أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
نشيد اوروك.. أطول قصيدة في الشعر العربي

عدنان الصائغ.. شاعر خرج من رحم دموع الأم

بقلم د. عبد الهادي التميمي
- لندن -

قال عنه الشاعر الكبير وأحد كبار رواد الشعر العربي عبد الوهاب البياتي أنه: "شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب". أما الأديب الناقد والشاعر الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا فقال عنه: "انه شاعر تنتبه إلى صوته حالما تسمعه بين مئات الأصوات اللاغطة بالشعر".. غير أن الناقد مدني صالح يذهب ابعد من ذلك ليصفه بأنه: "اشعر العرب الذين جاءوا الى الشعر".
انه الشاعر العراقي المعروف عدنان الصائغ الذي حاز على عدة جوائز عالمية بينها جائزة هلمان هامت للشعر الابداعي عام 1996م.
إلتقيت به أول مرة منتصف الثمانينيات في جلسة مسائية في حديقة اتحاد الأدباء العراقيين.. كنت مراسلاً صحفياً لوكالة أنباء رويتر ولهيئة الاذاعة البريطانية وكاتبا صحفيا وكان هو ينشر الشعر ويقرأه. كان ملفتاً للنظر.. هادئا خجولاً وديع القسمات تتفجر نظراته عذوبة وحدة، متقد الذهن سريع البديهة موسوعي المعرفة فجمعتنا أشياء كثير اقلها المهنة الصحفية الأدبية.. وأروعها التصميم على النفاذ من قيود المكان والركود والانطلاق نحو العالمية.
فقد نهلنا من الإرث التاريخي الاسطوري والحضاري ولكننا افترقنا أواخر الثمانينيات لتجمعنا الرغبة مرة أخرى وان كنا بعيدين في بلدين مختلفين.
ولد عدنان الصائغ في مدينة الكوفة التابعة لمدينة النجف عام 1955م مدينة الكوفة التي شهدت أهم التيارات الفكرية في العصر الإسلامي.. وولد فيها رجال عظام مثل المتنبي والنفري والكسائي وجابر بن حيان.
حادثت الشاعر عدنان الصائغ هاتفيا في منفاه عن تلك الأجواء المكانية فقال هذا الخليط العجائبي الذي تسلل إليّ من هواء المدينة ومن أغاني أمي الحزينة أمام سرير أبي الفارغ زرع في دمي حقنة الشعر الأولى هكذا يلخص عدنان الصائغ كينونته الشعرية التي أفرزت قصيدة طويلة وصفت بأنها أطول قصيدة في الشعر العربي على الإطلاق.. إنها قصيدة ملحمية تستخدم الأدوات الشعرية والأدبية الأخرى كالسرد والحوار والأساطير والأحداث والرموز التاريخية لتروي حكاية الإنسان "المكدود بين الطلقة واللقمة" كما أوضح لي عدنان الصائغ في الحديث.
هذه القصيدة.. نشيد اوروك أو نشيج اوروك كما يصفها بعض النقاد سرد روائي شعري استغل الفنون الإنسانية الجميلة من نحت وتصوير وسينما وتكنيك الفلاش باك باسلوب رائع مدهش لينقل القارئ إلى فضاءات لا تفلت من بين أنامل الشاعر أو خياله وإنما يصوغها لحناً ليدور في أجوائها مع قارئه يعرف طرقاتها لأنه مر بها.. سار في العشق ولم يرتو بعد.

"مطر ناعم في الحديقة، تسحب معطفها وتظللني فيشب بأرودتي عطرها صاخبا أتنفسها وهي تخفق بين الممرات تعبر زهر الأناناس.. انزلقنا إلى السينما، الفيلم يوشك قال مقص التذاكر أن ينتهي ابتسمت لا يهم. ومال على أذني عطرها هامسا: المهم النهاية في الظلمة".

فهل هذه القصيدة رموز يفهمها عدنان الصائغ بمفرده.. يقول الشاعر "لا تخاطب القصيدة قارئاً معينا إنها لجميع القراء أينما كانوا يستوعبون ما فيها من رموز تصلح لزمانهم ومكانهم. فقد وصلتني رسالة من مترجمة أمريكية تترجم نشيد اوروك قالت فيها أنها تأثرت بها إلى حد أنها تحلم بها وبرموزها وصورها في القصيدة انطلاقة وتعبير عن الوجع العالمي.
ولكن الشاعر عدنان الصائغ قد يختزل بداخله تجارب من نوع خاص ألقت بظلالها على القصيدة: الأغاني العراقية فيها شجن جميل مرهف.. بل حتى القصب يئن ويتوجع عندما تمر به الريح فأنا نتاج ذلك الشجن وذلك الوجع.

