أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
خمسة أعوام بهدوء رجاءً

عبد الستار ناصر

خمس سنوات مرت وأنا أكتب لكم في الزمان(بهدوء رجاءً) مع أنني لا أعرف الهدوء في عملي وحياتي.لم أنقطع ولا مرة واحدة عن كتابة هذا الحقل الذي تجدونه كل سبت عند هذه الزاوية مع صورتي التي تغيرت مرة واحدة فقط، وينبغي أن تتبدل اليوم مرة ثانية بعد أن هبط المطر الأبيض وراح يكسو فروة رأسي بالثلج والخريف.ستون شهراً، لم يمنعني مرضٌ ولا سفر ولا رواية من كتابة زاويتي كل أسبوع، ربما تعبت الزمان(مني) ومن فرط عنايتي ودقة تنظيمي وترتيب أوراقي، فصارت تنسى نشر هذا العمود أو تؤجله حيناً إلى يوم آخر، لكن ذلك لم يحدث سوى أربع مرات فقط طوال السنوات الخمس المنصرمة، ولم أتعب من رعاية المضامين، كما أنني لم أتعب من البحث عن فكرة لم تطرق من قبل أو العثور على عمل أدبي أكتب عنه، بل أصدرت أربعة كتب في بيروت والقاهرة جمعت فيها (هدوئي) ومقالاتي، كان أولها (سوق السراي) ثم (باب القشلة) وثالثها (شارع المتنبي) وآخرها (مقهى الشابندر) وقد احتوت هذه الكتب على (169) مقالة، كلها ظهرت في (ألف ياء) الزمان على الصفحة التاسعة على الجانب الأيسر منها، وها أنا في بداية العام السادس أتهيأ لنشر الكتاب النقدي الخامس تحت عنوان (بهدوء رجاءً) اعتزازاً بهذه التسمية التي عاشت معي ونامت على سريري وأيقظتني مئات المرات حتى أكتبها لكم.
**
ما كنت أظنني سأكتب أسبوعياً حقلاً مطولاً كهذا وقد تجاوزت الخمسين من العمر، ذلك أن البقاء في الصورة (عمل شبابي مرهق) يحتاج إلى عضلات الزمن وقوة الجسد واستمرار التأمل في ما تقرأ، لكن لعبتي مع الوقت دامت وتشعبت وأخذت شكلها النهائي حين قررتُ تأليف الكتب عن طريق (جمع) هذه الكتابات، مما جعلني أكتبها بعناية أكبر كما أكتب قصصي ورواياتي، بإهتمام يأخذ من الوقت وقتي كله، فأنا، مثلاً، سأقرأ في كتاب ما قد يأخذ مني أربعة أيام أو أكثر، ثم أكتب عنه في اليوم الخامس أو السادس، وأنتهي منه قبل أن يدق ناقوس الأسبوع.
لهذا قرأت من الكتب أكثرها قرباً إلى النفس ومضيت إلى كبار المبدعين، عرباً وأجانب، أطرق أبوابهم وأكتب لهم الرسائل وأحكي عن إنجازاتهم وقد أشرب القهوة في حضرتهم، ثم أعود إلى غرفتي حتى أكتب عنهم "بهدوء".فوجئت بعد خمسة أعوام، بأنني قرأت أكثر من ثلاثمائة رواية ومجموعة قصصية وديوان شعر وكتابات في السياسة والفن والفلسفة والتاريخ والأساطير والمكان والمذكرات، وهذا ما لم يحدث معي حتى في أيام الصبا والشباب قبل أن نصل الأربعين، ناهيك عما قرأته من صحف ومجلات ودوريات أخذت حصتها من الوقت، بينما كنت سابقاً في حال ينطبق عليه قول الشاعر:
نصفك، وطنٌ ضائع في البارات
ونصفك الآخر:
يهيئ حقائبه للسفر
يلتقي نصفاك كعقربين
في ساعة عاطلة
