة في تصوير
دلالة الشتات.. واستيلاد أمثلة
وجودها..
فمؤشر الإنساني في حالات الواقع المشاهد
تستدعي الوطن من الذاكرة.. باعتباره الصورة
المقابلة..
فكل ألم يلم بالشاعر.. يستدعي الوطن.. وكل
ترنيمة لشعور محفز على الكتابة..
يستدعي الوطن..
وهالات المنفى.. انما تتراكم وحشتها
من هذه المقاربات، في وعي الشاعر.. بين
تأصيل وجودها الشعري.. وإعادة إنتاجها
بمسوغ فني
.. يتسامى بها عن العادي.. إلى
النادر المحفز على التأمل.. واستبصار
مواطن علل وجه من وجوه الذات.. المنصرفة
أبدا إلى ترتيل «المنفى» مرجعا للشعرية
وباعثا على توطين علائقها بكل ما تحتويه
الحواس.. وتكتوى بشذرات
إيلاماته..
وان كانت ثمة بؤرة دلالية أخرى تشي
بأنماط مختلفة ومتنوعة للشعرية
وتجاوباتها مع السائد الانساني.

* تأبط منفى، مجموعة شعرية
لعدنان الصائغ، دار المنفى
السويد، الطبعة الأولى 2001م


(*) صحيفة "الجزيرة" - السعودية ع 10808 في 2 /5/ 2002  
 
البحث Google Custom Search