أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
هؤلاء المجانين... يصنعون توازن العالم

آمنة البلوشي
- عُمان -

لماذا كان (بيتهوفن) يصب على رأسه ماءا باردا قبل أن يؤلف موسيقاه؟
ولماذا كان (بورخيس) يناوش فكره ليخرج حلم الليلة الماضية؟
ولماذا كان (بوشكين) يختار فصل الخريف ليكتب؟
ولماذا كان الروائي (هو بكنز) يخرج من النافذة ليلا ويدخل من النافذة مرة أخرى؟
إن تلك الممارسات الغريبة تعتبر طقوسا وحالات من الإلهام فهؤلاء المبدعين وغيرهم مارسوها لحظة أنسام الإلهام والذي كان يعتكف ذهنهم لذلك ....أل بهم نحو سونيتات البحث عن الثيمة التي تصارع الذات أو خلجات النفس كل تلك الطقوس وغيرها من ظروف واحتمالات اللحظة الخاصة للكتابة مارسها بعض المبدعين من أجل مناوشة فكرة أو التحليق مع الكتابة باسلوب ربما غريبا أو مثيرا للبعض لكن بتلك الطقوس كان يخرج الهدف النفسي للكتابة وتتمثل فيها لغة الابتكار وليس التقليد فالكثير من الكتاب يعتبر الكتابة دواءا للضيق النفسي والبعض يمارسها لينزع حزنه من خلجات النفس ويبعثرها على الأوراق وكما قال ((تشيكوف)) ((لقد كتبت قصة، انكبيت عليها بالليل بعد النهار ،يتصبب عرقي مجهدا ، نفسي حتى يصاب ذهني بالركود ، مرفقي يؤلمني من الكتابة وراسي غائم ((معنى هذا أن بلورة الفكرة بالنسبة للمبدعين يحتاج إلى حالة خاصة من البحث والتركيز ومناوشة كافة الجوانب اللاصقة به وإذا كان احد المبدعين يخرج من النافذة للبحث عن فكرة وفي وقت محدد يوميا فهذا لا يعني إنه مجنون...وإنما هو يمارس طقوسه الخاصة قبل انبلاج الفكرة ...ونتيجة لذلك يتصف بعض المبدعين بالجنون الإبداعي...ولولا هذا الجنون لكانت أفكارهم سطحية!
ولكن هل ممارسة المبدعين بعض الطقوس كان من أجل الكتابة ومناوشة فكرة ما؟ أم لمعايشة الدافع الذي ينتحل وجوها عدة في خلجاتهم النفسية والذي يدفعهم إلى ممارسة جنون الإبداع؟
هذه الأطروحة تجعلنا نتذكر طقوس بعض المبدعين ونعيد تقاسيم الجنون معا نستقرئ الإبداع بدهشة ونعبر نحو الإبداع بخجل.!!
ونبدأ بالكاتب (مارك توين) الذي كان يحتاج إلى سرير قبل أن يعمل في الكتابة وكان يعتبر السرير كحالة خاصة تتمثل فيه الصور العقلية الشبيهة بالحلم من خلال تلك الصورة كان يكتب فالكاتب يعتبر السرير منبع الإبداع ...وتغيير المكان بالنسبة له سقوط الفكرة من رأسه ! والجنون الذي أمتلك (مارك توين) هو (السرير) الذي يتمثل فيه الحلم بالحقيقة لأنه يروي عطش (مارك) بصورة أو بخط رئيسي للبدء بالكتابة إذا الدافع هنا نفسي !
وبالنسبة للشاعر ((شيللر)) فإنه كان يمارس طقوسا غريبة قبل البدء بالكتابة ...ويلتصق إبداعه برائحة التفاح!
تلك الرائحة تستثير عقل الكاتب والغريب أن الشاعر يحتفظ بتفاحا متعفن بمكتبه لإقامة تلك العلاقة الحسية بينه وبين الإبداع !.
