أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
القاص زعيم الطائي لـ (الزمان):

لا أكتب سوي عذابات وأشواق لا نهاية لها

سعد جاسم

منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، والقاص العراقي (زعيم الطائي) يواصل مشروعه القصصي المتميز، وقد استطاع أن يحقق حضوره الواضح في المشهد القصصي العراقي والعربي، وقد أصدر مجموعة من الاعمال القصصية نذكر منها (ابرياء، والشرفة، ومنزل الأم) وهو من الكتاب العرب القلائل الذين لديهم اهتمامات بنصوص الامكنة وسحرها وغموضها وغرائبيتها وذكرياتها التي حفرت في ذاكرتي المكان والانسان، وقد قام بانجاز كتاب جديد عن ذاكرات المدن وعنونه (مدن ياقوت). والطائي من الادباء الذين لديهم اهتمام بأدب وثقافة الطفل حيث كتب عدداً من الكتب القصصية التي تحفل بعوالم الطفولة وهي (الفجر الجميل، النزهة، العش) هذا بالاضافة إلي عمله كمشرف علي صفحة الاطفال (رؤي) في جريدة الجمهورية سابقاً، وهو الآن مقيم في الولايات المتحدة، حيث كان لنا معه هذا الحوار عن هموم وملامح الكتابة وجماليات وتواريخ الامكنة، وغيرها من الأفكار والمفاهيم حول النص المفتوح:

  • كيف بدأت تقترب من هذا العالم، عالمك (بوتوبياك) التي تتوضح معالمها تدريجياً في كتابتك البطيئة المتروية، ماذا عن تلك الهموم، وكيف تبدأ ملامح الكتابة؟

  • ــ أعرف أنني لا أكتب سوي عذابات واشواق لا نهاية لها، عذابات وآلام لا تحدث إلا في اعماق الروح، من الصعب اقتناصها أو تلمس حركتها او اجتيازها، لانه من غير الميسور التعرف عليها من غير أن اعيشها، وأن اقدم ملامح عالمي الخاص في حياتي اليومية بديلاً عنها. انه شيء عصي ومستحيل تلمس أرض النفس المخربة من دون انكاء الجرح، او ادراك القسوة واللامبالاة في كون يحاصرك في كل لحظة، وانسان تلازمه رغبة ملحة في استجداء التواصل مع عالم غير آبه بأحاسيسه وأمانيه وذكرياته. وفي الوقت الذي يتراءي فيه ان لا شيء يحدث علي السطح، فان تلك العذابات والرغبات التي لا حدود لها تتسلل بصمت من مخدع خفي في ادراج الروح المظلمة، وتتحول إلي عواصف وآلام مروعة تغتال احلامي وتميتني بهدوء.

  • أراك تحاول في كتاباتك الاخيرة أن تؤرخ الامكنة؟

  • ــ هناك أماكن كثيرة غير موجودة، ولم تكن موجودة إلا في اعتقادنا، يدفعنا التفكير إلي خلقها من أجل عبور احلام هوائية هاربة ليست موجودة أيضاً، أماكن ليست لها طرق، ولا خطوط، ولا بصمات، يصعب الاهتداء إليها، أماكن منسية ومستحيلة اجمعها من فتات اختزنتها وقائع ضائعة لايام متدفقة بعيدة، أماكن مختلفة تراها كل يوم من دون ان تتسني لك فرصة اخراقتها أو ارتيادها ولو مرة في حياتك، فسيأتي أحد ما في يوم ما غيرك، ويحلم أثناء مروره بطرقاتها الشجية بالحلم ذاته، ويري الاماكن المتكررة نفسه، أو لا يراها ابداً.

  • لم كل هذه الامكنة والكتابة الدائمة عنها، كيف توضح العلاقة بين شيئية المكان والحالة الخاصة التي يعيشها الفرد في هذا العالم؟

  • ــ قد تعني العلاقة مع المكان حالة مختلفة من شخص إلي آخر، أنا أنظر إلي الامكنة من زاوية الدهشة الأولي، وأوضح المأزق الذي آلت إليه مخيلتي، وجود هذه الأمكنة في اللازمان حتي أحقق من خلالها حالة فنية بعض الاحيان إلي أنسنتها.
    عكس (كالفينو) الذي يضمن كتابته الحيادية والتجريد في مدنه اللامرئية، أو (الغيطاني) في (القاهرة في ألف عام) حيث يكتب عن تاريخ المدينة مستعيناً بابن اياس والمقريزي، لغتهما ورؤيتهما في النظر إلي العالم والاشياء. أو (الياس كانيتي) في (أصوات مراكش) الذي تقتصر كتاباته علي مهن تدهش القارئ الغربي كالمتسولين والعميان وبائعات الطريق، أو (وليم غولدنغ) الذي لم يستطع سبر اغوار النفس المصرية في يومياته عن مصر في عشرة أيام.

