أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
إنهاء ثقافة العنف.. أم إعادة إنتاجها؟

ابراهيم أحمد

أهم ما ينبغي ان يتحلى به ناقد يريد ان يحلل ظاهرة العنف في ثقافتنا، هو ألا يكون عنيفا، بل مفعما بروح السلام والخير متسما بالهدوء والرصانة والموضوعية، مبرَّأً من النوايا الخاصة ونزعة الكراهية والقسوة، بل على قدر من عاطفة الحب والتفهم للناس حين يجدون انفسهم مرغمين محاصرين بظرف صعب، مدركا طبيعة العصر، والمنطقة، وتقلبات التاريخ التي داهمتهم، وفي الوقت الذي يدين الظلم الذي وقع عليهم، ويتفهم الضغوط والصعاب التي تفرض عليهم الضلال والانحراف، يقدم هو بأحكامه ومعالجته صورة للعدالة الغائبة او المنتهكة. في مجال النقد الأدبي والتقييم الفني طبعا هناك قواعد دقيقة محكمة لا تشفع فيها العواطف والميول، ولا تتحمل التسامح إلا بقدر ضئيل جدا، لكنها تقتضي أعلى درجة من التجرد والدقة والموضوعية، وأن ينطلق الكاتب من نية الانتقام والقصاص او تصفية حسابات موهومة معتقدا انه جهة القضاء المخولة بالحكم، غير ان ينطلق من الحدب، والشعور بالمسؤولية على مصائر الناس ومظاهر الإبداع وضروراته، ومع هذا يظل التسامح كمفهوم حضاري في العلاقات بين المبدعين أنفسهم وبينهم وبين المتلقين والمجتمع عموما ضرورة حضارية لا يجوز الاستهتار بها! حيث ان مسار الثقافة والحضارة العراقية الذي يمتد لسبعة آلاف عام كثيرا ما عبر على أخاديد وخنادق كانت في يوم ما مجار للدماء والأحزان! وسيظل يخب بين الأعاصير والحرائق باتجاه حياة جديدة تليق ببداياته الرائدة، وقد يصل اليها او يطول طريقه، لكن حمل نبل الهدف أمر رائع ويستحق العناء!
لكن الكاتب يمارس ظلما بينا حين يخلط بين هؤلاء المدانين في الداخل والخارج وبين أسماء مثل: حسب الشيخ جعفر ومحمد خضير وياسين النصير ومحمود جنداري وعدنان الصائغ وفاضل ثامر وحميد المختار ومحمود عبد الوهاب وعبد الخالق الركابي وآخرين، ويضل طريقه حين يواصل الحديث عن مسألة الحرب، وضرورة إشهار الخلاف مع السلطة. هنا تغدو أحكامه غير معقولة وغير ممكنة حتى ولو على أبسط المسائل، خاصة بالنسبة لكتاب تناولوا الحرب الاولى او الثانية، في قصائدهم وقصصهم مضطرين ثم لم يلبثوا ان نفضوا أيديهم منها، وغادروها للمنافي حيث يقول <<إن الذات لا السلطة هي المسؤولة عن كتابة النص وهي المسؤولة عن إنشائه وولادته وإطلاقه الى النور>>. وقد يكون هذا صحيحا بعض الشيء في كل مكان إلا في العراق، لذا فهو يطالبهم ما داموا قد اصبحوا بإراداتهم أدباء ان يكتبوا قصائد وقصص وروايات لا تدين الحرب وحسب، بل تشير الى مشعلها وتلعنه. ولا ندري هل سيضمن سلام عبود نشر نتاجهم الشعري والقصصي النضالي هذا في جريدة القادسية، والجمهورية، أم تلفزيون الشباب او سيدفع للسلطة نيابة عن أهاليهم أثمان الرصاصات التي سيعدمون بها!