**
كتبت عن الموتى وعن الأحياء، شعرت بمتعة القراءة ولذة الكتابة عما قرأت، لم أفرق بين مبدع أوروبي أو عربي أو عراقي أو من أية جنسية أخرى إلا بما يملكه من إبداع.. ربما غضب البعض مني وربما رفع سواهم القبعات امتناناً لما قلته عنهم وعن أعمالهم، لكنني في الحالات كلها كتبت عما رأيت وقرأت من قصص وروايات وقصائد ولم أكتب عن أصحابها كما يظنون.كم هو ساحر، العيش في دنيا القراءة وأنت تسرح وتمرح بين أفكار عمالقة الكتابة والتي تأتي إليك مجاناً بعد أعوام على تأليفها، فما من كتاب يرى النور قبل أن يمر عبر السنوات والجمرات، بينما تشتريه بسعر التراب موازاة ما أعطاه المبدع من سهر وانتظارات وشجون، ولو عرفنا حقيقة هذه المعادلة العسيرة(أعني بها ثمن الكتاب موازاة عطاء مؤلفه) لما وقفنا طويلاً مترددين عند شراء الكتاب التالي.وفي هذا الحقل(بهدوء رجاءً) كتبت ست رسائل إلى غابرييل غارسيا ماركيز، ماريو بارغاس يوسا، توماس ترانسترومر، أنطونيو غالا، ثم إلى قبر خورخي لويس بورخس ورافائيل ألبرتي، وكتبت رثاء عن الراحلين: شاذل طاقة، مؤنس الرزاز، حسين مردان، شمس الدين موسى، غالب هلسا، إلى جانب الكتابة عن مذكرات: هيرمان هسه،جورج أورويل، ايزابيل الليندي، ولم أغفل عن نقد العشرات من الروايات والقصص التي كتبها خالد محمد غازي، عبد الستار البيضاني، علي السوداني، محمد خضيّر، فاضل العزاوي، عبد الرحمن الربيعي، بسمة النسور، بسمة النمري، خليل السواحري، جمال ناجي،خليل قنديل، سليمان الأزرعي، ناهيك عما كان من نصيب السياسة ، إذ نشرت أكثر من ثلاثين مقالة عن نظام الدم، كتبتها قبل سقوط الطغاة ولم أعد إليها بعد رحيلهم  المخزي.
أجل، كتبت (هنا) مئات المقالات، عن فاطمة المحسن، أحلام مستغانمي، سهيل إدريس، إحسان عبد القدوس، ناجي جواد، عدنان الصائغ، عبد الرزاق الربيعي، دنيا ميخائيل، خزعل الماجدي، علي جعفر العلاّق، حسن النواب،سعد جاسم، فاتح عبد السلام، إنصاف قلعجي، خالد الكركي، سلوى بكر، بتول الخضيري، أرشد توفيق، نعيم قطّان، سلام عبود، لنا عبد الرحمن، رشيدة الشارني، رؤوف توفيق، عزيز الحاج، أمل عريان فؤاد، فوزي كريم، وعبد الخالق كيطان.
وكان من نصيب غونتر غراس وجان بول سارتر وفرناندو سابينو وإدوارد سعيد وجوردون توماس وياسانوري كاواباتا وتنغ هسنغ يي وباتريك زوسكيند وآرثر كلارك وثربانتس حصة الأسد بين اهتماماتي، ولم يزل هناك العشرات ممن نسيت ذكرهم والعشرات غيرهم ممن سأكتب عنهم حتى يكتمل المشهد.
ترى كم من الينابيع
والسواقي
والأنهار
والبحيرات
امتزجت في مياهك
وضاعت بين أمواجك
دون أن تتذكرها
أيها البحر؟*
هذا الحقل ساعدني على نفسي الكسولة، وأعطاني مساحة تضاف إلى صبري الذي أوشك على الطلاق مني، وهي فرصة حقيقية لزيارة الكتب واكتشاف ما فيها من كنوز قبل أن تعبث فيها إناث العناكب، والكتابة أسبوعياً ليس بالأمر اليسير كما يظنه البعض، وقد يكون كذلك إذا كنت تكتب صفحة فولسكاب واحدة أو ثلاث صفحات، وحتى أربع صفحات، أما أن تكتب ما يقرب من عشر صفحات (وأكثر) فهذا يحتاج إلى رأي آخر يقال في حق الكاتب.
ولست بذلك أمتدح نفسي على ما فعلت طوال هذا الزمن الطويل، فالكتابة - مثل بقية المهن البشرية - لها دوافع وأسباب، ستأتي (المكافأة ) المالية في أول صفوف الدوافع، أما تسويق أفكارك الشخصية وتأسيس ما تريد من نوايا وانعكاسات ومبتغى، فهي بدورها ستكون أول أسباب استمرارك في الكتابة، وهنا، سأعترف بأنني قلت ما أريد، وليس (كل) ما أريد، فالحياة مستمرة، وأفكارك ونواياك مثلها باقية ومستمرة، وقد يكفيك فرحاً أن تكتب ما تشاء عمن تشاء دون رقيب وبلا رقابة تمنعك من قول الحق في هذا المبدع أو ذاك الدعي.