  • المكان ليس مجرداً، فلابد أن تكون الاماكن مشحونة بالحياة المتحركة بعذابات واقعها، انك تؤسس مكاناً مجرداً؟

  • ــ ولكنها حتماً أماكن لم تخلق من العدم، فهي لم تخضع نفسها لنظام زمني معين، لأن سير الزمن قد توقف أو جف علي أرصفتها، أو حملته أضواء عرباتها المغرية كفنارات مبتعدة منذ وقت طويل، تتهدم علي صخورها مراكب تائهة لقراصنة وهميين.
    دائماً أحلم بمدني الخيالية هكذا، لياليها نهارات دافئة، متلاحقة بأنفاس عابريها المجهولين، ومسافريها المتوحدين المحملين بالألم والدهشة والذكريات، انها باختصار مجموعة متجانسة من الاشياء المغطاة بسطوح وسقوف تجمعها حالات ووظائف واشكال متصلة ومتغيرة في الوقت نفسه.

  • يبدو لي من هذا انك أمسكت خيوطك في نمط الكتابة هذا، ومن تراه أثارك بعد ذلك؟ مَن الذي تتألف مع اسلوبه في هذا النوع من الكتابة؟

  • ــ تعجبني كتابات المبدع (محمد خضير) العذبة عن بصراه الغائبة المفترضة، و(عبد الفتاح الجمل) في كتابه عن واحات الصحراء الذي اسمه علي ما اتذكر (آمون وطواحين الهواء).
    و(سيمون دو بوفوار) وكتابها عن الانسحاق الاسيوي ونصوصها النثرية عن بكين، ومقالات (البير كامو) في كتابيه (الصيف) و(أعراس) إضافة إلي عظمة (كازانتزاكي) في (الطريق إلي غريكو) و(رحلتي إلي سيناء) ونثر (جورج تراكل) و(صحراء ــ لوكيزو) ولوران غاسبار ورحلات ومذكرات (بابلو نيرودا) وهنريش هاينه، وغابة رفائيل البرتي الضائعة.
    كتابات الرحالة والمستشرقين التي استهوتني منذ بداية قراءاتي المبكرة، وكتابات الادباء الامريكان الزنوج العظام الذين يثيرون في كل ما كتبوه اعجابي عن اناس الارصفة والمصاطب والذين يعيشون تحت الأرض أو أحياء خلف (هارلم) في كتابتي عن المكان حاولت باسلوب السرد القصصي واللغة الحية، مستنداً إلي علم المعاني وتحليل الاشارات ان اقترب من الشعر والموسيقي والاستعانة بالصورة الفوتغرافية والتشكيل. هذه الكتابة تجعلني في كامل حريتي في الاستفادة من التاريخ والجغرافية والمشاهدة والحكايات المسموعة، زيادة في الايهام وكسر حدة الواقع، عكس ما يفترضه المسرح الملحمي مثلاً، مع الاهتمام بأنظمة السرد كالوقفة والثغرة، والمشهد الحواري والتوليف السينمائي.

  • هل ضاقت القصة بصراخك، هل ضقت بنقل جغرافية العالم إلي مساحتها؟

  • ــ بصراحة هذا النمط من الكتابة يكاد يبعدني تدريجياً عن كتابة القصة، كأنني أراها في بعض الاحيان في مفترق طرق أو مأزق، هذا النمط الثنائي الذي يحتجزك في حوارات وأطر وشخصيات وبناء، لا يعطيني الحرية مثل كتابة النص، الذي أراه فن العصر الجديد، وتدفق تيار النهر الجارف تحت جسور ما بعد الحداثة. اقصد النص المفتوح دلالياً وليس النص المتسيب.

