أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الفردة المدّخرة من نعال "أبو تحسين"

محمد العباس
كاتب من السعودية

ذات مقال عتيق، سمّاه سيف الرحبي "بلد الأنوات الكبرى" وكان يعبر عن اندهاشه من هذا العراق الذي يوّلد كائنات ثقافية متطرفة في هواها الابداعي رغم الحصار والنفي والتشريد والحرمان. ومنذ أول لحظات الاحتلال صار هذا العراق المحروث بهمجية الضربات الاستباقية مختبرا ثقافيا، وترمومترا لعافية الثقافة العربية، فالمثقف العراقي ناقما ومرتكسا وتائبا وتائها، يصلح لأن يكون أمثولة جديرة بالفرجة، بما هو ضحية من ضحايا النظام والمثقف العربي في آن.

المثقف الذي لم تطاله آلة التعقيم الأيدلوجي ولم يستدمج في حملة " التبعيث " ابتلعه " الجب " وغيابات " السندي بن شاهك ". ومن نجا من جحيم " البوابة الشرقية " ومحارق أمهات المعارك والحواسم تلقفته " المنافي " بكل أطيافها العربية والاسكندنافية والاسترالية. ومن ضاقت به الجبة ولم يتخيل نفسه في بورتريه الدرويش يرتدي اللحية الخمينية، اضطره الواقع أو الذرائعية وضيق ذات اليد لأن يكون قلما أو فحلا للإيجار.

ولكن " أيوب في لحظات التفسخ .. أيوب ينمو "  كما يؤمل مظفر النواب، فطارق حربي مثلا، رغم العذابات، كتب من وعن " جمهورية رفحا ". أما المتأخر " السوراقي " محمد مظلوم فأنشد مرثيته " أندلس لبغداد " من مدرجات جبل قاسيون. واستوى نجم والي بشبق المنفي، أو بمعنى أدق توسد " تل اللحم " غافيا على حلم بالعودة، ومن فرط حرقته كتب عبدالحميد الصايح " نحت الدم " فيما اعترض جان دمو على مؤاخاة الخراف داخل حياة استرالية تجريدية باردة بموت نبيل، مخلفا " أسماله " التي جمعت بين غلافين بما يشبه معجزة جمع القرآن، وحتى الآن لم يختلف على أي من نصوص مجموعته لأنها لا زالت مبتلة بالحنين وعرق حانات لا تخطئ عنوانه.

اذا سئمنا من أغاني التطبيل للقائد الرمز أدرنا معزوفة أو قيامة " العامرية " لنصير شمة. وإذا اشتقنا لمسرحية لا يرتدي فيها المهيب نياشين جلغامش وسركون الأكدي دخلنا مسرح جواد الأسدي. واذا اشتاقت عيوننا للوحة لا يحتلها بورتريه القائد طالعنا لوحة لضياء العزاوي. واذا تعبنا من صراخ عبدالرزاق عبدالواحد في " الأرض البهية " تمضمضنا بنص " آخر المدن المقدسة " لكمال سبتي. وإذا تقنا لدراسة لا تتفنن في استنساب القائد الى آل البيت تصفحنا كتابا نقديا فطنا لحاتم الصكر. وحين يغمرنا الإعلام بهراءات " زبيبة والملك " نجد سلوانا في " أوجاع ومسرات " فؤاد التكرلي، وكم منينا النفوس بمشاهدة أي فلم لعدي رشيد لنخرج من أسر سيرة المهيب وبطولاته المتوهمة.

لم ولن نصدق ما يشيعه صموئيل شمعون عن نفسه بأنه لا يعرف الا مناخبة الندماء، فهو يجيد " بانيبال ". وبشيء من الود والحماسة يمكن أن يطلعنا حميد العقابي على " نصوص عراقية ". وعندما نتعب يمكن أن نتفيأ " أقواس " أحمد عبدالحسين. وبالتأكيد سيسمح لنا جمال جمعة بالتسلل الى " النفزاوي ". وبشيء من الفضول نطالع " نسابا " علي مزهر. ونستمتع بالنكهة الخاصة لتيريز محمد عفيف الحسيني. وسنندهش من الروح التي استولدت " المسلة " باصرار علي عبدالأمير، والعزم الاستثنائي الذي علق " الواح " محسن الرملي.

