أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ في "نشيد اوروك":

إمعان في العذاب النفسي والجسدي

لامع الحر
- بيروت -

هل ما زال الشعر العراقي ينهل من المعين الكربلائي؟
وهل كُتب على الشاعر العراقي أن يظل العصر كله أسير صرخات الشجا والحزن والبكاء الذي يصل غالباً إلى حد العويل؟
هذا الكلام لا يعني أن الشاعر العربي في أقصى حالات السعادة، وجل ما يشكو منه هو البحث عن المزيد من الرفاهية. بل الحقيقة الساطعة تقول "كلنا في الهمّ شرق". والشاعر العربي، إلى أي قطر انتمى يعيش حالة من الحزن طاغية تجعله لا يرى جيداً ما في العالم من جمالات ومسرات، فينسحب إلى داخل ذاته ليبثها شكواه وألمه خوفاً من تلك الجدران التي تصغي وتسجل مسودات أفكارنا وهواجسنا جيداً. لكن العراقي، بشكل خاص، هو الأكثر انصهاراً في المأساة، لربما كان الشاعر الآخر طارئاً في تعاطيه مع سيمفونية الحزن، إلا أن شاعر بلاد ما بين النهرين شاعر متأصل، متجذر في بوتقة القهر، لكأنه الوجه الآخر لتلابيب الشجا وتفصيلاته الكثيرة.
عدنان الصائغ شاعر "نشيد اوروك" الصادر عن دار أمواج هو من هذه الناحية شاعر عراقي أولاً وأخيراً، لأنه حوّل حزنه الداخلي والذي قد يكون جزءاً لا يتجزأ من الحزن العام إلى نشيد يسجّل ويدوّن بإيحاء شعري، ما اعترى هذا العالم المر الذي نعيشه من حروب كسرت حلاوة الحياة ونسغه الجميل، وقضت على ما فيها من حضارات، تاركة للطغاة وحدهم أن يسرحوا ويمرحوا ويخرّبوا ويقتلوا ويهدموا ويسفكوا، كأن هناك من أوكلهم بإيصال البشرية ليس إلى الدرك الخطر فحسب، بل إلى نهاياتها المحتومة.
عدنان الصائغ شاعر عراقي، وهذا لا يعني انه يقتحم عالم الحزن من الخارج، بل من داخله، من صلبه، من بدء تكوينه الى ما هو عليه الآن، لأنه في هذا المضمار يحمل إرثاً فوق ظهره، وفي ذاكرته، وفي وجدانه، وفي شعره، يعود إلى مئات من السنين خلت، ولهذا نلحظ الحزن في لمحات وجهه قبل أن نلحظها في عظمة لسانه، انه الشاعر الذي يتنفس الألم كأنه يتنفس رمق الحياة نفسه:

"أكنت أخاف وضوح النهار ليكشف لي وجه قاتلنا في المرايا ينظف أسنانه من بقاياي، لكن روحي مهيأة للطعان، لأذهب أبعد في كرنفال المراثي، يجيء الصدى مطراً نادماً في الفيافي: أأترك في الري ملكاً يسيل عليه لعاب الملوك وأرجع مختضاً بدماء ابن عمي؟
كان دم ديموزي .. الحسين .. المسيح
... يسير مع النهر والنخل والريح
صحت برمل الجزيرة: أين الفرات؟
فجاء الصدى: كلّ شلو، من الحسين فرات
كلّ قطرة دم.. تصبح
- على خشب الصلب -
          موتي حياة"

