أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
ثقب في خوذة..
سماء في خوذة

اليومي والمألوف في قصيدة الحرب

قيس كاظم الجنابي

- 1 -

انتقال الشاعر عدنان الصائغ في إحساسه بالمكان من (ثقب في خوذة) إلى (سماء في خوذة) فعبر عن اتساع محدودية الأفق من دائرة ضيقة مسننة تعبر عن التحدي والاختراق إلى دائرة مطلقة غير محددة الأبعاد ويعبر عن اتساع مساحة الخوف من الرجفة حتى سكرات الموت. أن الانتقال من داخل الأشياء (الثقب) إلى سطحها الأعلى الذي يحتويها (السماء) يظل معبراً عن تماس الشاعر بالبيئة وبمعطيات الحياة اليومية، وعن صلته بأحاسيسنا وشهقات أنفاسنا في لحظة الارتعاش والخوف، وهذه مسيرة مثقلة بالهواجس والرعب عبرت عنها تجربة الشاعر التي تناولت موضوع الحرب من خلال التصاقه بما هو يومي ومتداول في أربع مجموعات شعرية.

- 2 -

تخالط الحياة اليومية نزعة رومانسية في مجموعته الأولى (انتظريني تحت نصب الحرية) من خلال حسه الشعبي المعبر عن تفاعله مع الواقع الذي يبدأ من البيت فالشاعر فالمعسكر فخندق النار، مما جعل حضور الذاكرة ينحسر تدريجيا إلى زاوية ضيقة بحجم الثقب ولم يبق منها سوى تأثيرات البياتي والسياب وحسين مردان وحسب الشيخ جعفر وأغنانينا الشعبية التي تدفعه مع لهجتنا العامية نحو البساطة والعفوية والطفولة كما في قصيدة (طفولة):

"أما نسيت نشيدي – يوم الخميس –
سيزعل مني الوطن"

وتسود الأحاديث اليومية في (صباح الخير.. أيها المعسكر) بصيغة الحديث اليومي. المألوف بشكل يهبط باللغة من جزالتها وعذوبتها كما في قصيدة (سلاما.. يا جسر الكوفة) في قوله (لو تدري) و(أبوس.. نخيل الكوفة/ جذعاً.. جذعاً). وكذلك فعل في القصائد (تفاصيل لم تنشر من حياة المقاتل الفنان حسين حيدر الفحام، وقوفا.. إلى أن تمر الشاحنة، أحاديث حول الموقد، أشياء.. عن علوان الحارس).
ورافقت ذلك نزعة قصصية نابعة من شيوع التعبير النثري في قصائده وذلك عبر صور حاولت استغلال الحيز المكاني لتتناثر بتشكيل صوري يتفاعل مع بنية القصيدة وصورتها الداخلية فيتعامد ما هو مكاني مع ما هو داخلي ضمن بؤرة اليومي كما في (طفولة). وقد يستقي صوره اليومية الحية المتدفقة من واقع حي وملموس هو أجواء الحرب فيستغل بعض خصائص التعبير الفني واللوني كما في قصيدة (غناء الأشجار في موكب الشهيد محمود) التي قسمها إلى عدة مقاطع أولها (اللوحة الأولى) التي اهتمت بمحدودية المكان وصلته بالحرب:

"ثقب في خوذة
الريح تمرُّ غناءاً.."