هل هي سذاجة من سلام عبود؟ ام قسوة متأصلة في الطرح؟ ام عجز في التحليل والنقد. وإذا كان الامر كذلك فما الذي دعاه ليخوض غمار تجربة لا يستطيعها؟ من الغريب انه حين تناول قصة للكاتب فاتح عبد السلام وفيها إدانة صريحة للحرب علق قائلا: هذا غير صحيح: كيف يستطيع كاتب ان يكتب ضد الحرب؟
مما يجعل القارئ حائرا معه، ماذا يريد؟
لا يكلف الكاتب نفسه إزالة تناقضه داخل كتابه حين يعود ويعترف ب<<أن من الجنون مطالبة كاتب عراقي يعيش في الداخل بالكتابة عن اجواء الحرب>>، لكنه يعود ويخفف مطالبه فيدعوهم للكتابة عن ظلالها! وكأن مثقفي وكتبة النظام سذّج ايضا لتمر عليهم تلميحات هؤلاء الكتاب المغامرين وظلالهم التي ستكون خفيفة وفق وصفته الغامضة المستحيلة، ومع ذلك حين ترد في نصوص الشعراء والكتاب بوعي او من دون وعي، بقصد او من دون قصد تلك الظلال، بل حتى بعض الاضواء المناوئة للحرب والديكتاتورية والقمع معها يعود عبود لينكرها عليهم ويمسخها ويحرفها الى المعنى الذي يريده، وهو ان هؤلاء كانوا جبناء خائفين لم يشتموا صدام وحروبه! لا يسعك سوى التساؤل: أهو غباء ام تغابٍ، مطالبة الكاتب او الشاعر لقول نص كل كلمة فيه لن تعني في قاموس السلطة سوى المقصلة والرصاص مدفوع الثمن من أحباب القتيل؟ ألم يدرك انه بشهادته المتحاملة على الكتاب العزل هذه يلتقي مع رأي السلطة من ان جميع الشعراء والكتاب كانوا معها قلبا وقالبا ولم تصدر منهم نأمة مخالفة او إدانة؟ بينما السليقة والفطرة الفنية تتمردان احيانا على المبدع نفسه، وتعطيان الكثير من ومضات الإبداع الصادقة، وهذا ما قد يكون موضع بحث جاد لدى النقاد الأذكياء في المستقبل ان كل ذي بصيرة يستطيع ان يرى مأزق المبدعين العراقيين في ظل سلطة ارهابية متورطة في حرب تكاد تبتلعها حيث لا يكون امام الشعراء الذين لم يختاروا المنفى، او لم يجدوا إليه سبيلا، سوى احد خيارين احلاهما مر كما يقال: إما الصمت (وحتى هذا صار صعبا في ظل الملاحقات، وقرع الابواب، والمطالبات بأداء ما اعتبر واجباً وطنياً) او الكتابة حسب أوامر ومقاسات السلطة، وهنا لا تستطيع ان تطالب الشاعر او الكاتب سوى ان يلوذ بأداته الابداعية، حيث كلما أتقن المبدع فنه استطاع أن يزوغ عن أعين السلطة ويمتثل قدر المستطاع لصوته الداخلي ونبض ضميره الإنساني، متقنا صنعته الفنية كدرع اخيرة، وبدلا من ان يبحث عبود في نتاج الكتاب والشعراء عن هكذا ومضات ابداعية صادقة (وليست اعمالا متكاملة بالطبع) فقد راح بهوس غريب يسفّه كل شيء ويرد حتى ما يراه هو بنفسه لمحة جميلة لدى المبدعين العراقيين المحاصرين ليلحقها بما اسماه نهج الخراب الجميل، الذي سيطر على الكتاب كلازمة موسيقية نشاز، وقد استعار عبود مصطلح الخراب الجميل من عنوان رواية لاحمد خلف من الواضح انه لم يقرأها معتقدا انها تدور حول الحرب بينما هي تدور حول خراب علاقة شخصية، وهي مكتوبة قبل الحرب (صدرت عام 1981). وهذا يُرينا الخفة التي يتناول فيها عبود معلوماته ومصطلحاته!
