أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ، وشعر الحداثة من جيله

نصيف الناصري

"عائداً...
من غبارِ الحربِ
بقلبٍ مجرّحٍ
وذراعين من طبولٍ وذهب
حالماً بشفتي كليتمنسترا، العسليتين
  اللتين كانتا في تلك اللحظة
    تذوبان على شفتي عشيقها ايجستوس
ليلةً، ليلة
عندما فتحَ البابَ
    رأى في دبقِ شفتيها
    الآفَ الجثثِ التي تركها في العراء
فتذكر
  أنه نسي أن يتركَ جثتَهُ هناك

قصيدة "أجاممنون" من مجموعة [تحت سماء غريبة]

كلما أنظر إلى تجربة الشاعر عدنان الصائغ تقفز إلى ذهني حكاية القرية التي حاصرتها الحرائق من كل فازدحم سكانها في الزوارق المطمئنة عند الشاطئ، إلاّ رجلاً ضاقت به الحيّل فاستقر على ظهر طست وجد فيه مأمنه للعبور، وكان الناظر إلى الحشد السائر فوق سطح المياه، يميزه من دون سائر العابرين.
هذه الحكاية تذكرني بالشاعر عدنان الصائغ الذي ركب طسته في زحمة الزوارق المتشابهة العابرة صوب شاطئ الأمان الشعري، ذلك أن الرجل لا يريد الطيران داخل السرب، والأصح لا يريده – الطيران – فيه، فكانت تجربة اشكالية تثير القبول والطرد، الجدة في تعدد القراءات، والسخرية منها. إلا أن اصرار الشعر بداخله دفعه لتوكيدها والمضي بها إلى أمام، فبات حتى هذه اللحظة يمد قدماً في المجهول، بينما قدمه الأخرى ثابتة على أرض المعلوم، وتلك له لا عليه حيث ظل يعب من مجهوله ليثبّت أرضاً معلومة، ويكاد القارئ أن يختم إسمه على قصائده التي تظهر من دونه.
الشائع أن عدنان الصائغ، شاعر فطري أقرب إلى "الغريزية" و"العفوية" منه إلى القصيدة المعززة بالإرادة والوعي كبيري الأهمية للشاعر الحديث.
ولحياة الصائغ وغرائبيتها، ولما له من مقدرة في اشاعة هذه الحياة وتعميمها كقناع لروحه الشعري المضطرب داخله والذي يدفع به إلى توسل أساليب ورؤى لم يتسن لغيره ولوجها سبب رئيسي في تبني هذه الاشاعة واستساغتها.
اذن ويحسب ما نتبناه من وجهة النظر هذه، إننا بازاء شاعر شديد القصد لدرحة التحايل عليه واخفاؤه، وذلك يمكننا من تتبع آثاره والوقوف عند خصائص تجربته المتميزة التي بدأها أواخر السبعينات، فلما كانت العدة المعرفية – الأكاديمية – لدى أقرانه تمكن من الاشتباك مع التجارب العميقة في الشعر العالمي ذهب الصائغ إلى تلك التي تتعامل مع الواقع مباشرة والتي تلتقي مع الحياة كتجارب وخبرات فالتقى لوركا وماياكوفسكي ونيرودا وناظم حكمت واراغون وايلوار كمفتتح للتعرف إلى البشر والوجود والحب والزمن، وراح يكتب قصائد استقبلها القراء والنقاد بحماس واعجاب كبيرين، ثم بعد تجارب مع القراءات والخبرات، أدرك أن عمق الشعر وسطحه هو في داخل "الروح الشاعرة"، لا مع المضامين الجاهزة التي يكتب فيها البعض بحكم العادة.
وهكذا ذهب الصائغ إلى أغوار النفس والحياة الباطنة ليدّون حياته هو وآماله واندحاراته وأصدقاؤه وحبه، بلغة يومية سلسة غير مبالغة وغير عابئة بالبلاغة التي يقتضيها الخطاب الشعري العربي والتي اكتسبت درجة ثباتها من ثقل الركام الهائل منه وما خلفه من قسرية الأحكام في الذاكره الجمعية، فعدّت تجربته من سهل الشعر الذي لا يتطلب جهداً كبيراً لانجازه، فنحي جانباً بينما راحت زوارق الحداثة العمياء تتدافع بالمناكب للوصول إلى الشاطئ السرابي المخادع الذي أغرق الكثير منها في منتصف الطريق إليه.
كان الطست يتهادى في المياه المظطربة محققاً بارتباكه توازناً حقيقياً أبقاه تحت مجهر المراقبة.
وإذ يحسب للسنوات الأولى من العقد المنصرم، كشفها الواضح في تأشير مسيرة الشعر وما تمخض عنه من عتمة شعرية، فأنه يحسب لها أيضاً طردها العنيف لبعض ما ألحق بالتجربة من شوائب وعوالق لحقت بها من جراء سقوط هيكل الأشكال التقليدية والتي كانت تسوّر قلعة الشعر الكلاسيكية، كذلك تلك التي تسللت مستفيدة من تخلخل العلاقات اللغوية وغموض سببية التواشج بين المدلولات ودوالها، فأبقت على عدد "معقول" من الزوارق يمشي إلى جانبها وبذات السرعة طست عدنان الصائغ الذي هدأت سورته الشكلية ليبدأ الفعل الشعري عنده باتخاذ مسار التعبير داخل اللغة اللامعة المرصوفة – باسمنت – البناء اللغوي بكل تمظهراته، ولعل مجموعته "مرايا لشعرها الطويل" هي فاتحة تجربة جديدة جديرة بالفحص والمعاينة والتوقف عندها بجدية وتروي كثيراً ما افتقدته محاولات قراءة تجابه، ثم أعقبتها تجارب عدة من بينها "الهذيانات" التي تحولت إلى المسرح ونالت صدى طيباً من القراء والنقاد وفازت بجوائز عديدة.

"السماءُ التي ظلّلتْ أرضَنَا
والمنافي التي أرّختْ جرحَنَا
سأقولُ لها
كلما طردتني بلادٌ
وساومني صاحبٌ
اتكأتُ على صمتي المرَّ...
أبكي الذي فاتَنَا"

قصيدة "غربة" من مجموعة [تحت سماء غريبة]

في هذه القصيدة ذات النبرة الشجية يحاول الشاعر أن "يصالح ظلامه" وأن يرثي زمنه الذي يفرض عليه غربته وانتظاره الذي لا يعد بأي أمل.
والوضاح من هذه "النجوى" التي يريدها الشاعر هكذا والتي ألفناها في عموم تجربته، هو تحليق في اللغة فوق سطح العالم بغية التطلع اليه بعين الشعر وقدسيته،
نخلص من ذلك الى أن الشاعر الصائغ استقر به الحال على منظومة من المضامين والأشكال التي عرف بها وعمل جاهداً على تطويرها والارتفاع بها إلى سماء الشعر بأفاقها الرحبة، فهل يبلغ طسته شواطئ الأمل – الشعر.
 
البحث Google Custom Search