أو توسيع رقعة القصيدة صوراً واستثمارها لونيا حيث يقول (وبقايا دم../ نبتت – في اليوم التالي/ أعشاباً/ ونجوماً/ وزهور بيضاء)
أن صورة الثقب في الخوذة يمكن رسمها بتشكيل خاص مثلما يمكن رسم بقايا الدم التي نبتت بلوحة خاصة عن مشاهد الحرب، انه يستغل أبعاد المكان لتصوير واقع جديد مفروض هو واقع الحرب وقدرته التدميرية.
أن اهتمامه بما هو يومي ومحدث وخاضع للصراع المتجدد قاده إلى التكرار في صوره الشعرية، وهو تكرار تمليه حراجة الموقف وضرورات المرحلة كما في القصائد (ميم.. وقصيدة الأرض، للوطن.. طعم الطفولة، تأملات.. تحت نصب الحرية، شمعة.. لعرس الشهيد) كما في الأولى حيث يقول: (ويطلع.. من جذوة الأرض / غصناً.. من الحلم/ غصناً.. من الضوء/ غصناً.. من اللهفة الصادقة). وهو تكرار لفظ (غصن)، وقد يميل إلى التكرار الضمني (المعنوي) كما في (الوطن.. طعم الطفولة) حيث يقول: (وتشدو الحقول/ الطيور/ الجسور/ الدفاتر) فلفظة (تشدو) تبدو مكررة بالرغم من إهماله لذكرها وهذا ما ينسجم مع تكرار لفظة (أحلى) في قصيدة (مقاطع).
أن ما يمنح قصائد عدنان الصائغ فاعليتها المحدثة هو إنها قصائد تفيد من اللغة لخلق حالة من التواصل بين القصيدة والواقع ضمن نزعة سردية خاصة كما في (طفولة)، أو في توظيف الحوار القصصي والجمل النثرية كما في القصائد (سلاما.. يا جسر الكوفة، تفاصيل لم تنشر من حياة المقاتل الفنان حسين حيدر الفحام، تداعيات شاعر، في انتظار القصيدة!) وهذا ما جعل القصائد تميل إلى الإطالة والاستطراد وتفتقر إلى التكثيف والتركيز وذلك ما سيتجاوزه في مجموعته التاليتين.

- 3 -

تتداخل قصائد مجموعته الثانية (أغنيات على جسر الكوفة) زمنياً وفنياً مع مجموعته الأولى، فما زالت النزعة الرومانسية والاهتمام بالحياة اليومية، والسيولة اللغوية المشحونة بالأحاسيس والصور التي تنساق فيها عاطفة الشاعر خلف لحظة التوهج والانفعال بالحدث، وهو حدث يومي يلاحق الشاعر ويمنحه موضوعاته، انه حدث الحرب.
ثمة هاجس تجريبي يحيط به ويكتنف قصائده، وهو نابع من قلقه أبان لحظة الإبداع وتوهج الحدث داخل مصهر القصيدة وهي تتشكل فنيا على نار متوهجة تستعر مع استعار لهيب الحرب وضغط الحس الشعبي المشحونة بالأغاني والأمثال والمعتقدات، لهذا حاول مداراته والتوفيق بينه وبين بنية القصيدة عبر تشكلاتها الداخلية والخارجية فمال نحو التقطيع والحذف والترتيب الصوري – عبر التنقيط وتوزيع الحروف والكلمات – كما في (رسام، مراجعات خاصة جداً..) أو في القصائد التي وظفت الموروث الشعبي بوضوح (تداعيات.. أمام باب القصيدة، أمي..، في المقهى..، مقطعان من حياة الشهيد فاضل النجفي، تخطيطات أليفة.. عن الأصدقاء، خمسون قذيفة.. هل تكفي، عن الأمنيات..، طاسلوجة).
ويجنح نحو السردية ذات النزعة النثرية كالحوار والسرد والمونولوج واستخدام الشخصيات والأحداث وهذا أكثر ما يتصف به شعره، بشكل منحه القدرة على التصوير والتفاعل مع الحدث إذ تبدو قصيدة (تخطيطات أليفة.. عن الأصدقاء) اكثر القصائد استجابة للسرد، والحوار والمنلوج حيث يستخدم (فعل القول) في حديثه والحوار المسبوق بالشرطة (-). أما الشخصيات فانه وظفها لتشكل محور القصيدة حيث ساد استذكار شخصيات الشهداء والمقاتلين ومنها (الشهيد محمد عبد الزهرة ياسين، محمد لقمان، حسن صكبان، عز الدين سلمان، كاظم عبد حسن، كزار حنتوش).
تمتلك قصيدة (في المقهى) نكهتها الخاصة في خلق الصورة الشعرية المشحونة بالحس اليومي – الشعبي الذي يستقي جذوره من أجواء الريف وصور الطبيعة ذات الطابع الرومانسي، لكنها تظل عرضة للنثرية القائمة على استثمار الرد القصصي في عرض الحياة اليومية حتى أن القارئ عندما يقرأ القصيدة يشعر بأنها اقصوصة، فقد بدأ بسرد لحظات جلوسه في المقهى، ثم انزلق نحو الذاكرة مستحضرا الطفولة ورسائل الحب، وذكريات الريف عبر التداعي الذي يحيل القصيدة – التي يفترض أن تكون مركزة مكتفية بالتلميح – إلى حكاية ذات نكهة يومية، فالتداعي يقترن بالسرد والسرد يقترن بالحوار والحوار عبارة عن حوار مع النفس. أن ميله نحو التركيز لم يكن بالمستوى المطلوب وقد ظلت شوائب مجموعته الأولى عالقة حتى جاءت مجموعته الثالثة فكانت اكثر اهتماما بهذا الجانب.