هذا هو ديدن أرض جمالها سومري ونظرات عينها بابلية، كما يصف محبوبته فاضل عواد، أرض الأنوات الكبرى المشردة في المنافي، أولئك الذين كان يضمهم " حسن عجمي " ليتبعثروا في أصقاع الدنيا. أجل ، أولئك الصعاليك الذين صنّفهم النظام البائد - ذات عجرفة - الى ثلاث فئات ملعونة ومغضوب عليها، ومخلفين في الأرض، فسخروا منه بوابل من الروايات والشعر والترجمات والمناقدات والمسرحيات والأغاني المدوخة، ويكفي أنه حاول بكل الطرق أن يصادر صوت عدنان الصائغ ويرميه بكل تهم العهر البوليسي لكن نشيد " نشيد أوروك " تخطى الحدود كأمضى وأطول وجع شعري عربي.

صحيح أنهم يتشاتمون ويتلاعنون يوميا. وعبر مختلف المنابر يتبادلون تهم التعهير والتأثيم والعمالة، ولكن أظن أن شيئا من هذا ينم عن نزق عراقي أصيل، يصعب اختصاره في حمزة الحسن مثلا، فيما يحيل نصفه الآخر الى حيوية قل نظيرها عربيا، فمن حق خالد المعالي أن ينازع عبدالقادر الجنابي على " الرغبة الاباحية " و " فراديس " وأن يرى العالم اليوم بـ " عيون " جديدة، ولفاضل العزاوي حق التباهي بمرحلة الستينيات الذهبية، وتمجيد جماعة كركوك كمنعطف جمالي. ولشاكر لعيبي حق تصنيف الشعراء وتحقيب المراحل بمرئياته. ولفاطمة المحسن الحق في تمحيص تاريخ وهوية عبدالستار ناصر. لهم حق نبش الأرض بحثا عن " شاعر وشاعرة أم المعارك " رعد بندر، وساجدة الموسوي، وحتى اعادة موضعة نعيم قطان وشمعون بلاص. ومن حق فاضل السوداني أن يحاكم الوعي البائس للمثقف المتكيف، ومن حق علاء اللامي وكل الشرفاء العراقيين أن يشيروا الى " المارينز الثقافي " الذي بات يحتل واجهة المشهد العراقي، وبالتأكيد لسمير عبيد الحق في فضح الشركات العابرة للقارات والثقافات والضمائر والنفوس.

ومن حق " الذات الجريحة " كما رسم معالمها سليم مطر أن تسخر - عربيا -  من جثة أدونيس المنوبلة المرمية كاعتذار متأخر للانسان العراقي، ومن حقها أن تحتج على محاولات " تفريس " العراق. ومن حق الشرفاء من العراقيين أن يلعنوا كل الذين " تمربدوا " على نفقة الشعب العراقي. ولن يلومهم أحد إذا استخرجوا جثمان نزار قباني وأشبعوه لطما، هذا الذي شم وشتم رائحة النفط، وما اهتدى بشاعريته الى رائحة المقابر الجماعية، ولا لما حاولت أن تنكره عيونه من ضحايا غازات " الأنفال " لينشد في القائد الملهم أكذوبته الرومانسية الرخيصة " هو من قطر اللون الأخضر في عيني " . وعليه من حقهم أيضا أن يعاتبوا ابن جلدتهم كاظم الساهر لأنه لم يجد من فصيح الحزن العراقي ما يستحق الغناء انحيازا الى نزار المتواطئ مع الجلاد.

هنالك من يصنع التاريخ وثمة من لا يملك الا حق كتابته . صدام اختار الأول، واكتفى المرتزقة من المثقفين العرب بالخيار الثاني، أي تدوين بطولاته الزائفة، ومن حق الشرفاء من العراقيين اليوم أن يمدوا حبل غسيل من المحيط الى الخليج لنشر الغسيل القذر لطابور طويل من المأجورين. من حقهم أن ينشروا حبل الغسيل هذا قبالة شاهد قبر كبير ينام فيه هادي العلوي، و رشدي العامل ومهدي المخزومي، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ومحمود جنداري، ومصطفى جمال الدين، ومحمود البريكان وغيرهم ممن توسدوا تراب الغربة أو الوطن السجن.