والكاتب (روسو) كان لا يفكر بالكتابة إلا عندما يكون عاري الرأس ويقف في ضوء الشمس الساطع! ويفضل الكتابة في الصباح فقط!! بتلك الطريقة الغريبة بالنسبة لنا كان ((روسو)) يلمس الإلهام ويصل نحو الثيمة التي يبحث عنها معنى هذا إن ((روسو)) كان من المبدعين الذين يحتاجون إلى ظروف خاصة ليتشبث برؤى الإلهام!
واغلب الأحيان كان المبدع يبحث عن ظروف حسية فمثلا الكاتب ((صمويل جونسون)) كان يبدأ بالبحث عن الفكرة من لحظة استدراج صوت القطط ورؤية قشر البرتقال وكوبا من الشاي لكي يكتب!
والشاعر الأسباني (رفائيل ألبيرتي)) كان يكتب من حالة حسية شعورية وهو ((الخوف)) وهذا الخوف كان من
السيارات ونتيجة لهذا الخوف تضمن ديوانه ((روما خطر على المشاة)) خوفا خاصا في كافة قصائده!
وأكثر عجبا إن الشاعر كتب قصيدة ((الحمامة)) في مكان مظلم أثناء وجوده في المنفى !
وبالنسبة للكاتب ((كانط)) فله موقف طريف للغاية مع إلهامه وإبداعه المنفرد حيث كان يكتب يوميا في نفس الوقت لا تتعدى الدقائق أو الثواني لذلك الوقت! وكان يحب الكتابة على سريره لكنه كان يحب أن يحدق في برجا أمامه ويقال عن هذا الكاتب إنه لم يستطع الكتابة عندما بدأت شجرة صغيرة في النمو وأصبحت تشكل حاجزا لأنه لم يستطع أن يحدق إلى البرج الذي أمامه وظل لا يكتب وطالب بقطع الشجرة ليمارس إبداعه وفعلا نفذ طلبه وتم قطع الشجرة!...
فتلك الممارسات لم تكن من أجل البحث عن فكرة فقط وإنما البعض كان يمارسها ليلتحم مع لحظة الإدراك الحسي للفكرة وبتلك الطريقة يصبح المبدع في حالة استقراء الفكري نحو المحور الرئيسي لمركزية الفكرة !
وهذا ما كان يمارسه الكاتب ((مارسيل بر وست)) يكتب في غرفة عازلة للصوت أو مبطنة بالفلين ليمنع عنها الصوت! ويغلق جميع النوافذ بإحكام ويملأ جو الغرفة بالمطهرات بتلك الطقوس نجد إن الكتابة لم يكن دافعا فقط وإنما يتمثل فيها حالة تركيز الذهن وحصره في نقطة واحدة سواء كان حسيا أو معنويا لان النقطة بالنسبة لهم دافع لتنشيط الذهن وإشباع الرغبة النفسية التي تؤول نحو الخروج من العالم الداخلي ((النفسي)) للكاتب نحو عالم أوسع وهذه الرغبة كانت تحتاج إلى خطا واحدا لا يتفرع منه خطوط أخرى الأخرى.بالتالي نجد أن ((روسيني)) كان يغطي نفسه بمجموعة من الأغطية والبطاطين بينما يؤلف موسيقاه!
هنا المؤلف الموسيقى يؤكد بان عملية الإلهام تتم بالتقاط الفكرة وتوجيهها بطقوس معينة فكما كان يعبر الكاتب ((هنري جيمس)) بأنه كان يبدأ إبداعه من نقطة غير مرئية وإنما يتذكرها وتكون تلك النقطة
((فكرة، عبارة، ...الخ)) ويراقب تلك النقطة من كافة الجوانب حتى يصل إلى حالة الرغبة بإخراجها من الرحم وقطع المشيمة الملتصقة به !