يسمي الشاعر قصيدته "أطول كابوس مر بحياتنا" ويجعلها الناشر "أطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي على الإطلاق". فما هي حقيقة الأمر؟
"نشيد اوروك" قصيدة تمتد على مساحة مائتين واثنين وثلاثين صفحة من الحجم الوسط، وينهيها بإضاءات أو هوامش توضح النص بكل ما فيه من رموز وإيحاءات. لكن هذه الإضاءات التي تأخذ مساحة ثلاث وثلاثين صفحة مطبوعة بحرف صغير – اختصاراً للورق – يجعل قراءتها مسألة بالغة الصعوبة.
ويشير الشاعر أن القصيدة كتبت خلال اثني عشر عاماً أي بدءاً من سنة 1984 ولغاية 1996 "وما بينهما من أيام سود" وفي المدن والأماكن التالية: السليمانية (إسطبل في قرية شيخ أوصال)، معسكر 575، شيراتون البصرة، سجن الموقع في كركوك، الكوفة، بغداد، القاهرة، عمان, صنعاء، عدن، الخرطوم، دمشق وبيروت. أي أن الشاعر لم يبتعد عن "اوروك" قيد أنملة على الرغم من تنوع الأمكنة. لا بل على العكس، انتقل نشيده معه، من مدينة إلى أخرى، وكأنه السجل الأوثق على ترحاله ونفيه المستمر.
"نشيد اوروك" أو هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها" هكذا يقول. لكن هذه الجمجمة التي يتنكر الشاعر لها هي جمجمتي وجمجمتك وجمجمة كل منا. إنها النشيد الذي ينطلق من خصوصيته إلى الفضاء العام ليعبر عن وجعي ووجعك، ووجع المواطن العربي المتكسر أمام ضراوة الحروب، وجبروت الطغاة:

"والعصر، إن الشعراء لفي خسر، إلا النقارين على طبل والهزازين على حبل والماشين مع النهر. فأحرق أوراقك يابن الصائغ لن تجني من هذا العالم غير القهر. وهذا الشعر يغلق عينيك بمنديل الدمع فلا تبصر من متع الدنيا شيئاً. واو طاء نون مرّ الحراس على جفني فاستوقفهم وقع خطى ينسل خفيفاً بين الأهداب وبيني. شرعوا ببنادقهم صفاً صفاً وانتظروا.. فصرخت بهم: هذا قلبي".

القصيدة "يمتزج فيها التاريخ والأساطير والفلسفات والسحر والسير والتراث الفكري الإنساني والعقائد والجنس والأشخاص والأحداث لتشكل هذياناً مسعوراً اقرب إلى صرخة احتجاج أمام ما يحدث. ويرسم بـ "عبود" صورتنا جميعاً، صورة الإنسان العربي المكدود والمحدود بين اللقمة والطلقة".
في "نشيد اوروك" يطل الشاعر ممسكاً بالحجر .. وبعناصر لغته الشعرية المترقرقة سلاسة وقوة، تسندها غزارة الثقافة المستوعبة، تحيل معها الأحداث الكبرى التي عصفت بهذا العالم، واليوميات الوثائقية والأفكار الفلسفية والدينية والاجتماعية إلى مادة للكلام العفوي الذي يفيض ببساطة دون تعقيد أو مباشرة، وإنما بلغة شعرية صافية.
وتتميز القصيدة على طول أبياتها بنسبة عالية من التماسك والترابط الفني والفكري والدلالي، الداخل في نسيج التكوين العام للنص:

"أشنق نفسي بخيط ضياء نحيل تحدّر من جسر "باب المعظّم" مرتعشاً، ستقاطعه المركبات../ خسرنا البلاد/ خسرنا الأغاني/ ورحنا نجوب المنافي البعيدة/ نستجدي العابرين/ ولي في الرصافة نخل وأهل/ ولكنهم ضيّعوا – في الهتافات – صوت المغني
وعبّود يرنو لسوط المحقق، وهو يلملم أقواله الذابلة
أيها الذابل الآن
تحت غصون المكاتب
كم عبرت قلبك الغيمة الراحلة".

"نشيد اوروك" يضيء مساحات الحزن والألم عند المنشد والقارئ.. ويهدر النشيد حتى لينبئ بفضائحية ما تذكرنا بأننا ننتمي إلى عالم يسمى نامياً، أي لا تنمو فيه إلا وسائل سحق الإنسان وتنمية إحساسه بأنه اقل قيمة من جرذ أو خنفساء.
يوقع الصائغ ضرباته على أوتار التفعيلة دائماً، وان غادرته القافية أحياناً فلتعاوده بين فترات تطول وتقصر حسب متطلبات القصيدة:

"يأتي الغزاة وراء الغزاة، ويأتي الطغاة وراء الطغاة ولا شيء..".