تأويل خاص
ولكن لنر ماذا فعل سلام عبود بمن حاول ان يتسلح ببراعته الفنية ليروغ عما تريده السلطة من الشعراء في تمجيد الحرب، والدعاية لها:
فعندما يقول الشاعر عدنان الصائغ: <<وما تبقّى من فواتير الحروب/ غداً تسددها جراحات الشعوب>> او <<اصبعا اصبعا ستقطع كف طفولتنا الحرب>>، او <<سوف نبكي على حلم ضيعوه فضعنا>> يعلق سلام عبود: ان الصائغ يبكي على مناصبه التي ضيعها، وبينما لم تكن لعدنان مناصب او رتب، او مدفع عملاق، سوى ما منحه سلام عبود من جيش الوهم، وان الصائغ يعبر عن فجيعة عامة، فإنه لا يريد ان يتلمس جراحه، وكأنه صدم ان هذا الشاعر وكثيرين غيره ظلوا نظافا لطافا قدر استطاعتهم في اجواء تنضح قذارة، فإنه يصر على تلطيخه، وحين يتناول كتابه الذي يضم قصيدته الطويلة <<نشيد اوروك>> التي كتبها داخل العراق يصر على القول وكأنه كان يرافقه في الحروب وهو يتنقل حاملا اوراقها المبعثرة متنقلا من اسطبل مهجور الى معسكر تحت القصف <<بتقديري الشخصي ان نشيد اوروك هو من نتاج الخارج وليس الداخل>>. انه مصر على جعل المبدع في الداخل عقيما خانعا حتى لو تمرد وحقق خصوبته بشكل سري يقارب الصمت، ثم ينقض على قصائده المستجيرة بالمستوى الفني، لينقذ موقف رقيب الداخل الذي لم يفته شيء فيروح يعتصر القصائد، يبعثر كلماتها، ويعيد ترتيبها ليحاول عبثا ان يثبت ان هذا المقطع او ذاك <<مخصص لارضاء شهوة صناع الحرب>> حتى ليحس القارئ بقشعريرة غضب وتقزز وهو يتصور عبود يُدخل القصائد والقصص غرف تعذيب، يجلدها ويطفئ في عيونها السجائر ليستنطقها، ويجبرها على الاعتراف بأن من يقف وراءها شاعر خائن للشعب، مخلص للسلطة، والمؤسف ان هذا ديدنه في كل الكتاب، فكل مبدعي الداخل هادنوا السلطة، لم يخلصوا للشعارات التي ما يزال سلام عبود مؤمنا بها، وقادراً على قصف الوطن بها من منفاه، وهذا ما قالته السلطة قبله، وافحمها كثيرون، لكن عبود ينتهي واقفا مع السلطة من دون ان يعلم، ولا يريد ان يعلم!
وحين يتناول عبود قصص عبد الستار ناصر التي كتبها للحرب ويقول انها كانت رديئة وسيئة وضارة، فلا يجافي الموضوعية برغم قسوة الجو العام ووحشيته، لكنه يغفل ان عبد الستار كتب قصة جميلة اسمها <<سيدنا الخليفة>> وسجنه النظام من اجلها اكثر من سنة بزنزانة انفرادية وكاد يموت بينما زملاؤه في الداخل لا يستطيعون ان يفعلوا له شيئا، لولا حملة تضامن من مثقفين عرب في الخارج، خاصة بيروت التي نشط فيها ادونيس في حينه، والموضوعية تقتضي حين يتهمه هناك بالخيانة، ألا يمر مدلسا على موقف شجاع لستار، وهو الذي ادّعى انه قلب كل صغيرة وكبيرة من اجل تأليف كتابه!
