أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تسكع الشعراء في أروقة الذكريات.. دليل خواء الحاضر؟

مرحلة الشباب لا تقلقها الذكريات كثيراً لكنها مفزعة حين يبلغ المرء مرحلة الشيخوخة

د. جلال الخياط

تقلقنا الذكريات وتملؤنا كآبة واندحارا وتزداد وطأتها ان تضمنت احداثا سعيدة، هذه الذكريات من مصادر عذاب الانسان بعد انتهاء شبابه، ترافقه في سنواته الاخيرة بموكب تشييع حاشد، انها زمنه الخاص ومقتله الدائم.
حين تكون الذكريات، بأحداثها المنصرمة وخوائها الحاضر، اكبر من الانسان، يحاول الفكاك منها فتتصدى له وترغمه على ان يكون لها طوعا. وحين يصدعه مكان صاخب، بحركة يومية عابثة مستمرة لا هوادة فيها، يلجأ الى الماضي، وليس فيه سوى الذكريات، فيستجير بنار بعيدة لا دفء فيها.
استعادة الذكريات من نتائج ثبوت المكان وتكلس الرؤية، وضمور الزمن بمروره وتلاشيه، وغياب الافراد الذين يصنعون مع الانسان احداث حياته، وتراكم خيباته، وهيمنة الاغتراب على وعيه ولا وعيه المبدع.
الذكريات مثار أسئلة مدمرة عن الزمن والموت وعلاقتهما بانسان عزاؤه الوحيد ان اروع ما في الموت، ان كان فيه شيء رائع، ان الميت لا يعرف انه قد مات.
تكاد الذكريات، حين تهيمن على فكر الانسان، والانسان الشاعر، تلغي الحاضر، أي تدمر التاريخ والثقافة والحضارة والتطور والنماء بالانحسار الى زاوية محددة من الزمن، فيكف المبدع عن التجريب والاكتشاف ولا يبقى للابداع معنى ان لم يتمرد الشاعر على ما يعيقه بأن يولّد استمرارية لا تجعل ماضيه ينقطع عن حاضره، ولكن هل نستطيع ان نلغي حقبة شباب متوهج في انتاجه وانجازه بتعثر مشيب جامد خائب في ايقاف عجلة الزمن؟
الحاضر استمرار للماضي المتحد به ليكونا موئل المستقبل المتلاشي في البعدين، فهل للانسان ان يهجر ذكريات احبها او تنصل منها، اعتز بها او ندم عليها؟ هل يريد ان يقطع صلة الماضي بالحاضر خوفا من سطوته وامتداده، او ان تلك الذكريات، ضمرت وزاحمت تولد ضروب جديدة منها تتشابك فيذوي جزء ويزدهر آخر؟ ان هذا المنحى من التفكير يقود الى عزلة فرد لا معنى لوجوده ان قررنا تلازما عمدا ينفرط بانتهاء مسوغ يجعل الحياة سلسلة متعاقبة من ذكريات مهجورة. استطاع أمل دنقل ان يتخلص من الجانب المعتم فجسد الذكرى في امرأة تستعيد نضارة الالوان:
في كل ليل../تخلع الذكرى ملابسها المغبرة القديمة/ تستحم برشرشات الضوء/ تغسل فيه وعثاء الطريق/ وتسترد نضارة الالوان.. والمرح القديم/ نديانة .. كالظل تخلع خفها المبلول/ تستلقي جواري في الظلام تضئ بشرتها/ برائحة التوغل في الحقول.
ليس لنا ان نلغي الماضي، والاختيار والتصميم يبقيانه، لا ان يجور على الحاضر ويشل ابداعه، ونصيب من احد مقتلا اذا اوهمناه ان لا جديد تحت الشمس وان ليس بالامكان احسن مما كان.
ولا يمل الشعراء من التسكع في اروقة الذكريات، رائحين غادين، فاجعين او مفجوعين. أليست هذه الذكريات الحية في اللاشعور او المعادة في الخيال دليلا على خواء الحاضر وذبوله بما يفرض اللجوء الى الماضي والتشبث به. يرى الطغرائي ان الذكريات دواعي السقام:
تذكرت والذكرى تشوق وذو الهوى يحن ومن يعلق به الحب يصبهِ وفي الركب مطويّ الضلوع على جوى متى يدعه داعي السقام يلبهِ وذكريات الجواهري ملأى بالذعر والقلق والأسى:
يا ذكريات تحشدي فرقا تسع الخيال وتملأ الأفقا وتأهبي زمرا تجهزني محض الاسى والذعر والقلقا الليل صبي في قرارته من وحشة ما يفزع الغسقا والريح خليها اذا صفرت في البيت توسع من به فرقا خلي الصغار من الاسى فزعا يتساءلون من الذي طرقا ودعي الكبار يرون مدخنة فيه ولا يجدون محترقا وادونيس الذي يقول: ليس في عينيّ شيء من حياتي/ غير اشباح حزينة. لا يستطيع ان يهادن ذكرياته: والذكريات تمر مثل البرق في لحمي وترجعني اليك اليكِ/ ان الموت مثل الذكريات كلاهما يمشي اليك. ويقول: بكت المئذنة/ حين جاء الغريب/ اشتراها وبنى فوقها مدخنة.
ويشكر أبو نواس للذكريات فضائلها، فهل يريد ان يخدعنا او يخدع نفسه:
