أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
وقفة مع طائر الجنوب عيسى حسن الياسري

عبد الرزاق الربيعي

"إنه سيد لا يعرف ماذا يفعل .... انه ملاك " - رامبو

مع بداية تفتح وعينا في مطلع السبعينيات , كان صوت الشاعر عيسى حسن الياسري يشدنا إليه من بين جوقة الأصوات الستينية لتلقائيته , وعفويته , ولان الشاعر يعزف على وتر حساس في ذواتنا هو وتر الجنوب , اجمل الأوتار ,و أكثرها دفئا ,وعذابا بالنسبة لنا نحن الجنوبيين الذين وجدنا أنفسنا مقذوفين على هامش المدينة كنتيجة لاضخم  هجرة من الريف العراقي الجنوبي إلى بغداد أواخر الخمسينيات , وظلت المدينة بشوارعها المرصوفة بالإسفلت والقير الذي تذيبه حرارة تموز لدرجة ان المركبات كانت تبرك في بقع القير الذائب , ظلت تشكل عذابا لكل من عاش في البيئة الريفية , وكنا نغلق أعيننا في المساءات الباردة على حكايات الأباء والأمهات  عن الاهوار  بطيورها ونباتاتها ومياهها الغزيرة  لكننا نفتح أعيننا على واقع المدينة الصلد وحيطانها الأسمنتية الصامتة !!!
ومن هنا بدأت عذاباتنا , ووجدنا في شعر عيسى حسن الياسري دفأ أهلنا ,وعذوبة مياه اهوارنا , وغناء طيورها ,خصوصا في مجموعتيه ( فصول من رحلة طائر الجنوب ) و ( سماء جنوبية )  اللتين عكستا صوته المتفرد الذي كان يشدنا إليه , وبعد سنوات انزوى خلالها الياسري الجنوبي الذي لم يكن يعرف إن المدينة تحتوي على كل هذه الألغام لاجتماعية والمطبات , والدسائس , لذا اختار العزلة , مستفيدا منها في الاشتغال على تجربته, وتأثيث ذاته , وفي  لجة عملنا في مجلة( أسفار) التي كانت تصدر عن منتدى الأدباء الشباب عام 1985 م جاءني الصديق الشاعر (علي الشلاه)  مسرورا لينقل لي هذا الخبر السعيد :الياسري سينظم الى  أسرة تحرير المجلة ,ليشغل منصب سكرتير تحريرها , كان خبرا جميلا بحق نقلته بسرعة البرق الى أصدقائي الشاعرين :عدنان الصائغ , وفضل خلف جبر ,فغمرتهما السعادة, فهذا الشاعر الذي كثيرا ما تغرغرنا بقصائده في طفولتنا هاهو يأتي ليعمل في (أسفار ) , وليتيح لنا بهذا العمل فرصة اللقاء به , والاقتراب من عوالمه , كان الذي يفتننا هو الشاعر فيه , ولم نكن نعرف ان جانبا اخر فيه سيشدنا اكثر , وهو دفأه الإنساني , طيبته , عذوبته كانسان , تواضعه , بساطته , كرمه , حينه عرفت  مغزى كلام الشاعر عبدالرزاق عبد الواحد الذي كان يردد على مسامعي : لكي تكون شاعرا كبيرا يجب عليك ان تكون إنسانا كبيرا , وهاهو الشاعر الكبير أراه إنسانا كبيرا , فنزداد حبا له , واعتزازا بإبداعاته , كان الأستاذ الذي ينبهنا الى أخطائنا , والصديق الذي يصغي لنبض عذاباتنا, وأحزاننا , فيغمرنا بطيبته وكرمه , ولن أنسي أبدا تلك الليلة التي استضفنا فيها الشاعر هادي الربيعي والقاص جاسم عاصي  القادمين من كربلاء في أمسية جميلة أقمناها  في المنتدى , ولم نكن نحسب حسابا لما بعد الأمسية ,فقد غاب عن بالنا ان الأمسية ستمد ساعات طويلة ,وان الأمر يستدعي منا استضافة الأديبين في فندق يليق بهما , ومن على المنصة بعث لي الصديق الشاعر عدنان الصائغ  الذي كان قد تولى مهمة تقديم الأمسية ورقة يسألني فيها عن طريقة مناسبة للخروج من هذا المأزق  العويص لجيوبنا الفارغة  !!!!!