أجل، فمن حقهم أن ينشروا " كلاسين " جمال الغيطاني التي اشتراها بمال " المعيديات " البائسات والذي لولاه وأمثاله لما ضاعت حياة الكثيرين من " حراس البوابة الشرقية ". ولن يلومهم أحد اذا نشروا الملابس الداخلية لشاعرة " قادسية صدام " سعاد الصباح، فهذا الحبل الممتد كأنشوطة لا زالت في بدايتها يتسع حتى لمشدات رغدة، وكرافات أمير اسكندر،  ومناديل فؤاد مطر.

العراقيون اليوم قبائل، فهم باختلاف انتماءاتهم وأعراقهم يريدون الفرار بعراقهم من الجغرافيا والتاريخ والأيدلوجيا والقومية. معهم حق. فما الذي تعنيه تلك المتوالية من العناوين المعطلة المضللة، حتى خارطتهم باتت شائهة وتشبه الى حد كبير جسد عباس علي، وصوتهم ليس أبلغ من حامد هاشم الذي يعيش بنصف لسان أو ربما أقل. أجل فحتى أولئك الضالعين في الهم السياسي لم يعد أمامهم الا النيكروفيلية، أي اختيار شكل موتتهم، طعنا كعبدالمجيد الخوئي، تفجيرا كمحمد باقر الحكيم، أو بعناق قذيفة كالتي اختارت عقيلة الهاشمي.

أما المرأة العراقية فلا خيار لها الا أن تكون أرملة، أو زوجة منفي توزع النذور ، أو زائرة لسجين تحمل اليه " خبز العباس "، وفي أحسن الأحوال مطببة لمعاق من أثار كروز وتوماهوك.

إذا، أخيرا سقط القمع. ليس بداء القلب كما تمنى مظفر النواب، ولكن بوحشية " الصدمة والترويع " كما صممها أولمان، ويفترض أن يعود المنفيون الى أوطانهم. ووفقا للوعد الذي قطعه المنفيون يمكن بل ينبغي أن يصافح علي السوداني نصفه في الداخل محمد خضير، ويفترض أن يكون لكلابه الضالة القدرة والكياسة على التجول في مثلث الموت، وعبور مصائد القاعدة، والصبر على تصفح سبعين جريدة بمختلف النكهات الذرائعية والتعقيمية والتلفيقية.

ولكن سعدي يوسف الذي رتل طقوس وداع ابنه بالتاغالوغ، يتحدث اليوم عن جنة المنفى، وضآلة جاذبية الوطن، فالعودة قد لا تكون جنة موعودة كما يواعد بها الانسان نفسه، وهذه جريرة لا تتناسب بحال أمام عودة العمائم واللحى فالرهان على خطفة اللقطة فعل يتنافى مع وساعات التاريخ وغائيته، وهذا ما يعرفه سعدي يوسف جيدا الذي مكث طويلا في وقفته قبالة الوطن من زاويته اليسرى.

أيترك الوطن إذا لمقتدى الصدر، أو يظن أربعمائة مثقف أنهم بتلك العريضة الممهورة بامضاءات خجولة سيرهبونه؟ أم يترك العراق لعجائز مجلس الحكم المحلى ( بالألف المقصورة) يمارس فيه تمرينات الصباح تحت إمرة اليانكي؟ يصعب تصور هذا في بلد الأنوات الكبرى فالاحتلال الذي يسطو على زمن وأنفاس العراقي، يلوث حتى العبارات الهاربة من الأفواه. وأظن أن ثمة فردة مدّخرة من نعاله لم يستخدمها " أبو تحسين " ستسجلها كاميرا الفضائيات تهوي على صورة أو وجه أحدهم.


موقع "كيكا" 11/2003
 
البحث Google Custom Search