"قلت: انتظرتك.
نمضي معا في الأزقة (لا بيت لي غير ظل القصيدة أفرشه وأنام).
شريدين تنكرنا واجهات الفنادق والطرقات الغريبة متكئا فوق كتفي يبلل دمعك عشب قميصي وتحدثني عن مسار الغيوم بجفنيك، عن وجوع طفليك في بلد النخل.. كنت أراك وراء الزجاج المكيف عينين مثل الينابيع صافيتين وثغراً يبيساً كحقل بلادي".

تتخذ القصيدة شكلاً مدوراً وتنطوي على أحداث وأسماء وتستمر على مساحة 198 صفحة من القطع المتوسط مع هوامش سردية للأساطير والدلالات الورادة فيها تزيد على أربعين صفحة أخرى فما تفسير الشاعر لضرورة ذلك؟
يقول عدنان الصائغ: هذا البناء السردي الملحمي الدرامي هو شيء جديد في هذا العصر الذي يتميز بقصيدة النثر والقصيدة السريعة. فهي تشكيلة طويلة من الرموز والأحداث أملت الشكل العام للقصيدة. إنها التجربة الواقعية التي فرضت ذلك. وقد استغرقت كتابة القصيدة اثني عشر عاماً.. بدأت بها عام 1984 في منطقة الحاج أوصال في مدينة السليمانية العراقية الشمالية وانتهيت منها عام 1996 في بيروت. مرت أيام جفاء بيني وبينها اتركها وامضي لكتابة قصائدي وتجاربي الأخرى.. ومرت أيام وشهور وأنا ملتصق بها اكتبها.
والشاعر عدنان الصائغ ينتمي إلى جيل الثمانينيات في الشعر العراقي وقد نشر حتى الآن عدة دواوين شعرية في بغداد ودمشق والقاهرة وعمان ولندن وبيروت أولها: "انتظريني تحت نصب الحرية" ومنها "أغنيات على جسر الكوفة، والعصافير لا تحب الرصاص وسماء في خوذة، ومرايا لشعرها الطويل، وغيمة الصمغ، وتحت سماء غريبة وتكوينات".
ولكن كيف كانت البداية، تلك يرويها عدنان الصائغ:
أول قصيدة كتبتها مساء أحد الأيام عندما كان والدي مريضا في مستشفى الكوفة وكنت صغيرا فعثرت عليها والدتي صدفة قرأتها فبكت، وكان انهمار دمعها إلهاما لي فأحسست أن دموع أمي علمتني الشعر وأعطتني الدفء والدفق الأول.
وكنت في طفولتي أسمع أمي تقرا القرآن وترتله وبشجن وعندما توفي والدي ازداد تعلقي بوالدتي التي بدأت تعمل كي تربينا وكدحت من اجل أن أعيش أنا واخوتي فازددت التحاما بها وترك ذلك ديناً في رقبتي وروحي اثر في قصائدي وهكذا تجدها حاضرة أحاورها وأناجيها.

"يطير الحمام، يطير الرصاص، تطير الدروب، أخبئ طفلي ورائي.. وأركض، أركض في شهقات المدينة.. كأنا نودع أكبادنا إذ نودع أولادنا، ثم نرحل في التيه".

في مدينة الكوفة وجد الشاعر عدنان الصائغ نفسه منساقاً مع الأجواء الأدبية فيها وفي مدينة النجف فساهم في تأسيس رابطة الأدب المعاصر في النجف ومن هناك انطلق مع المناخ الشعري الكلاسيكي العمودي الذي يسود الأوساط الأدبية في المدينة. ولكنني انزحت إلى القصيدة الحديثة كما يقول الشاعر.
ويختزل الشاعر تجربته بالقول: "تأثرت بمعظم الشعراء. فأنا سليل الأحداث التي مرت عبر العصور بوادي الرافدين ابتداء من أول قصيدة عرفها البشر وهي قصيدة (إينانا) وجميع من تركوا بصماتهم على الشعر مثل المتنبي والشريف الرضي وامرئ القيس وبدر شاكر السياب رائد الشعر العربي الحديث. كنت في نشيد اوروك أسعى لايجاد تفسير للأحداث التي مرت فلجأت للأساطير العربية والأجنبية. فالمعرفة الإنسانية شاملة فأخذت من أساطير التبت والهند والفرس والهنود الحمر وأفريقيا إضافة إلى البابلية والسومرية فكانت كتاباً مفتوحاً للريح.
وهذه مقاطع من النشيد:

"هذا متاعك؟
أين ستحمله
أيها العابر المستحيل بنعلين من ورق راحلا عن دروب سترثيك كل الدروب مهاد تبدلها بمهاد ولكن نفسك كيف تبدلها؟
كل شيء يشتني تحت هذي السماء – الخباء الشعوب التي انقرضت تركت دمها عالقا كالنجوم بغربال قلبي امرر أخطاءها وأفلي الدروب من الشرطة العاطلين أمام المصارف ادخل بابا يؤدي إلى الصرف من اسمها وأقول من اسمك تبدأ الأبجديات رحلتنا في الطريق إلى طائر السيمرغ الكون يسبح في نونها نقطة سرها كامن في الكمون وسرك في شفتي أن نطقت استباح دمي بعل مرقد. يطعنني ليعلمنني الرقص انزف في قفصي راقصاً، هل من النزف يبتدأ الحب؟ هل دهشتي بدء فلسفتي؟ في انبساط يديك على ورد روحي لا يتطابقني العشب شاردة في التلال دموعي وراء أوفيليا وأصغي إلى شمعة تتناقص كالعمر في بقيق الماء. هذا الرنين يفاجئني عابرا سور بئر النعاس إلى النافذات المضيئة في أرقي فأحوم فراشاً واعرف أني ستحرقني لوعتي. مرتحلاً في المرايا أقشر ضحكي وأبكي فيقبض ذهني على نجمة تتشرد بين الكمان ورمشك. لعلي سأمنحك الدفء في ليلة لا مصابيح فيها على بعد نافورة من قميص رأيتك تبكين صفصافة جف من تحت أغصانها النهر. من ستخيط ضفافي إذا جف نبعي؟ أكلم هذا الرماد الذي يتناثر بي ناثراً قوس عمري على صدرهن نوافير من عطش تغسل الصيف والطرقات فأنشق في الشعب هذا الذبول يموّجني فوق جرفك تاركة لوحة بيمبا يقلبه موج فارو. هل الهجر ديدنهن؟ فقولي لكنتو بان يحفظ الكيس في عبه أينما سار. لكن ديدنا السهو. لي فمها نصف رمانة غير أني لفرط غبائي فرطت حباتها فوق صحن الملام فلم يبق لي من هواها سوى دبق في الأصابع أو حسرة في الأضالع. لي في السطور أضعت جناحي بياتريس حين انشغلت بمرأى الجحيم فطارت تواصل رحلتها في مدي اللازورد فما ذنب قلبي إذا كان هذا الأنين من الأرض يخرقني، ممعنا في الكتاب ولا ضالعاً في الغياب لكي تكتب الآن إمح وواصل جنون البياض. الكلام فصوص يثقبها النظم فالظم بخبط الشرود هيولى الوجود (رأيت المعري بمقبرة الكرخ ينشد من دهش صاح هذي طغاتنا تملأ الأرض فأين الطغاة من عصر عاد.. حين تناهي لناشر ديوانه وقع أقدامهم أخرج الطرس من عبه حك بعض الحروف وخبأها) خائفا من ظلام سيطعن شمسي بحربته من فتاة تمايز ما بين أزهار شرفتها وذبولي على غصنها، من صديق يمشط صوتي بكاتم صوت (رأيت المحقق عيناه عاقفتان كمنقار صقر تحطان فوق ضفاف دموعي وتشرب، تدنو حمائم روحي شاردة في البهي من الغصن يزجرها سوطه فتطير إلى هفوة في خفوت البياض اعتياداً لكثرة ترديده ما سيبقى يؤسسه الشعراء على هامش النص) يغمز عبود: تقصد كيما يخربه الأمراء على متن الأرض"..


(*) نشرت في صحيفة "الأربعاء السعودية" 1 محرم 1418 هـ
 
البحث Google Custom Search