سأشكر للذكرى صنيعها عندي وتمثيلها لي من احب على البعد يقربه التذكار حتى كأنني أعانيه في كل أحواله عندي وشوقي لا يرى للحياة معنى من غير ذكريات، ويجمع اقانيم الزمن الثلاثة ويجسدها في يوم اللقاء المنتظر:
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى والذكريات صدى السنين الحاكي لا أمس من عمر الزمان ولا غد جمع الزمان فكان يوم لقاك ولأحمد الصافي النجفي جولات لا تنتهي مع الذكريات، يعيده اليها اقسى حالات الاغتراب والحاضر البائس:
بقلبي قد اطلت ذكريات تفتش فيه عن ماضي شبابي بقايا من حبيب او محب واشباح لأيام التصابي وضيف تواصل وخيال هجر ورسم تدلل ورؤى عتاب كشمس قد توارت في مغيب وبرق قد تلاشى في ضباب وآخر سكرة وختام حلم ونجم آفل ومنى كذاب ولسعدي يوسف: اريد ان اخبرك الليلة/ بأنني في قبضة الذكرى/ سجين دونما سجان/ وحين يبدو التل كالغيم، ويدنو الغيم كالتل/ وترتعي في العشب المبتل والدالية الالوان والقطعان/ اغنية للبحر والصحراء/ أغنية للسرو والنخل/ اغور في الذكرى فتمتد على جبهتي القضبان.
وتحترق ذكريات عدنان الصائغ فلا يبقى منها سوى الرماد: للطفولة يتمي/ ولامرأتي الشعر والفقر/ وللذكريات .. الرماد.
والشعراء يأسون على شبابهم الذاهب ويقعون في نارين ان استعادوا الذكريات، نأت الى غير ما رجعة، وخلفت عندهم لوعة وأسى، ان تجاوزوها حكموا على الشباب الذي اغتاله الزمن بنسيان ما يذكر به، ومرحلة الشباب، لدى الشعراء، ترادف الوجد والود فيوهمون انفسهم، وان جلل الشيب رأسهم، انهم ما زالوا على قيد الحب، وصيحة أبي فراس معروفة: «عيرتني بالشيب..» ورده دامغ مفحم: «ليتها عيرت بما هو عار»، وأبو العتاهية الذي بذل جهدا كبيرا في ان يورثنا، بأشعاره، كآبة دائمة والذي اراد ان يعود اليه شبابه يوما ليخبره بفواجع مشيبه ردد قوله «الشياب» جميعا:
عريتُ من الشباب وكنت غضا كما يعرى من الورق القضيب فيا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب وأبو الطيب كان يعي ما يحل به اذا انصرمت اعوام عنفوانه، قبل فراقه خوف فراقه، كمن يقيم المناحات ويجلس في (فاتحته) يستقبل معزيه بوفاته:
ولقد بكيت على الشباب ولمتي مسودة ولماء وجهي رونق حذرا عليه قبل يوم فراقه حتى لكدت بماء دمعي اشرق ورفض الخضاب وأكد حبه العميق لأصالة البداوة وبساطتها وبعدها عن الزيف:
افدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ومن هوى كل من ليست مموهة تركت لون مشيبي غير مخضوب ويخدع شعراء انفسهم، قبل غيرهم، بأن يظهروا بمظهر الشباب: صانع الذكريات الاول، فيخفون بياض شعرهم بالاصباغ. ومن روائع ما وقع ليحيى بن الحكم الغزال سفير الاندلس الى النورمان ان ملكتهم ما ان رأته حتى احبته واقنعته بدلال ان يصبغ (شيباته) ففعل وقال:
بكرت تحسّن لي سواد خضابي فكأن ذاك أعادني لشبابي ما الشيب عندي والخضاب لواصف إلا كشمس جللت بضباب لا تنكري وضح المشيب فإنما هو زهوة الافهام والالباب والبحتري خير من عزى نفسه بأن الشيب ضرب من روائع شتى كالأقاحي في الحدائق الغناء والنجوم في خيمة العالم والبروق التي تأتي بالخير والخصب:
عذلتنا في عشقها أم عمرو هل سمعتم بالعاذل المعشوق ورأت لمة ألم بها الشيب فريعت من ظلمة في شروق ولعمري لولا الاقاحي لأبصرت أنيق الرياض غير أنيق أي ليل يبهى بغير نجوم او سحاب يندى بغير بروق والمعري خير مدافع عن الشيب خزين الذكريات:
خبريني ماذا كرهت من الشيب فلا علم لي بذنب المشيب أضياء النهار أم وضح اللؤلؤ أم كونه كثغر الحبيب واذكري لي فضل الشباب وما يجمع من منظر يروق وطيب غدره بالخليل أم حبه للغي أم انه كدهر الاديب وهكذا ضاع الشعراء وغيرهم بين الماضي والحاضر. وبين الذكريات وعودتها ونسيانها، فمتى يحل الوئام بين أقانيم الزمان؟ وبين فتوة الناس وايغالهم في العمر؟ مرحلة الشباب لا تقلقها الذكريات كثيرا، ولكنها مفزعة راعبة في ما بعد، وعلينا ان نتعلم، ان استطعنا، كيف نحقق تعايشا سلميا مع الذكريات، نرحب بها ونوطئ لها المكان الابهى بين الماضي والحاضر ولا ندعها تذيقنا الموت قبل الموت.


(*) صحيفة "الشرق الأوسط" 22 حزيران 2002 ثقافة
 
البحث Google Custom Search