أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
إحسان عباس: عُد الى بلدك بعد زوال الكابوس

عواد علي

قبل يوم واحد من موعد رحيلي الي كندا لاجئاً في نيسان عام 2001، زرت العلامة الكبير إحسان عباس، في شقته بجبل عمان، لتوديعه وأخذ مشورته في التعامل مع العالم الجديد الذي لا تجربة لي مع نسيجه الاجتماعي والثقافي، عدا التصورات التي شكلتها في ذهني قراءاتي لنماذج من إبداعه الأدبي، ومشاهداتي لتجارب من عروضه المسرحية وأفلامه السينمائية. وحين جلست معه أحسست من نبرة صوته وحركة جسده الذي نالت منه الشيخوخة أن لقائي به في ذلك اليوم ربما سيكون آخر لقاء، خاصة أنني ذاهب الي عالم بعيد، وقد لا أعود الي عمّان إلاّ بعد مضي بضع سنين. وها هو إحساسي قد صدق، للأسف، فغيب الموت رمزاً كبيراً من رموز ثقافتنا العربية المخضرمين، بعد أن أغناها بنحو سبعين كتاباً مؤلفاً ومحققاً ومترجماً ومراجعاً، وعشرات الأبحاث في شتي صنوف المعرفة، وشارك في ضروب مختلفة من النشاط الأكاديمي والتربوي في جامعات ومؤتمرات وندوات عربية وعالمية كثيرة عن الدراسات العربية والإسلامية والتراث والأدب الحديث. في ذلك اللقاء الوداعي عانقني إحسان عباس عناقاً حميمياً لم أشعر بمثل دفئه الأبوي إلاّ مرتين في حياتي: الأولي يوم عانقني المرحوم والدي حين ودعته وأنا أغادر العراق الي الأردن قبل عشر سنوات، والثانية يوم أخذني بين أحضانه المؤرخ والباحث الكبير كمال الصليبي (مديري في المعهد الملكي للدراسات الدينية، الذي عملت معه، وتتلمذت علي يديه مدة ست سنوات) لما قرب موعد سفري الي كندا. وأذكر مما قاله لي شيخ النقاد: (لقد أصبح حالكم مثلنا تماماً، نصفكم في الداخل ونصفكم في المنافي، ولكن الفرق بيننا وبينكم أن العدو الذي شردنا ليس من أبناء جلدتنا، في حين أن عدوكم من أبناء جلدتكم)، فقلت له: (هو ليس كذلك بالضبط، ونحن نري أنه أكثر وحشية من أي حاكم إسرائيلي). وكانت نصيحته الجوهرية لي هي أن أعود الي بلدي بعد زوال الكابوس، خاصة أنه ليس أي بلد، إنه العراق... ثم نصحني أن أتعلم اللغة الانجليزية، وأتشبع بالتقاليد الديمقراطية علي الصعيد السياسي، والثقافي، والإنساني لأن بلدي سيكون أحوج مايكون الي هذه التقاليد بعد عقود من الاستبداد والدكتاتورية والقمع، وكانت نصيحة عظيمة بالفعل.
تعرفت علي العلامة الجليل إحسان عباس عام 1996، بعد أسبوع علي بدء عملي باحثاً في المعهد الملكي، حين طلب إلي الأستاذ كمال الصليبي أن أتصل به لاستشارته في جمع مراجع مشروع بحثي كبير يستغرق إنجازه سنوات عديدة، هو (معجم أعلام العرب المسيحيين في العصور الإسلامية)، فرحب بي كأنه يعرفني منذ مدة طويلة، وجلست معه أنا وصديقي بكر الحياري، معاون مدير المعهد، نحو ساعتين اقترح علي خلالهما عناوين عدد من كتب التراجم القديمة والحديثة المهمة فكانت مفتاحاً للحصول علي عشرات المراجع الأخري التي استندت إليها في التحضير لإنجاز المشروع. ثم شاءت الصدف أن يؤجر المعهد الشقة الأرضية في نفس البناية التي يسكن فيها إحسان عباس، وكمال الصليبي، وهي شقة جميلة تطل علي وادي عبدون، وتحيط بها من جهتين حديقة مزهرة، ودعاني المعهد الي السكن فيها. وهكذا أصبحت جاراً لهذين العلامتين الكبيرين، وصرت أزور إحسان عباس مرة أو مرتين في الأسبوع ، وألقي عليه التحية وهو جالس في شرفة بيته صباح كل يوم وأنا أمر من تحتها متوجهاً إلي عملي. وكان بيته لا يخلو من الزوار يومياً (أدباء، وباحثين، وأساتذة جامعة)، وخاصة بين الساعة السادسة والتاسعة مساءً. وحين كنت أتخلف عن زيارته، بسبب لقاءاتي شبه اليومية، مع الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي في غاليري (الفينيق)، كان يتصل بي عبر الهاتف، أو يرسل أحياناً (خادمته) للاستفسار عني، فأزداد حباً وإجلالاً له. وكان البياتي كلما قام بزيارته في الأعياد وبعض المناسبات اصطحبني معه، ولكم كنت أدهش لما يكنه من عرفان وتقدير لإحسان عباس الناقد والإنسان في حضرته، وهو يعود بذاكرته الي أربعين عاماً خلت علي صدور كتاب الثاني عن تجربته الشعرية (عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث)، وذات مرة سألت البياتي: هل كان لهذا الكتاب دور في شهرتك وأنت في بداية تجربتك الشعرية؟ فقال من دون تردد: نعم كان له دور كبير، خاصة أن الشعر الحر كان يمر في مرحلة مخاض عسير في الخمسينات.
حين خططنا أنا والصديق الشاعر محمد تركي النصار، بمشاركة شاعرين آخرين هما عدنان الصائغ ونصيف الناصري، أواخر عام 1996، في مشروع إعداد ثلاثة كتب تضم مختارات من قصائد للبياتي، مفردين كل واحد منها لقصائد تنزع الي تجربة واحدة (الحب، التصوف، والأنموذج والقناع)، مع قيام كل واحد منا بكتابة مقدمة تقف علي السمات الدلالية والرؤيوية للتجربة، كان إحسان عباس أول من عرضت عليه فكرة المشروع، فأبدي حماسة كبيرة، وشجعنا علي إنجازه مؤكداً علي الدقة في تصنيف القصائد، وقراءة ما كتب عن شعره من تحليلات نقدية. وحين صدرت الكتب الثلاثة خلال السنتين التاليتين (خمسون قصيدة حب، المعراج الأرضي، ونهر المجرة) كان إحسان عباس أيضاً أول من أهديتها له. وعندما زرناه، البياتي وأنا، بعد بضعة أيام لمعايدته، قال للبياتي: أنا أعتبر كتب الشباب الثلاثة خير تكريم لك يا أبا علي... فأجاب البياتي بتواضع لم أعهدته فيه مع آخرين: لقد سبقتهم أنت يا دكتور بأربعة عقود.
يقول الباحث يوسف بكَّار في بحث له قدمه في الندوة التي نظمتها مؤسسة عبد الحميد شومان في عمّان سنة 1998عن إحسان عباس ناقداً ومحققاً ومؤرخا: (تتوافر في هذا العالم الشروط العلمية والأخلاقية الواجب توافرها في المحقق، فهو ذو معرفة عميقة بالموروث الشعري، وعلي دراية كبيرة بالأدب العربي القديم، وذو اطِّلاع واسع علي الفهرسة العربية، وفهارس الكتب والمخطوطات، وخبير بقواعد المخطوطات، ومعاييرها، وأصول نشرها). ويعزي ذلك، كما يعترف إحسان عباس نفسه، الي أن اهتمامه بتحقيق التراث يقوم علي مبدأ راسخ في نفسه وهو (المعرفة قبل الحكم)، فثمة شيئان ينمان عن انعدام الثقة الذاتية، أومن تجاوز الحد الطبيعي في تلك الثقة وهما التعميمات الكاسحة، وقبول الاشياء قبول مسلمات، وكان هو ينفرمن الاثنتين. ويتفق العديد من قراء إحسان عباس علي أنه من النقاد القلائل الذين وفقوا الي حد بعيد بين التراث والحداثة، فقد خاض، علي خلاف الكثيرين، معركتهما معاً، وانحاز إليهما في آن واحد كتيارين مختلفين، ففي الوقت الذي تلمس فيه مظاهر التجديد في الشعر الأندلسي، كابتكار الموشح، الذي يمثل، من وجهة نظره، خصائص كثيرة في الطبيعة الأندلسية نفسها، مثل التطور الموسيقي، والروح الشعبية، والقدرة علي التقفز،التي يقارنها بالأعمدة الدقيقة في قصر الحمراء بما تحمله من جسد عمراني ضخم، وكذلك الزجل، الذي يعدّه تجديداً محلياً إقليمياً، ودرس الجوانب الفنية والدلالية في شعرالشريف الرضي، ولبيد بن ربيعة، وكثير عزّة، والصنوبري، والأعمي التطيلي، والرصافي البلنسي، والخوارج، وغيرهم من الشعراء القدامي، في الوقت ذاته انحاز الي التجديد العميق الذي أحدثته ثورة الشعر الحر، فكتب عن البياتي متحدياً هلوسات النقاد الاتباعيين الذين كشروا عن أنيابهم ضد هذا الشكل الشعري الجديد، ثم كتب عن السياب (حياته وشعره) كتاباً سيظل مصدراً أساسياً لكل من يدرس شعره، وقدم لديوان كمال ناصر وغيره، وبحث في الحركة السريالية، واتجاهات الشعر العربي المعاصر بأفق متفتح، وحساسية شعرية صادقة قلما نجدها في جيله.


(*) صحيفة  الزمان – لندن ص ألف ياء 8-9/2003
 
البحث Google Custom Search