المصيبة ان سلام عبود لا يريد ان يرى ولو حتى بقعة واحدة ناصعة لدى اي من كتاب الداخل او الخارج، بل انه كثيرا ما يفضل على هؤلاء كتاب السلطة فيقول (ص 41) <<إن إحدى اغرب مفارقات أدب الحرب في العراق تكمن في ان رصد ظاهرة تقدم الموت مع تعاظم حجم الخراب لم تكن من اكتشاف اعداء الحرب، على العكس كان ذلك واحدة من <<انتباهات>> بعض كتاب السلطة>>. بل انه يمضي في موضع آخر ليفضل رجال السلطة وجرأتهم على المثقفين المضطهدين، وفي مواضع اخرى يساوي بين المثقف ورجل السلطة، مما لا يجعل من الممكن مجاراته في ضغينته وتحامله على شعراء وكتاب هم مهما اختلفنا معهم لا ينبغي محاكمتهم او محاورتهم بمعزل عن ظروفهم القاسية القاهرة، متوخين الموضوعية والعدالة والابتعاد عن الضغائن والاحقاد!
يتناول سلام عبود نتاج الكاتبين جاسم الرصيف وفيصل عبد الحسن، اللذين لا مناص امامهما سوى الصمت والتواري ووأد موهبتيهما، او الامتثال لأوامر السلطة في جو عام ينضح دماً وصرخات تدعو للحرب. وبدلا من ان يلعن عبود سلطة غاشمة دمرت كل شيء بما فيها مواهب المبدعين شبابا وكهولا، من دون ان يغفل مسؤولية الكاتب في التواطؤ والخنوع، مدركا حدود قدرته على الرفض والمقاومة، يصب شتائمه ولعناته عليهما مردداً نغمته الرتيبة من انهما لم يسفّها الحرب ولم يشيرا لمشعلها، وكأن جاسم الرصيف وفيصل عبد الحسن عضوان دائمان في مجلس الأمن ويقيمان في ناطحات سحاب نيويورك، وليسا كاتبين فقيرين بزغا لتوهما في عراق الرعب والقمع! يمكنك ان ترفض نتاجهما او تدينه، ولكنك لا تستطيع مطالبتهما بما هو فوق طاقة البشر!
لا احد يطلب من عبود عدم ادانة كتّاب طبّلوا وزمروا لصدام وحروبه وقمعه، او عدم رفض تلك الاكوام من الكتب والمنجزات الفنية التي عملت على غرس الديكتاتور في عيون الناس وأرواحهم أينما حلوا او ارتحلوا، ولكن مطالبته لكتاب الداخل ينبغي ان تكون معقولة او ممكنة، ولا بد لمحاسبته لهم من ان تكون عادلة ودقيقة ولا تحرق الاخضر واليابس وتزج بمن بقي نظيفا في قذارات السلطة او تنصب الفخاخ للايقاع بهم!
بعد جولته على زملائه في الضربات القاضية يعود ليتساءل: اذا كان صدام مسؤولا عن الحرب فمن المسؤول عن ثقافة الحرب، وثقافة الحرب السائدة؟ واذا كان كتابه في ثقافة العنف لم يستطع ان يجيب عن هكذا سؤال، ترى اين سنجده؟ في كتاب للطبخ مثلا؟ ماذا سيكون رده إذا عرف أن صدام لم يكن مسؤولا عن الحرب أيضا، والمسؤول عنها هو المسكين حميد المختار الذي قال عنه سلام عبود <<كان حميد المختار يصرخ بملء الفم ضد الحرب، ولكن ليس ضد حرب النظام>>، كان على حميد المختار أن يصرخ داخل قصصه مثل شكسبير <<إنه الملك لير>>. حقا لماذا لم تفعلها يا حميد المختار؟
وحين ينتقل للحديث عن ثقافة المنفى يستهلها بحوارات ومناظرات لأدباء ومثقفين حاولوا تقييم التجربة بما لها وعليها. وبعد ان يسفّهها ويسخر منها يشن هجوما ضاريا على كتّاب ونواد وأحزاب وجمعيات في السويد والمنافي الأخرى (من المفارقات أنه يتهيب ذكر أسماء النوادي والجمعيات بينما يريد من كتّاب الداخل ان يلعنوا حروب صدام)، ويروح يُنزل عليها اتهاماته ولعناته، ويصمها بالفشل والكذب والتزوير واللصوصية والخيانة والتخلف وخديعة الذات والآخرين. وقائمة أسماء الشعراء والكتاب المدرجين بقائمة عبود السوداء تطول وتطول، ولا جدوى من ذكرها، فالكتاب والشعراء في الخارج كلهم او جلّهم هم ليسوا أقل سوءا من كتاب وشعراء الداخل، والرقابة الداخلية على الذات لدى المبدع المنفيّ أكثر فسادا من رقيب السلطة.
