أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
في التطبيق:

نص الثمانينات: الازدواج والتضاد

محمد الجزائري

• بكائية لإمرئ القيس
"بكى صاحبي
لما رأى الوطن – القلب
تنهشه الطائرات
وتنقر في نبضه
قطعاً من ضلوع المنازل..
والشهداء..
فأدرك إنا انتهينا
إلى حجر
سوف نحمله – في المنافي –
رصيفاً لأزهارنا الذابلة
يضيق بين السطور وأحلامنا
وأن الندوب التي خلفتها الحروب
على جلدنا
سوف تطمسها السافيات.."
  
..................

يوميء عدنان الصائغ (نص عدنان الصائغ) إلى موحى مرجعي قديم منذ المفتاح/ الاستهلال/ العنوان/ باب الرؤية الأول في نسيج الكلام/.. يغرينا على خلق التداعي مع (معلقة) امرئ القيس (قفا نبك..)، لان الاستهلال في العنوان – وهو جزء من نسيج النص الشعري، وداله الذي ينفتح على دوال أخر – معلوم ومحدد وموصوف: (بكائية) وان كانت لام الجر هنا مثل العلامة الجبرية اللوغارتمية التي تفصل بين الرمز (س) وهو هنا معلوم (البكائية) وبين مقابلها – منتجها – (امرئ القيس) وهو معلوم آخر، يشي (هذا الحرف: اللام) بمفارقة جدوى في (الضدية) إذ تتحول البكائية من ماض إلى حاضر، وكأن (معلقة امرئ القيس) تصبح – في ظلالها ومدلولها – معلقة حاضر، حدثها الواقعي القديم هو (وهم) فنحن إزاء (حدث فني) وليس واقعة يومية هو في المعطى المنظور، المعبر عنه في النص ما احتوته القصيدة فعلا: الحرب العدوان.. وبالتالي فأن الموحى الفني والمرجعي هنا هو (ضدي) ، غير واقعي/ لان ذاكرة الحاضر لا تخزن المعلقة حدثا أو تفصيلا ولكن مزدوج (مثاقفة) الشاعر جعلته يربط ما بين زمن (عمر) بكائيات لم تنته!.. منذ العصر الجاهلي القديم/ حتى العصر العدواني الجديد/ عبر قناع العنوان (امرئ القيس)..
فالنص إذا يطالبنا استبار المعنى الكلي المستتر في أعماق جزئيات (معلقة) امرئ القيس، من خلال شفرة العنوان المعاصر (بكائية).. وكأنها (بكائية) لنا.. لأنها مديدة منذ ذلك العصر النائي حتى العصر العربي الحاضر المشبع بالبكائيات والخاضع لمهيمن عدواني.
أن عودة لقراءة (معلقة امرئ القيس) تجعلنا نلاحظ (حدود) تكونها (من حد وضده) في قسمين مترابطين ترابطاً عضوياً متلاحماً أولهما يحمل السلوك (المضاد) أو المواجهة/ وثانيهما يحمل السلوك (الناكص) على عقبيه والمرعوي عن نزوعه نحو (النقض) أو (الاستنكاف) أو (المتراجع عن غرضه بعد تحويله من طاقة (ساخطة) إلى طاقة (ممتصة) و(مستهلكة) (1).
نحن هنا نستدعي الرؤية الكلية للمعنى ولعلاقته بالعصر الذي افرزه كدال ينفتح على دوال معاصرة وتلك هي مزدوجة القصيدة والتي تنسحب على ضديتها مضموناً.. ومفارقة.
فهل (بكائية الصائغ) – بدون النظر بنزعة تجزيئية – هي بكائية عصرنا؟
(أن النزوع نحو العودة بالايروس – غريزة الحياة عبر العشق – إلى ما كان يتمتع به في العهود البربرية الأولى من حرية التوجه والإرادة هو: عنصر أساس في كتلة الأصول العميقة المعقدة للفن وهو عنصر أساس في شعر امرئ القيس بل هو المحور الأساس من محاور شعره.. لذا فأن المضمون التحتاني لمعلقة هذا الشاعر هو الاستنكاف الذي أبداه الإنسان منذ الأيام الأولى لنشوء القهر واضطهاد الحرية فالمعلقة هي اعظم احتجاج على الخطر قدمه الشعر الجاهلي.. ولكي نستوعب قيمتها كأدب مقاوم فإن علينا أن نربطها بالتغيرات التاريخية العميقة التي كانت قد ترسخت في المرحلة الجاهلية أو في مراحل سابقة عليها والتي كانت تنحو نحو تأسيس أخلاق جماعية لها قوة إقحام التاريخي على الغرائز أو قوة إملائه.. حيث تبدأ المعلقة بما هو معروف لدى الجاهليين بالبرهة الطللية حيث يتجلى قمع العلاقات العشقية على اشده وحيث يتبدى الألم في كلية حضوره:
(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
يسقط اللوى بين الدخول وحومل) (2)
(قفا نحتج،، فالبكاء ـ هنا ـ احتجاج..
لأنه الدال على تطويع الأنا وانصياعها أمام الفعل القائم على الحظر المضروب على الحرية العشقية.. وسقط اللوى هو منقطع الرمل..