  • اتخذت المكان بديلاً عن الشخصيات، هل هذا يعني احساسك باللاجدوي؟

  • ــ الكتابة بالاحاسيس يا صديقي تختلف عن الكتابة بالوعي، فالكتابة هي مشروع يحمل اسئلته وآفاق ثقافته، ثمة مجري كبيراً كما قلت لك، ولكن ليس مثل نهر يحفر عكس مجراه، هل تقول لي ما هو تعريفك للزمن؟ أليس من خلال تغيرات مكان ما؟ اليس من دون هذا المكان لن يكون لديها مفهوم للزمن؟ اذن نحن نشعر بالزمن هنا من خلال دورته داخل المكان، والانسان أيضاً لا يكون انساناً إلا في داخله، لولاه فهو ضائع في التاريخ.
    في الوقت نفسه، نضع أنفسنا بدائل لهذا الشيء الذي أسميناه مكاناً، أنا أجد متعة كبيرة في الكتابة عن أنسنة هذه الابعاد والمسافات وكشف ما هو مستور ومختبئ داخل هذه الأشياء السرية المتحركة والتي يغلفها الصمت الازلي المطبق. انني أراها مشروعاً للاستبدال والتغيير، وكل ما نكتب ــ كما اعتقد ــ هو مد نسغ الحياة الجميلة هذه المتعة والثراء الذي يمكن أن نكتشفه باختصار حياتها من عمق الظلام ونقلها إلي اطراف العدم، ينطلق (ماركس) من اولوية الطبيعة، كحقيقة لا يمكن النيل منها، غير ان الطبيعة عند اخذها علي نحو تجريدي لذاتها منعزلة عن الانسان هي ــ كما يقول ــ لا شيء بالنسبة للانسان، فالشيء المهم هو الطبيعة المؤنسنة.
    انني اصنع المكان في حركته التاريخية. صحيح ان الزمن انتهي، وبالتالي اصبح وجوداً منفصلاً وغريباً، ولكن الحركة تظل باقية في كثافة بنيته، وقليل من النشاط المعرفي يتيح لنا امكانية الكشف عن عناصر هذه البنية.

  • في مجموعتيك (الشرفة) و(منزل الأم) والقصص التي نشرتها بعدها كان يعنيك السرد والمفردة الموحية، لكن في كتابتك الاخيرة صار بناء الجملة الشعرية بارزا علي النص، حيث أصبحت الازاحة الشعرية واضحة علي نثرك القصصي؟

  • ــ هناك معايير للنص تختلف بحسب ظروف كتابته في الازمنة المختلفة، والسياق التخاطبي في وقت من الأوقات يختلف في القصة عنه في الكتابة النثرية في وقت آخر. كل نوع أدبي يستخدم ادواته وتقنيته اللغوية الخاصة به أيضاً، فتراجع التراكيب وتكرار التعبير اللغوي نفسه يصبح عبئاً علي الكتابة التي يراد لها ان تقترب من لغة الشعر الموحية من دون السقوط في ابتذال الواقع وصلابته. فالتراكيب والتغيير هنا لا تطول الكتابة النصية فقط بل تطول اللغة التي يكتب بها النص، وتساهم في تحوله من رؤية تحريف أو انزياح مزدوج حتي يتم اللقاء بين المبدع والمبدع الآخر الذي هو القارئ، بغية التحليق في آفاق وفضاءات جديدة غير مكتشفة تشكل مستويات جديدة عبر مجالات اختراق النص. مستفيدة من مفهوم التزامن البنيوي الألسني وقوانين السرد الداخلية، والسيطرة علي انتظام العلاقات الشكلية بين عناصر النص أو المتن وتحديد مواقع مكوناته، وربطها بواقعية البنية الفنية كما يسميها (باختين).
    حضور الواقع هنا من حيث هو موجودات اجتماعية وطبيعية مروراً بجسر اللغة والدلالة التي تحدد ذلك الحضور، انه خلق نسق هذا العالم المتخيل.

  • أراك قارئاً نهما للشعر، ومتحدثاً فيه كأنك شاعر، وقرأت لك العديد من المقالات عن نقد الشعر، كيف تنظر إلي الشعر؟ ومن هم الشعراء الذين تقرأ لهم؟

  • ــ ما دام هناك وجع وعذاب في القلوب فهناك دائماً يكون الشعر. انه التأوه المدمر لمدمرين في محاولة حزينة لاختراق جدران الحياة وقوانين الزمن.
    وأنا دائم الاطلاع علي كل ما ينشره ادونيس وسعدي يوسف ومظفر النواب ومحمود درويش ومحمود البريكان وسليم بركات ومحمد علي شمس الدين، كما يعجبني أمل دنقل وسعيد عقل، ومن الكتاب الشباب: طالب عبد العزيز، فضل خلف جبر، عدنان الصائغ، لطيف هلمت، حمزة حمامچي، عبد الامير جرص، جمال الحلاق وصلاح حسن.
    كتابات كل هؤلاء تجعلني انظر إلي العالم بعد كل سطر، بعيني طفل ممتلئتين بالدهشة.


    (*) جريدة (الزمان) العدد 1414 التاريخ 2003 - 1 - 24
     
    البحث Google Custom Search