إعدام المنفى
انه يعيب على الحزب الشيوعي تحجره الأيديولوجي ومحاسبة الكتاب وفق مفاهيم أيديولوجية ضيقة، لكنه يمضي لاهثا على مدى 300 صفحة محاكما المبدعين والفنانين بمفاهيم جدانوفية وأيديولوجية ضيقة تذكّر بقيم ستالين الرهيبة التي تحاول عبثا ان تأخذ شرعيتها من بشاعة قيم هتلر!
ولا يرى في أي نشاط مهما أجمع المثقفون على فائدته إلا أنه سيئ وخطير. فإصدار مجلة الثقافة الجديدة <<إبحار في الرمل>> الذي يضم قصائد لخمسة عشر شاعرا من معسكرات اللجوء بعد انتفاضة آذار (يسميهم <<شعراء من مخيمات السعودية>>)، ثم يعقب على هذا النشاط الثقافي: <<هذا التسابق رغم مظهره الثقافي هو جزء من تقاليد سياسية لا تجيد سوى صيد الفطائس>> (ص 69).
يسمي شعراء لاذوا بالمنفى بعد ثورتهم بالفطائس؟ فأية كلمات وأحكام تعيسة استعملها مع آخرين من الرجال والنساء والكهول؟
ثمة ملاحظة تبدو صغيرة وعابرة لكنها لا تخلو من دلالة، فسلام عبود يُسبق اسم كاتب او شاعر في الداخل او قادم لتوه للخارج بكلمة <<زميل>> او <<أستاذ>> او <<السيد>>، بينما يورد أسماء كتاب المنفى بسخرية أحيانا كما أورد اسم نجم والي من أنه <<نجم>>، وهناك نجمان، ويقصد نجمان ياسين!
ويسمي القصة القصيرة جدا، هذا النمط الابداعي المقدر عالميا، بالطقطوقة، فقط ليستهين بنتاج كاتب في المنفى عُرف بهذا النمط من الكتابة! جاهلا ان الطقطوقة هي من الغناء العربي الجميل!
وبعد ان يطلق سلام عبود أحكامه العدمية على كل ما أُنتج في المنفى من قصص وشعر، ويحيله رمادا، يسأل: ولكن أليس هناك إبداع راق؟ هنا يلجأ عبود لحيلة مضحكة فيقتبس فقرة ينسبها لفاطمة المحسن يرد فيها اسمه وروايته <<الإله الأعور>>، على أنه نتاج متميز. وهكذا بعد ان يتحطم كل شيء يبقى <<الإله الأعور>> صارخا بين الحطام!
لا شك في ان هناك إخفاقات وجوانب فشل كثيرة ونكوص في المنفى العراقي الطويل الصعب الذي لم يجد إسنادا من أحد، بل على العكس جوبه بضغوط وصراعات وتحديات قاسية (حتى اليوم تلاحقه مسدسات كاتمة الصوت)، بل هناك عيوب ومثالب كثيرة من الضروري تشخيصها بدقة وموضوعية وتحليل أسبابها وعواملها ومحاولة فتح أفق معالجتها، لكن عبود بدلا من أن يأخذ قسطه في هذه المسؤولية الخطيرة، راح يعيد إنتاج عنف قديم ومتراكم موهما بأنه سيزيل به العنف الماثل في ثقافتنا وحياتنا على الضفتين!
