أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
بهدوء رجاءً - مقدمة كتاب (سوق الورّاقين) –

عبد الستار ناصر

خمسة أعوام مضت وأنا أعيش في عمّان، كانت القراءة تأخذني صوب العالم، إلي سانتياغو وتشيلي والبنغال وبوينس آيرس وبيروت والدومنيكان والسويد، حيث رأيت هناك عظام المبدعين، أكرر مع نفسي ما قاله توماس ترانسترومر:
في منتصف الحياة
يحدث أن يأتي الموت
ويأخذ قياس الإنسان
هذه الزيارة ستنسي
والحياة مستمرة
وبعدها تمضي لتخيّط بدلتك بصمت
كتبتُ إلي ماركيز، وبورخس، وماريو بارغاس، وإيزابيل الليندي، وأنطونيو غالا، وترانسترومر، أجمل ما أعرفه من كلمات الوله العربي، لكل ما منحوه لي من متعة وفائدة طوال ألف وسبعمائة ليل ونهار، ماذا تراني سأفعل في هذا الوقت المرعب إذا لم أقرأ جورج أورويل وفاسكو براتوليني ودوريس ليسنغ وبافل فيجنوف، لهذا بادلتهم عطاء بعطاء وكتبت عنهم واحتسيت قهوتي علي عتبة بيوتهم وأنا أحمد الخالق علي نعمة الحرف منذ أن قال (اقرأ)..
فقرأت.
منحوني أغلي ما يملكونه من فكر وفلسفة وإبداع وقصص، وشعرت بينهم أنني محاط بالضوء والعنبر والعصافير، فما من أحد أغني مني وأنا أقرأ خورخي لويس بورخس الذي أخبرني أن البصيرة تسبق البصر، فأبحرتُ في مركبه الخشبي إلي أقصي جزيرة من مخيلتي ورأيت هناك بعض ما رأي، وأيقنت حينها حقيقة المسافة بين أن تكون في الزمان أو تكون في خارجه، لهذا قررت أن أموت وأنا أقرأ، وليس مهماً أن أموت وأنا أكتب.
علمني ماريو بارغاس يوسا أن الخوف هو الذي يصنع الطغاة، لكن خوفهم منا أكبر مما نظن..وقد تأكد لي ذلك في نهاية (حفلته) مع (التيس).. أتذكر قول صديقي الشاعر وهو يكتب لي من (ماليمو) عن رحلته العجائبية نحو محطات القطار المهجورة ومناطق بيع السفن الممنوعة من نزول البحر:
وطني حزينٌ أكثر مما يجب*
وأغنياتي جامحة وشرسة وخجولة
سأتمدد علي أول رصيف أراه في أوربا
رافعاً ساقيَّ أمام المارة
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات
التي أوصلتني إلي هنا.. *
لهذا، تجرأت علي أن أكتب رسالتي إلي غابرييل غارسيا ماركيز، أحكي له عن همومي، بالتقسيط، لئلا يتذمر من شكواي، كنت أرقص وأغني وبي رغبة مخبولة للبكاء وتدخين السجائر وأنا أقرأ هذا الماركيز الذي قال لي ذات مساء:
- إذا شعرتَ أن ذنوبكَ تُشبه أحلامك، فما من أمل في الشفاء.
وما شفيت، فهذه الذنوب هي جيناتي، وأنا عشتها منذ نعومة أخطائي، لكن (إيزابيل اللندي) تمكنت أن تنقذني من ذاك الطبيب العجوز (غارسيا ماركيز) يوم ابتكرت بلداً وعاشت داخل جدرانه، وأخبرتني أن الإنسان هو من يملك الدواء مهما كان عطب الجلد وخراب الشرايين، حتي أننا قادرون علي تغيير كوابيسنا متي شئنا ذلك، ومثلها فعلت، فها أنا أخترع بلدي الذي أريد، وأنا نفسي اليوم سيّد نفسي، أعالج ماضيها بدوائي الذي ابتكرته، أعالج كل شيء بالقراءة كل يوم وبالكتابة أيضاً، ومتي ما شعرتُ بالحنين إلي تكرار ذنوبي سأري حارس(البلد) الذي اخترعته يشير إلي طريق آخر، فأمضي إليه طوعاً.