كتبت في الليل وفي النهار، في الصيف الحارق والشتاء الزمهرير، لم أترك خلف ظهري أي شيء إلا وذهبت إلى محيطه أزرع في القاع شيئاً من البذور حتى إذا لم تورق أبداً، يكفيني أنني حاولت زرع ذاك الشيء في المكان المستحيل، يشرفني أنني نقشت النقاط فوق الحروف وكتبت عن الحق واليأس والوفاء والوعد والفراق والأخلاق والرشوة والسفر، كما كتبت عن المكر والهزائم والمعاشرة والنصر والحروب، بل تجرأت على خوض غمار المصائب والمصاعب وكشف المستور والعيوب والمكابرات والخيانة والذنوب، لم أتعب طوال هذا الوقت من اختراق الغش والفشل وأنانية الناس، حتى زاحمتني الشتائم دون عفو ولا مغفرة ولا سماح.أيقنت أم الكتابة (رسالة) عظمى تستحق أن تدفع أنفاسك ثمناً لها، ولهذا وقفت مع العدل والقانون السماوي والرحمة، ومضيت أكتب دون خوف من أحد، وكان ذلك في أحلك الظروف وأشدها عتمة قبل سقوط القاتل الذي يتربص بك حتى في أحلامك البريئة.لا أنكر أنني شعرت بالمتعة وأنا أكتب عن (ثياب الإمبراطور) وعن الرجل الذي يبيع القصص القصيرة وعن حفلة التيس وحدائق النور، أما ايزابيل الليندي فقد سرقت مني خمس مقالات وعن (ابنة) حظها وبيت أشباحها وصورتها العتيقة وعن حبها وظلالها، وعن ابنتها (ياولا) حتى صرخت بأعلى صوتي:
- أنا أخاف ايزابيل الليندي.
والصرخة نفسها أرغمني عليها بورخس، وماركيز، وبارغاس، وسارتر، وكويليو، وكافكا، وأمادو، لكن المتعة ما فارقتني وأنا أقرأ وأكتب عن (أسلاف) فاضل العزاوي وذاكرة الربيعي وسيرة هرمان هسه و(خارج المكان) واعترفت هنا بأنني لا أكذب لكنني أتجمل، وأخبرتكم أن (بنات أفكاري لا يرغبن بالزواج) وأن (العالم يمشي بالمقلوب).
أكتب ويدي على النافذة
تمسح الدموع عن وجنة السماء
أكتب وقلبي في الحقيبة
يصغي لصفير القطارات
أكتب وأصابعي مشتتة على
مناضد المقاهي ورفوف المكتبات
أكتب وعنقي مشدود منذ بدء التاريخ
إلى حبل المشنقة
أكتب وأنا أحمل ممحاتي دائماً
لأقل طرقة باب
وأضحك على نفسي بمرارة
حين لا أجد أحداً سوى.. الريح*
حكيت لكم أشياء لم أعد أتذكرها جميعها، لكن الأصابع يمكنها أن ترجع نحو أرشيف الذاكرة المكتوبة وترى ما جرى (حين بكى النخيل) أو (عندما تمزح أحلام مستغانمي) وسوف تعثرون هناك على سؤالي: ماذا لو كان الفانوس السحري بين يديك؟
خمسة أعوام محبة، ستون شهراً قراءة وكتابة وذكريات مرت بسرعة، كما لو أنني جئت البارحة إلى (عمّان) مع أنني عشت فيها ألف خريف وألف ربيع، مطر وعواصف وبرد ونثارات ثلج تتساقط على نافذتي، لكنني بدلاً من رؤية ذاك البساط الأبيض الساحر، كنت أشرب الشاي وأكتب لكم ( بهدوء)وأقول (رجاءً) قبل آخر رشفة من قدح الشاي الخامس.


• القصائد للشاعر العراقي المعروف (عدنان الصائغ).

جريدة (الزمان) --- العدد 1954 --- التاريخ 2004 - 10 -30
 
البحث Google Custom Search