فهو لا يتورع عن التلاعب بالحقائق فقط، لكي يخلق انطباعا يريد من خلاله تشويه سمعة زميل له، فهو يذكر ودونما مناسبة في السياق ان وزارة الثقافة والاعلام العراقية قد أصدرت المجموعة القصصية <<زهور في يد المومياء>> لإبراهيم أحمد، أواخر عام 1979، <<في الوقت الذي كان فيه الشيوعيون يقفون رسميا خارج التحالف مع البعث. وقد أوضح القاص ابراهيم أحمد هذا الامر غير مرة معللا إياه بأن الرقابة حذفت بعض نصوص المجموعة وكلماتها، ولكن ذلك لا يغير ان صدور المجموعة من قبل وزارة الثقافة جاء في وقت كان الحزب الشيوعي قد تحول ولو لفظيا من خلال عدد من البيانات باتجاه المعارضة>> (ص 240). بينما الحقيقة، ويعرفها سلام عبود، هي ان الكتاب كان قد قدم للوزارة قبل سنتين من صدوره وظلت تماطل في إصداره، ولم تصدره إلا بعد خروج الكاتب من العراق متسللا (حيث كان ممنوعا من السفر) الى المنفى، لكي تحقق الانطباع الذي راح سلام عبود يروج له الآن عن وعي او من دون وعي! ماذا يريد هذا النمط من البحث في ثقافة العنف غير إنتاج عنف آخر يريد من خلاله تشويه سمعة كاتب معارض، بادعاء أنه كان متواطئا مع السلطة ضد حزبه آنذاك؟ أي ضمير هذا الذي يتحمل إطلاق هكذا أحكام ثقيلة على زملاء له يتحملون آلام المنافي لربع قرن فقط لكي لا يهادنوا سلطة جائرة! يا لسذاجة الناقد. لو أراد إبراهيم أحمد، او غيره من الكتاب المعارضين الذين اختاروا المنفى، مساومة السلطة العراقية آنذاك، لحصل على أكثر من مجرد إصدار مجموعة قصصية، والناقد المكتشف هذا يعرف كم حصّل كتّاب هزيلون من السحت الحرام، لقاء قبض السلطة على أرواحهم!
لعل أهم ما يطلب من ناقد او دارس عن المراحل التاريخية المترعة بالدم والدموع والصخب، وأكداس الادعاءات، هو ان يكون شاهد عدل، لا شاهد زور!
ماذا فعل بحريته
حين يتساءل، ص 298:
ماذا فعل حسين كامل بحريته المؤقتة؟ حملها في حقيبة سفر وسلمها الى قاتله!
...إلخ.
ماذا فعل فيصل عبد الحسن بحريته؟
ليس دائما يستطيع الكاتب الافادة من مخزون التجربة الواقعي بشكل صحيح (...إلخ.).
ماذا فعل جاسم الرصيف بحريته؟ أعاد طبع روايته <<خط أحمر>> التي هي نموذج جدي لسلسلة الأخطاء والخطايا التي ارتكبها في الداخل! (...الخ.).
ماذا فعل عدنان الصائغ بحريته؟ اكتشف أن عبد الكريم قاسم <<قتلته الجماهير وسُحل حتى نهر دجلة>> (...الخ.).
ماذا فعل المثقفون اليساريون بحريتهم؟
نصبوا الكمائن لرفاقهم في عدن وموسكو وصوفيا (...الخ.)
بهذا النموذج من الخطاب الرهيب، يمضي سلام عبود واضعا الجلاد القذر حسين كامل مع مبدعين، مهما اختلف المرء معهم فإن خلافه لا ينبغي ان يتجاوز الأطر الثقافية والابداعية، لكن عبود يضعهم مع مجرمي السلطة في قفص اتهام واحد. (وبالطبع يستطيع هو او غيره احالتهم للمحاكم إذا كانت لديه أدلة عن أنهم قد ارتكبوا جرائم عادية).
ثم يعود عبود بعد <<هذه الصولة الجهادية>> خافت الصوت، متمسكنا ليصف كتابه <<إنه مجرد منلوج حزين>>. إن تمرير هكذا خطاب وإشاعته، ليسا فقط إشاعة لثقافة العنف، بل تأسيس لها من جديد على أسس مغايرة أكثر خطورة!


(*) صحيفة "السفير" 18/4/2003 ص السفير الثقافي
 
البحث Google Custom Search