لا شيء ينفع الروح- والجسد معاً - كما تفعل القراءة، لو كان ثمة من قياس قبل وبعد قراءة (الحب في زمن الكوليرا) لاكتشفنا ذاك السرّ العميق، أو ذاك الكنز الخفي الذي تملكه الروح، لو كان هناك من باروميتر للجسد البشري قبل وبعد قراءة(الميّت الحي) للمبدع العظيم هنري ترويا، أو (المسخ) لفرانز كافكا، أو (ابنة الحظ) لإيزابيل الليندي، لرأينا كيف ينتقل الضمير من واحة إلي واحة أكبر، لرأينا كيف يركض القلب من محيط إلي محيط أوسع، وبما أنني رأيتُ واكتشفتُ هذا كله، فماذا تراني أريد؟! يسقط الضوء فوق غرفتي، والنجوم تضحك مثل طفل عاد من المريخ تواً، ماذا أريد أكثر مما أنا فيه؟
**
في الجزء الثاني من (سوق الوراقين) فتحتُ بابي أمام(جمال ناجي، وخليل السواحري، وسليمان الأزرعي، وخالد محمد غازي، ويوسف ضمرة، وطلعت شناعة) حتي نسهر جميعنا في (ليلة الريش) ونمشي تحت وابل من ( مطر آخر الليل) نتمتع بصحبة (فالانتاين) و(نساء نوبل) تحت (أشجار دائمة العري) وسنبقي هناك برغم أننا نعرف أن (المكان لا يتسع لحماقة).
قبل أن أغلق بابي في آخر الليل، خوفاً من العسس ورجال الجندرمة رأيت في بريدي رسالة تقول:
لنحمل قبورنا وأطفالنا*
لنحمل تأوهاتنا وأحلامنا
ونمضي قبل أن سرقوها
ويبيعوها لنا في الوطن:حقولاً من لافتات
وفي المنافي:
وطناً بالتقسيط. *
ورأيتني ساعتها أمضي إلي (إلياس فركوح) حتي أكتب عن حقول الظلال، لحظة أن شاركني الإحساس: أن لا فرق بين العاقل والمجنون إلا بنسبة ما يظنّه الآخر عنهما، وقد يكون أعقل أو أكثر خبلاً منهما!
أما القسم الثالث، فهو عن مشغل آخر، هو ذكريات الكتابة وذاكرتها، عن أشياء اعترفت بأنني لا أعرفها، ولهذا قلت لنفسي : لا تقف قرب النخلة إذا كنت قصيراً.. وطال بي المقام قرب النخلة علي مدي أربعين سنة، كتبتُ فيها أكثر مما كتب البحر والمجنون والعاشق، وبرغم جبال كتاباتي وتلالها وسفوحها وأنهارها، ما زلتُ أري نفسي في بداية الطريق، أحكي ما قاله ذاك الشاعر المهاجر:
-أينَ القصيدة؟
-غسلتها مع البنطلونِ المبقّعِ
عاملةُ البارِ كانت تشيرُ
لحبل الغسيل
يقطرّ بالكلماتْ *
**
هذا الكتاب دعوة للقراءة، وتذكرة سفر إلي الناس التي تسهر الليالي حتي تقول(كلمة) في سفر الأرض الخالد، دعونا نحلم معهم، فما من شيء عظيم إلا ويبدأ من حلم خاطف يطفو سهواً علي وسادتنا ذات لحظة.


* القصائد للشاعر (عدنان الصائغ).

جريدة (الزمان) --- العدد 1948 --- التاريخ 2004 - 10 -23
 
البحث Google Custom Search