والدخول وحومل، هما موضعان/ مكانان للدلالة...
يقول الصائغ:
1 – بكى صاحبي
2 – لما رأى الوطن – القلب/ تنهشه الطائرات/ وتنقر في نبضه/ قطعاً من ضلوع المنازل/ والشهداء..)
رؤية (الوطن / القلب) – إذا فتحنا دالة الوطن على الحرية والقلب على العشق، وضلوع المنازل على المكان والشهداء على القيمة الاعتبارية العليا في التضحية ثم.. إذا اعتبرنا الشاعر جواد الخطاب هو (صاحب) الصائغ، ومشاركه في هموم العدوان الثلاثيني تكون الإحالة إلى كتابه (انه الوطن انه القلب) الذي احتوى كتاباته عن الحرب العراقية – الإيرانية من منظور مشاركة مباشرة وساخنة (والذي انتدبته إليها مهمته المزدوجة كمقاتل ومراسل لمجلة فنون في آن..)
تكون دوال الإحالة لا إلى كتابة وقائع حرب وشهداء وأمكنة قتال، حسب، بل مجابهة موت وحب قسرية في التذكير والكبح معاً.
إذاً فالصائغ أحالنا إلى مزدوج مرجعين الأول هو ظلال الدال في حالة النكوص الجاهلي حيث (امرئ القيس) يزيد في إثبات وتوكيد موضوعية اصول القهر فيستمر في البيت الثاني – من معلقته – بعرض أسماء الأماكن التي له القدرة على الإيحاء بخارجية أسباب الألم.
والثاني هو حالة النهوض/ المعاصر.. حيث الحطاب جواد، يوثق تجربة الشجاعة لمقاتلينا: العشق للوطن/ والشهداء/ والأمكنة (المنازل) المقاتلة ضد العدو والخرق الإيراني يزيد (الصائغ) في إثبات وتوكيد اصول القهر وامتداداته مؤكداً منذ السطر الثاني على التسبيب بالفعل: (لما رأى الوطن – القلب/ تنهشه الطائرات/ وتنقر في نبضه..) وهو عمق.. ثم وكأنه يؤكد الرؤية ثانية (لما رأى) بدلالة اعمق: (الوطن – القلب/ قطعاً من ضلوع المنازل والشهداء) نلاحظ عناصر منظومة العلاقات التمفصلية أي العلاقة بين دالين ثم تغير العلاقات التمفصيلة داخل المنظومة الواحدة في النص.
المنازل ـــــ الشهداء
منازل الجيب، ــــ الوطن
العاشق ــــ القلب
المعشوق،
التأسيس الأخلاقي الجماعي لقوة إقحام (التاريخي) وإملائه في الحاضر، عبرت عنه المنظومة المزدوجة: المنازل/ الشهداء، الوطن/ القلب، البكاء/ الرؤية/ ثم.. الأفعال: تنهش/ تنقر..
وهذه الاستهلالية تكفي وحدها – مادة بحث وتحليل لتميز وعي الشاعر في ترتيب أبنية نصه ودواله في التأويل الثر للبكائية المزدوجة (امرئ القيس/ الحاضر – الحطاب غير المسمى والموحى به..)
وبهذا يقدم لنا النص وعي ضدية المفارقة في آن وهي مزدوج آخر ليحيلنا إلى تأويل مدرك معاصر:
أدرك ـ أنا انتهينا إلى ـ حجر سوف نحمله ـ في ـ المنافي الحجر ـ رصيفاً
الرصيف ـ ل ـ أزهارنا الذابلة.
وهنا إحالة مزدوجة أخرى/ ضدية أيضاً/ فالأزهار الذابلة تحيل إلى تجربة عشقية ثرة ومحبطة لشاعرنا الراحل بدر شاكر السياب في (أزهاره الذابلة) أحد بواكير شعره تجربة عشقية نكسوية في مخاضات القلب والأخلاق (القيم) التي أدّت به أخيراً إلى (منزل الأقنان) !
وهي (أزهار – نا – الذابلة) تنصيص ذهني وجداني معا – في حين أن (الحجر) إحالة أخرى إلى أطفال الانتفاضة أو ما يسمى بـ (ثورة الحجارة) في فلسطين المحتلة. وهي حالة رفضية مضادة لحالة النكوص والقهر وسلب الحرية واغتيال عشق الوطن – فالحجر – هنا – "فعل" (دال) إيجابي يمتد في المستقبل لأنه (يضيق) بين (السطور وأحلامنا) وان ينطوي على مقارب كفاحي رداً على نكوص نكسوي وقهر واضطهاد..
انه أيضاً حالة تأكيد على المقاومة كجدوى المقاومة لاضطهاد الحرية والوطن/ المنازل/ الأرض.. بتوضيح حجم قسوتها. (الحجر يضيق بين السطور والأحلام) – أحلامنا نحن – لا أحلام خارجية، لقد توحدنا بأبطال الحجارة فأصبحنا (نا) وليس (هم) و(نحن) منعزلين.. توحدنا بالقضية الأم، وبذلك ألغى النص حتى تلك المسافة الوهمية الأخرى لأننا نعجز عن أن نسطر أحلامنا نكتبها فتبقى حبيسة مكبوتة.. كمعنى اضطهادي صريح، لكن (الحجر) لا يباعد، بل يضيق المسافة، فهو، إذاً (دال) للأمل في المقاومة.