- 4 -

يميل في مجموعته الثالثة (العصافير لا تحب الرصاص) إلى التركيز وتكثيف الصور، مع اهتمام بالصور في تغذية الصورة بإمكانات متطورة في تشكيلها وبنائها، لكنها لم تتخلص من سرديتها كما في القصائد (طلقة، ساحة ميسلون، الثلاثون، احتراقات القمر المشاكس، تداعيات رجل حزين) حيث تتناوب الحركة مع السكون في (طلقة)، أو عبر استغلال البعد النفسي لحركة الزمن في (ساحة ميسلون) حيث يعرض لنا ذكرياته عن يوم الخميس، أو عبر حركة الصراع بين المتضادات التي وجدناها حركة وسكون في (طلقة) وفي (الثلاثون) احتراق وانطفاء مما يجعل صوره تعيش حالة ارتعاش تتأرجح بين موقفين متضادين لا يستطيع أن يدمجهما في بوتقة واحدة، وهذا نابع من صراعات ضغط الذاكرة واستجابته لما هو يومي ومتداول، لهذا حفلت قصائده بالجمل الاعتراضية التي تقلب المعنى وتجرد الصورة من انسيابها وتدفق ألوانها ورسومها، كما في القصائد (مرايا الوهم، تداعيات رجل حزين، الثلاثون، هواجس لا تعني أحدا، موت طلقة)، حيث يقول في الأولى: (توهمت أن الجرائد – يا للحماقة / سترثي رحيلي المبكر..) إن عبارة – يا للحماقة – تدخل في سياق الحركة وصورتها بصيغة المنلوج كما في قوله: (لكنني../ - بعد عشرين عاما مضين ماذا تبقى؟) او قوله في (موت طلقة): (اعرف أن الطلقة/ قاسية حد اللعنة/ حين تمر أمام الموضع../ لا ترحم) أن الجملة الاعتراضية – حين تمر أمام الموضع – تبدو ذات مهمة تفسيرية غايتها تفصيل وبيان المكان الذي هو بالتالي حيز مرتبط بالحركة اليومية.
ويسود استثمار الشاعر للحوار بشكل اكثر شيوعا كما في (قطار) التي يدلل فيها على حيرة الشاعر حينما يرتبط بحرف العطف (أو) الذي يفيد التخيير حين يقول: (سأجلس عند المحطة، منتظراً/ طلقة/ عسساً/ أو نساء) أو قوله: (ما الذي ظل لي غير/ عشر دقائق../ أو سنوات) ولهذا استفاد منه في التصوير الدقيق للهواجس والمشاعر الإنسانية كما يفعل القاص كما في (رغبة) وهذا قاده نحو التكثيف وبضرورة استخدام الفراغ والحذف والاكتفاء بالألفاظ الضرورية المعبرة عن المعنى بأقل ما يمكن من الكلمات كما في (مقاطع صغيرة) حيث تبدو بصمات السياب وأحلامه وآلامه تحوم حوله كما في (تساؤل خاص) حين يقول: (ما جدوى أن تحتضن الفتيات دواوينك). مشيراً إلى قول السياب:
ياليتني أصبحت ديواني
لأفر من صدر إلى ثاني
وقوله:
ديوان شعر ملؤه غزل
بين العذارى بات ينتقل
أن الصائغ في هذه المجموعة انتقل نقلة نوعية ستثمر في مجموعته التالية في الابتعاد عن الترهل والنثرية والتكرار عبر اعتماد التكثيف والتوغل إلى داخل القصيدة وتطويرها فنيا، والاهتمام بالموضوع ومنحه عناية خاصة، انه شاعر راح يطبخ عشاءه على نار هادئة، يتأمل ويرى ثم يكتب.