أما الكاتب الأرجنتيني ((بورخيس)) كان يعتقد أن الإلهام لا يأتي له إلا من الأحلام! لذلك كان يقوم بطقوسه التقليدية حيث يغطس في حوض الاستحمام وهو على ذلك الحال كان يحاول أن يتذكر حلما رآه في الليل
وكل همه أن يعرف خطوط الحلم ليكتب والغريب أن كل هذه الطقوس كان يفعلها لينجز بداية القصة ونهايتها وبالنسبة للوسط فكان لا يواجه صعوبة فيها!....ونندهش من طقوس الروائي الأسباني (ميغل دبليس) والذي كان دائم الشكوى من أبنائه والعجيب إن أبنائه كانوا يقاطعونه دائما أثناء الكتابة! ونتيجة لتلك المقاطعة قامت زوجته في البحث عن شقة بعيدة عن بيته ليمارس الكتابة وفعلا انتقل الكاتب للشقة الجديدة إلا إنه بعد فترة لم يستطع الكتابة لذا رجع إلى بيته ومن يومها لم ينزعج من ضجيجهم! وآلف أثناء الضجيج روايته الشهيرة ((القديسون الأبرياء!!))
إضافة إلى ذلك نجد إن الإبداع أيضا كان يحدد درجة الوصول نحو الإشباع للرغبة النفسية فمثلا كان الكاتب ((وجوزيه ساراماغو)) عندما يتلمس خطوات الإبداع فإنه يختار صفحتين من الكتاب الذي يكتب فيه والغريب إنه لم يضيف طوال حياته في الكتابة على صفحتين سطر واحدا؟!
أما طقوس الموسيقار ((بيتهوفن)) فهو اشد غرابة حيث كان يصب ماء باردا على رأسه معتقدا أن ذلك ينشط ذهنه بالإضافة إلى ذلك إنه أغلب الأحيان كان ينتظر خروج الدوق الكبير وحاشيته وعندما كانوا يخرجون في الطريق يقوم ((بيتهوفن)) بجذب قبعته بشدة وتثبيتها فوق رأسه ويتقدم بخطوات واسعة ليخترق جمعهم وكان لا يهتم بأي شئ و يجد من ذلك الاختراق البسيط تهيئة نفسه للتأليف!!.
والكاتب ((تشارلز ديكينز)) كان يمارس طقوس الانتقال قبل البدء بالكتابة حيث يحول سريره في اتجاه الشمال ، معتقدا بأن قوة ربات الإلهام موجودة قوتها في الشمال وهذا ما يساعده على الإبداع.!
والكاتب الدرامي ((تولستوي)) لم يكن يرغب بالجلوس في مكتبه إلا بعد أن يضع على مكتبه مجموعة من الأوراق ليبدأ الكتابة باسلوب منفرد!
وعملية الإبداع بالنسبة لهؤلاء المبدعين لم يكن بالشكل البسيط حيث بعضهم لم يكن يكتب حرفا إلا في اوقاتا معينة والبعض كان يمارس من خلال مناوشة الأشياء التي حوله والتحاور معها حتى يؤول نحو عمق الفكرة وهذا ما كان يقوم به ((بوشكين)) حيث يختار فصل الخريف فصلا للإبداع له لذا كان ينبلج فكره في هذا الفصل فقط وكأن هذا الفصل شخصا يأتيه ليناوش معه فكرة ما!!.
وبالنسبة للكاتب الدرامي ((تشيكوف)) فإنه بدأ يكتب في بداية كتاباته على حافة النافذة....وأما الشاعر ((لير منتوف)) فكان يكتب قصائده على أي شئ يقع في يده ....حتى لو لم يكن ورقا..!
وبالنسبة للروائي ((هو بكنز)) فارتبط إبداعه بمجئ الليل حيث كان يخرج في الليل من النافذة فقط ليلتقط فكرة
ويعتبر خروجه من النافذة ودخوله أيضا طقسا غير تقليديا فبل الكتابة ومع ممارسة تلك الطقوس أبدع الروائي في كتابة رواية ((سجين زندا!!.))
وأما الكاتب ((غابر يل غارسيا ماركيز)) كان يحلم بان يكون في الصباح في جزيرة مهجورة، وفي المساء كان يحتاج إلى مدينة كبرى ودائما كان يحتاج إلى أزهارا صفراء أمامه ليكتب!...وكان قبل أن يكتب يعيد
تفكيره في كل شئ بتصليح الأبواب وبدهنها باللون الأخضر ! معتقدا بأنه يزيل القلق الذي يصيبه قبل أن تأتي له الفكرة ! وبعض المبدعين كانوا يعتبرون المكان مثل الروح الحسي للابتكار ! ولكن هذا المكان كان يجب أن يكون متمثلا شروط الإدراك الحسي حتى يتم تكوين خاص بين المبدع والمكان ويلتحما معا وبتلك الطريقة كان المبدع يتحرر من الصور العقلية للفكرة ويلتصق بالصورة الحسية في خياله الخصب! وهنا اقصد الصورة التي يجعلها في مركزية الحدث وينثر عليها رؤى خاصة حتى يتفق مع الصورة العقلية !