من ثم فان إلغاء الذاكرة – وليس الحلم وحده – بسبب قسوة الحالة والندوب/ الإشارة – الشفرة – العلامة – الدال / حين تخلفها الحروب على جلدنا.. هي، إذاً، وشم، بدلالاته، كتابة تاريخية – وجدانية واقتحامية بقوة إملائها.. وليس بالرغبة والمؤانسة، أنها – هنا – ليست زينة – بل حفر في عمق المأساة كي لا ننسى حجمها، توثيق أزلي لها، مع ما تحمل الكلمتان من جناس محسوب:
ندوب – حروب.
ومع ما تحمله حالة القهر – العدوان – من إحباط، كون الندوب تطمسها السافيات الرياح الرملية، وهي أيضاً إشارة دالة على تأويل (الصحراء/ عاصفة الصحراء) مشيرة إلى وجع مضاعف ومفارقة مبكية، حين تطمس (السافيات) علاماتنا! فذلك يعني (انتصار) القهر الصحراوي/ التخلف والبداوة والغزو والعدوان/ على مجدنا العربي/ الحربي/ فالندوب أوسمة شجاعة تستدعي الصفات البطولية كلها، لكن (محوها) إلغاء للتاريخ البطولي/ وللبطولة الشخصية في آن..
هنا المفارقة تكمن في النكوص الذي تولد عن نهوض، وهي حالة تأويل لعمق الفجيعة ومضاعفة تأثيرها في ذهن المتلقي بالدال والمدلول، بالفاعل والنوع، وبهذه الازدواجية في منظومة العلاقات / الشعور بالإرغام والقهر التي دفعت (بطل) النص – المتكلم – لان (يصيح) بصاحبه كي يعينه – في الآخر – على (غربته) في (الضياع الكبير)، أولاً بين نفسه وبينه!.. ثم بين الناتج الآخر.
فماذا يغطي (الضياع/ الكبير) في المفارقة الضدية، يا ترى؟
(بلادك ضيعتها
وانتهيت
وما أنت مثلي أضعت الدليل
إلى باب روما)
أية مفارقة أسى؟.. أنها كالاستجارة بالنار على الرمضاء!.. لان (قيصر) ليس الحلم هنا، ولا (المخلص) و(المنقذ)، وان كان كذلك فتلك أعلى حالات المفارقة الضدية ألماً وقهراً ونكوصاً.. فمن يحبذ التآخي بين التيه وقلبه كإقرار أمر واقع؟ ربما.. ولكنه ابعد مما نظن، هو (الدرب) إلى (قيصر) – المغامرة في النص والواقع – (ضرب القمار)، إنها دالة واقعية، كناية وضوح إلى تلك النهاية المفجعة. و(البحر) – في النص – هو الخروج من (صحراء التيه) إلى أفق مفتوح، أو ربما إلى ضياع اكبر، فهنا البحر ليس غاية تودد، بل اقتحام اضطراري نحو مجهول فمن يقول أن الهجرة حياة كريمة؟! والمنفى جنة أن لم تكن موتاً في المنفى هي الأخرى؟
(صاحب) الشاعر، إذاً، بطل النص، هو بين خيارين تعيسين!
وتلك ذروة مفارقة الضدية/ المأساة (أن يرى البحر)
او: (يموت معا في غربة الرمال!)
الشاعر عدنان الصائغ يغلق الدائرة على (صاحبه) الذي (بكى)، وعلينا .. بدأ بالصحراء الجاهلية – موحى، وانتهى الى جاهلية الصحراء، حيث ربط بين (بكائية) ماض، و(بكائية) حاضر .. فهناك بدأ (امريء القيس) البكاء بسبب من القهر والذكرى.
و(الذكرى) هي، (انطواء على رحيل .. اذ هي – حصرا – رحيل الماضي الذي نرتبط به باستمرار، وهذا يعني ان الذكرى موت / او اضمار للموت)
وهنا بدأ (البكاء) – كفعل استهلال – مشروط بالرؤية: (لما رأى)، بسبب من حاضر، وان كان استعمال (بكى) فعلا ماضيا، ليس إخباراً فقط عن شيء حدث، ولكنه مقترن برؤية (الوطن – القلب/ تمزقه الطائرات).
ويفيض النص بمفردات يومية ساندة للمعنى، نهج عدنان الصائغ على توليفها في قصائده بمفارقة واعية ومختزلة هذه المرة وبخاصة وان المفارقة/ الضدية/ واعية لحجم الأسى والأذى، فبعد (بكى) يأتي فعل (أدرك) – بعد (رأى) وفي الحالين يوسع الشاعر من حجم الفجيعة ولا يطمر رأسه في الرمال:
بكى – رأى – أدرك
والنهاية ضياع في الرمال/ السافيات.. وأمام هذا الضغط، لا يخنع الشاعر أو يتراجع بل (يصيح) مستنجدا بصاحبه طالبا العون ضد نهاية مضمرة, (الصيحة) -  هنا – هي معادل موضوعي للمقاومة، إنها فعل احتجاج واثبات وجود ومناشدة ونخوة:
(صحت يا صاحبي في الضياع الكبير
     أعنّي على غربتي
         بين نفسي وبيني
وها أنت مثلي أضعت الدليل/ إلى باب روما
رأيت الجنود
يسدون كل المسارب
          دون الحدود
فآخيت بين الرمال, وقلبي
وقلت هو الدرب
       - أبعد مما نظن – إلى قيصر)  