وكان يجلس إلى جواري الشاعر عيسى حسن الياسري , ولا اعرف كيف شعر بفحوى ما جاء في القصاصة , وأنا على يقين من انه قرا الكلمات في عيني الصائغ الحائرتين اللتين كانتا تبحثان في عيني َ عن أجوبة مطمئنة , بينما كانت تزيدني قلقا  , وهنا همس بأذني : هل من شيء ؟ ولم استطع أجابته , عندها اخذ الورقة من يدي , ودسها في جيبه , وقال : اتركا الأمر لي , فقفزت من الفرح  لوصول طوق نجاة لم يخطر ببالنا انا والصائغ – لم نكن نجرؤ على كشف عورات جيوبنا أمامه - , فابتسم الصائغ عندما لاحظ علامات الارتياح المرسومة على وجهي , وبعد دقائق أرسل الياسري إشارة الى ولده ياسر , فجاء إليه , همس بأذنه , فغادر القاعة مسرعا الى البيت الذي يقع على بعد مسافة قصيرة من المنتدى في الطالبية , وبعد انتهاء  الأمسية , قال الياسري للضيفين : الشباب يصرون على استضافتكما في ( الشيراتون ) , ولأنني لم أركم منذ سنوات , طلبت من الصائغ والربيعي ان يسمحا لي بكما هذه الليلة , فاعربا عن ارتياحهما للفكرة , وحين أردنا الانسحاب أصر لى مرافقة الضيفين , ومواصلة الأمسية في منزله , وهناك وجدنا الضيافة قد أعدت ,بأبهى صورها , فعرفنا انه كان قد اخبر ياسر  إبلاغ الأهل بأعداد وجبة عشاء  , وكانت  ليلة رائعة , ولايمكن لي ان أنسى ان الشاعر الكبير الياسري لم يكتف بوضع اللوم والفواكه أمامنا بين لحظة وأخرى بل نهض من مكانه وصار يدس لقيمات في أفواه ضيوفه الأربعة, هذا المشهد لن يبرح  ذاكرتي ما حييت, وبعد ان غادرت –أنا والصائغ – منزل الياسري , بقينا مذهولين من كرم هذا الرجل وتواضعه ,الذي يذكرنا ببساطة أهلنا في الجنوب , وكان يعتز بجنوبيته  واذكر إننا أقمنا أمسية له في المنتدى حضرنا عدد من الأدباء من بينهم خالد علي مصطفى وحسن العاني وعبد عون الروضان واخرون .  
وبعد أن انتهى الشاعر عيسى الياسري من قراءة قصائده  تساءل الشاعر والناقد خالد علي مصطفى من على المنصة  :
لماذا يصر الياسري على القرية وتفاصيلها رغم انه على الصعيد اليومي والواقعي يعيش في المدينة ؟ معيبا عليه هذه الرومانسية , حينها كما اذكر احتدم الياسري الذي نعده مثالا للهدوء ,مؤكدا أن  الجنوب يظل يأكل ويشرب معه , وان الهواء الذي يتنفسه يظل جنوبيا ,لذلك كنا نراه مرتديا العقال والعباءة , وهو زي أهل الجنوب
لقد ظل الياسري  مخلصا لجنوبيته في الشعر والحياة.
وإذا كان لكل شخص عنوان  فالعنوان العريض لعيسى حسن الياسري هو الجنوب الذي لعب صغيرا على شطان أنهاره, مع طيوره , واشجاره, وشب فتيا على ضفافه , وهناك امسك القلم ليكتب أولى كلماته ,ها الإخلاص للجذور في الحياة والشعر  هو الذي جعل تجربته لها خصوصيتها , لذا لم أفاجأ عندما سمعت عن اختراق قصائده حاجز اللغة , عبر عدد من  نصوصه التي ترجمت إلى لغات عديدة , ولم استغرب عندما قرأت هذا الخبر الجميل :
خبر فوزه بجائزة  شعرية عالمية .


(*) نشر في مجلة" المسلة" وفي موقع "كتابات" 10-5-2004
 
البحث Google Custom Search