وهذا ما كان يقوم به الكاتب ((لامينيه)) حيث يختار الأماكن التي بها ظلال قاتم لأنه كان يشعر بأن الغرفة التي بها ضوء قاتم يضيف في عقله صورا وأفكارا بتلقائية دون أن يتطرق نحو فكرة ما إلا وظهرت الفكرة في خياله الخصب بسهولة!.
أما الكاتب ((ماريوبارغاس بوسا)) فكان يتمتع بالدقة والتنظيم وقبل أن يكتب كان يمارس الطقوس الاعتيادية له من التنزه ، وقراءة الصحف، وكان ينتهي من كل هذه الممارسات قبل الساعة التاسعة ، لأنه بعد ذلك يعود نحو إلهامه الذي يناوش ذهنه ويكتب على منضدته ويشترط أثناء الكتابة أن يكون أمامه دمى أفراس نهر !!
وأما الكاتب الحكائي ((هانز كريستيان)) كان يتلمس روح الإبداع وسط الغابات!وكان يتصف بنظر ة عميقة ويتعمق في الأشياء الدقيقة كأنه كان يبحث عن الفكرة حتى داخل لحاء كما قيل عنه!
وفي الوطن العربي نجد أن الكاتب ((نجيب محفوظ)) كان يعتبر الكتابة كحياة أخرى له يشعره بالاستمرار وكما قال ((كنت اكتب لا على أمل أن الفت النظر إلى كتاباتي ذات يوم ، بل كنت اكتب وأنا معتقد إنني سأظل على هذا الحال دائما..))
وطقوس الكتابة وتعديلها له فلسفة خاصة عند الكاتب ((يوسف شاروني)) حيث كان يمارس طقوس النسخ والتعديل في قصصه كثيرا واغلب الأحيان كانت النسخة تمتد إلى ثلاثة وعشرين نسخة ولكنه لم يكن يتركها إلا وهي منشورة !
كما نجد إن الشاعر ((عدنان الصائغ)) له طقوس أخرى في الكتابة فالكتابة بالنسبة له مثل ملح الحياة يرتشف منه أنفاسه ليعيش يوما آخر: وكما يقول لقد أصبحت الكتابة بالنسبة لي طقساً يومياً، كثيراً ما أجد أناملي تحكني لأمسك القلم، أحركه بين أصابعي، أقضم أطرافه، أتلذذ به كما يتلذذ المدخن المدمن بفرك سيجارته بين أصابعه كأنه يتحسس معشوقته والشاعر عندما كان يرغب بالكتابة يجعل أمامه عبارة مشهورة للكاتب ((غابر يل غارسيا ماركيز)):  "في اليوم الذي لا أقرأ فيه ولا أكتب، لا أستحق وجبة الطعام"
وفي النهاية نستطيع أن نقول بأن المبدعين كانوا يمارسون طقوس معينة قبل البدء في الابتكار أو إيجاد مفردة الإبداع وهذه الطقوس ليس من أجل البحث عن التميز وإنما كان بسبب مناوشة ذهنه بطريقة غير تقليدية...ليرتشف من حالة الجنون الدافع الحقيقي للفكرة وأيضا لينزع حالة القلق التي تؤرقه قبل الكتابة ويبعثر الجنون على أي شئ ليس على الورق فقط!وبتلك الطقوس مارس المبدعين ربات الإلهام ومضغوا الفكرة واستأصلوها من العقل الباطني حتى وصلوا نحو استلهام المضمون وسكنوا في أوردة الجنون الإبداعي.


(*) مقالة نشرت في جريدة عمان (الصفحة الثقافية


(*) نشر في موقع "مدينة على هدب طفل" على الانترنيت 11/9/2003
 
البحث Google Custom Search