"يستبدلون الغلال بأخرى، السجون بأخرى/ ويمضي بنا العمر جوعاً ونفياً وقهراً/ وهم راسخون على الأرض دهراً فدهرا، نباع ونشرى ، ولم ندر أمراً/ ونذبح مثل الشياه بساح معاركهم كي يزيدوا حدود الممالك شبراً."

" - كم ساعتك الآن؟
منتصف الموت ببغداد..
ورجال الـ (آر.بي.جي) خلف النخل يدكون قلاع الديكتاتور (يفتش بين الأدراج عن الحرس الخاص: لقد فروا فيلوذ بزاوية المرحاض. يموت وحيداً مذعوراً. يسحله صرصار من ياقته بين الأنقاض يخشخش بالأوسمة الذهبية. تعترك الديدان على جثته، كاميرات الصحافيين، تعلّقه فوق الجسر اكف الشعب الهادر لافتة لنهاية عصر الطغيان.."

صور الوطن تهيمن على نص الصائغ مشحونة بشعور بالغربة والنفي مرير. والوطن الذي يبنيه المقاول هو النقيض للوطن الذي يحلم به الشاعر ويريده. وعندما يصير مجرد سعي دؤوب لبناء الشقق والفنادق والمطاعم يطرد المبدع منه، فينسحب إلى ظلال تقيه وطأة هذا البناء، ويدخل عالم الحلم الذي يستوعب أحزانه الكبيرة.
المواطن يعيش الخيبة دائماً. الخيبة من السياسي الذي يجرّع المواطن ويلات الجوع ويدفعه دفعاً إلى ساح القهر والفقر. والخيبة من الآخرين الذين يضعون القول موضع الفعل، فيضيع الوطن المثال ليحل مكانه الوطن – الصفعة:

"قالوا.. وقالوا../ وقلت: سلاماً.. أيا وطناً/ لم نجنِ منه سوى الصفعات".

لكن المنفى ليس بديلاً للوطن، أي منفى. وكيف إذ كان مصحوباً بالخوف والجوع والذل؟ وكيف إذا كان مسعىّ دائماً للاستبدال بمنفى آخر اقل قسوة؟ وإذا كان طرقاً
لأبواب السفارات التي تعرف كيف تمتهن كرامة الكائن الحي وتسيء إلى إنسانيته لمجرد انتمائه إلى هذا الوطن؟ حتى يراوده شعور بان الأفق أضيق من كوة السجن، وان العالم الواسع يضيق به، فيعيا وهو يبحث عن مكان يليق:

"أجوب العواصم وحدي، طريداً هلوعا/ تلوك الكلاب ثيابي – الضلوعا/ من بنا أكثر جوعا/ وأمضي لأطرق باب الوكالات، السفارات، لا من يرد.
تقلّبني نظرات الموظفة المستفزة من فتحة فتغلق شباكها حين تبصر سعفاتي الخضر ذابلة في السؤال المذل".

"نشيد اوروك" قصيدة طويلة وليست مطوّلة. مشغولة بعناية فائقة وبجهد بالغ يدفعك إلى عدم الاكتراث بالسلبيات، والثغرات التي تعتور النص.
الا انه لا بد من القول أن القصيدة متعبة جداً. فلا فراغات فيها. ولا متسع للراحة بسبب تزاحم سطورها، وتداخل فقراتها، وما رافقها من تكرارات للفكرة الواحدة في غير مكان.
لكن تبقى "نشيد اوروك" علامة بارزة في مسيرة الشاعر عدنان الصائغ، وان مال أحياناً إلى الإمعان في تصوير العذاب النفسي والجسدي، في نشيج يصرخ بعبثية ساحقة.


(*) نشرت في مجلة "الشراع" اللبنانية س 15 ع 750 في 7 تشرين أول/ اكتوبر 1996
 
البحث Google Custom Search