هذا النص الشعري، إذاً القصيدة بموسيقاها التركيبية، صعودها الصوتي منذ (بكى) والبصري منذ (رأى)، والحسي منذ (أدرك) وحتى الحركي (سنضرب في التيه).. ثم عودة إلى (نرى) أو (نموت) كمفارقة بين ضدين: الخلاص والتيه/ الموت غربة.. في الرمال.. إلى جانب تلك الغنائية الحزينة: (اعني على غربتي: بين نفسي وبيني) يغمر الشاعر، بتوظيف ذكي، نصه الشعري بتلك الجناسات المتضادة:
الجنود / الحدود
الندوب / الحروب
والدوال المفتوحة: صاحبي/ قلبي/ المسارب/ الدروب.. كعناصر في منظومة الازدواجية نجاور – كنص – المبنى الحكائي العام من حيث الفعل الإحباطي والفعل التعويضي لمعلقة امرئ القيس، ومن حيث الفعل المقاوم للغربة إذ ليس اعتباطاً أن يضع منتج النص الاسم بدلالته وموحاه في عنوان القصيدة ثم يربط بين (الرمال) وبين البرهة الطللية (البكاء) عبر ذلك التراتب المتصاعد، عن (ضلوع المنازل والشهداء) حتى احتمالية (الموت) أو (الضياع) في (الرمال) وهي هنا دال لمعنى الفقدان وليس الغربة المكانية حسب، فأعاد تشكيل العلاقة بين (الموت) و(الغربة)، وكأنه موت (شهادة/ استشهاد) لان (الغربة)، و(الرمال) ضيعتاه وكانتا اكبر منه.. وتلك ذروة المفارقة الضدية التي تسعى القصيدة الثمانينية الواعية لترسيخها في تفعيل النص وتشظياته الموحية ودواله المفتوحة وعناصر منظومته الازدواجية.


(*) نشرت في صحيفة القادسية ص ثقافة 16/11/1992
 
البحث Google Custom Search