- 5 -

لقد كانت مساحة الفضاء لديه في مجموعته الأولى (ثقب في خوذة) فأصبحت لديه في مجموعته الرابعة (سماء في خوذة) فحصل توسع في اقتناص المساحة صاحبه تطور في تجسيد الموقف ورسم الصورة وتوظيف اللون، فمن الثقب الذي يبدو كالظل على سطح الخوذة الكاكية اتسع الحيز فاصبح جسداً مطلق الاتساع كاتساع الكون والأشياء فعبر عن إحساس قوي بوطأة الزمن وبرعشة الخوف، وأحياناً بالسخط من الحياة وما يحتويها. وهذه تجربة جديدة صاحبها تجديد فني واضح واقتصاد في اللغة ونزعة نحو التكثيف، أدى إلى التعمد في الاختصار واستخدام القصيدة القصيرة المكتفية بذاتها كما في (صور مرتبكة، أمسية شعرية، س)، فعكست الأخيرة (س) هاجس القلق الذي يسود نصف العالم وهو منه فجعل أجواء الخوف الموت واضحة كما في (مفتتح أولي، آخر المحطات، أول الجنون، سماء في خوذة، بريد القنابل، بائعة التذاكر، سأم، قصيدة حزن كلاسيكية، اسم للحرب) ففي الأولى ينظر إلى موته المؤجل وهو يرمقه ببرود عبر صورة تميل إلى التشخيص ومنح الموت صورة جندي يخلع خوذته وينام، وفي الثانية يشعر بان موته هذا هو الأخير مما يعني انه يصارع الموت عبر منظور وجودي يعبر عن ضيق مساحة الحياة واتساع مساحة الحرب، وان تأجيل الموت لحظة أخرى يعد كسباً له. وفي (سماء في خوذة) يبدو مرتبكاً أمام الرصاصة, وهي قصيدة ذات نزعة سردية يستخدم فيها ضمير المتكلم على لسان (العريف) الذي قال (هو الموت) لا يقبل الطرح والجمع/ فاختر لرأسك ثقباً بحجم أمانيك/ هذا زمان الثقوب). بالرغم من استمرار الحيز الضيق (الثقب) في فرض نفسه إلا انه في واقع الحال يتسع للأماني ويحتوي الحياة، مثلما تتسع الخوذة لتستوعب السماء، حيث يحصل الصراع بين المتضادات للفوز بلحظة التأجيل من الموت حتى أنه يحاول أن يصرع الموت بقعر خوذته (نتحدى معا صوتنا/ أينا سيخبئ – يا وطني  - رأسه../ ولنا خوذة/ واحدة) مما دفعه لان يعلق قلبه في المشجب وينام: (أفتح دولابي الخشبي../ اعلق – في المشجب/ وقلبي/.. وأنام) وفي قصيدة (لا اسم للحرب) تصبح الحياة مثقبة لشيوع مفردات الحرب اليومية حين يقول (فاقتسمنا على طاولات التوابيت / خبز بالبقاء المثقب، والشاي).
أن هذا الاهتمام بالصورة الشعرية النابعة من مفردات الحياة اليومية اعترضه خلط في الحواس (تراسل الحواس) وهي محاولة لاستحداث أجواء جديدة تعبر عن نزعة تجريبية كما في (ارتباك، ناقد) حيث يشير في الأولى إلى (همس الأصابع). وفي الثانية يلملم سخريته كما يلملم أشياءه وينصرف في حين يميل في (نساء) إلى كتابة القصيدة المرئية وذلك يتخيلها صوريا عبر التقطيع المكاني للفعلين المضارعين (تتقدم ويصغي) وذلك لبيان الحالة النفسية التي يعانيها:

"تتقدم...
يصغي
تتقدم...
يصغي....
تتـ..."

فلا شيء (غير هسيس تنفسه)، ولا شيء قرب الباب سوى هسيس خطاه (في أدغال الروح).
أن هذه المجموعة تشكل تطورا نوعيا في شعر عدنان الصائغ من حيث الصور واللغة وبناء القصيدة واستثمار أجواء الحرب بوعي شعري واضح.


(*) نشرت في صحيفة "القادسية" 14/9/1990
 
البحث Google Custom Search