أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
كتاب سلام عبود "ثقافة العنف في العراق":

إنهاء ثقافة العنف.. أم إعادة إنتاجها؟

إبراهيم أحمد
- اودفالا -

كثيراً ما تحدثت أدبيات عربية وعراقية( واستشراقية أحيانا)  عن أن العنف والطغيان والقسوة هي مزاج عراقي بامتياز ،لم ينحصر في قصور الحكام ودواوينهم وسجونهم المليئة بالسيافين والكلاب المفترسة بل تفشى في قصائد الشعراء وفتاوى الفقهاء ومبتدعي القصص والخرافات والأساطير ،وإن هؤلاء قد استمدوه من طبيعة الشخصية العراقية التي هي بنظرهم  منفعلة جامحة عصية على الترويض أو التدجين ،ومن صخب الأرض الطافحة بالمياه والثروات والمجلودة بلهب الشمس الحارقة ،وبينما ظلت كتب التراث تنز دماً حتى اليوم إلا أن إلصاق هذا النزف الروحي  المدمر بنفسية الإنسان العراقي عموماً كانت تقف خلفه غالباً القوى الحاكمة أو الغازية التي تريد أن تحصل على مبرر لطغيانها واستبدادها وأساليبها الوحشية في التعامل مع الناس المحرومين من حقهم في المعارضة أو حتى التعبير عما في نفوسهم من خلجات مشروعة !
وعلى مر التاريخ العراقي كان هناك دوماً أمل مشروع في توقف عنف السلطة ليسود السلام الروحي بين الناس وتبدأ قصائد الشعراء وملاحمهم تتحدث عن ثغر الحبيبة ،والورود العطرة وزق الخمر لا وطن يشيد بالجماجم والدم !وكان الذي يحدث للأسف أن ،سلطة تطيح بأخرى ،وسيف يطيح بسف، وموجة دم تزيح أخرى ويبقي الهواء مشبعاً برائحة الموت والخوف وكلمات المبدعين لا تستطيع أن تذهب بعيداً عن أجواء خيبة الأمل والفجيعة وإشارة  أصبع الحاكم !
لم يزدهر الإبداع الحقيقي إلا في الفترات التي خف فيها عنف السلطة ،وأرخت قبضتها عن أعناق الناس ومنحتهم هامشاً معقولاً من الحرية والكرامة الإنسانية ،والذي لا يلبث سوى فترة قصيرة ثم ينتكس لتعود دورة العنف بارزة بشكل صارخ في مجال الشعر والأدب حيث هو سجل التدوين والاعتراف والإدانة ،مثلما هو سجل التدليس والتبرير والتزوير والخيانة !
والفترة الرهيبة التي يعيشها العراق منذ عام 1968  هي أحلك عهود الظلم والانكفاء ليس فقط لكونها ( أكبر من فترة حكم الحجاج مثلاً ) بل ولأنها جاءت في عصر الحضارة وحقوق الإنسان الذين بدلاً من يحدا من غلوائها ،استطاعت السلطة بخبثها ضمهما مع  المنجز التكنلوجي لآلتها القامعة فضاعفت قوتها وبطشها وهيمنتها لتصل إلى حجرات نوم الناس وتتغلغل في خلايا عقولهم وأجسادهم !
وقد انعكس عنف السلطة وطغيانها في الثقافة العراقية بشكل عنيف ،أدى لتهتكها طويلاً ثم تمزقها إلى شطرين ظل أحدهما يرزح تحت عنف السلطة فيتشوه أكثر أو يعاني أو يقاوم بصمت وشجاعة ،والشطر الأخر قذف نفسه للمنافي بحركة تحتمل الجرأة والمجازفة والمغامرة معاً دافعاً من رصيد الإبداع ومستواه ومن طاقة المبدعين وحياتهم ضرائب أرض ومجتمعات لها همومها الأخرى !
وقد ظل المثقفون العراقيون الذين بدأت هجراتهم الاضطرارية منذ ربع قرن وما تزال متواصلة يتوقفون باحثين في حالة تمزيق السلطة لثقافتهم وتدميرها ( بصفتها الحصن الأخير بعد تدمير الإنسان نفسه مع أرضه ،وما بنى على مر القرون ) ،عبر لقاءات وندوات ومقالات في الصحف محاولين قدر استطاعتهم تحليل ما يجرى ،وتقصي أسبابه وعوامله بدقة وموضوعية ،أو محاولة علاج جانب منه وكان الاستنتاج الرئيسي الذي يحظى بقناعة الكثيرين أن تجديد ثقافتنا واستعادة أجواء الإبداع وإنعاشها لتلحق بركب العصر ،لا يتحقق فقط بإزاحة النظام الحالي وتصفية مؤسساته القمعية الفكرية والتربوية خاصة، بل  بالتأسيس  لمفاهيم جديدة راسخة من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان خاصة حقه في التعبير عن نفسه بعمق وطلاقة .بعبارة أخرى بناء ذهنية جديدة قوية وحيوية ومعافاة ومبرأة قدر الإٌمكان من خطايا الماضي وضغائنه وأحقاده، ذهنية رحبة متفتحة بعيدة عن ثقافة النمط الواحد والأيدلوجية المغلقة !
وكان يمكن لكتاب سلام عبود ( ثقافة العنف ،الصادر مؤخراً عن دار الجمل في المانيا )أن يكون محاولة مفيدة وضرورية في هذا السياق لو أنه اعتمد قواعد تحليل ونقد ومراجعة  غير تلك التي أنتجت ثقافة العنف في العراق وفي المنافي ،ولم يشع في كتابه أجواء من العنف والقسوة والفظاظة تكرس مظاهر ثقافية سيئة ومؤذية بدلاً من أن تعمل على إزالتها !
لعل أهم صفات الناقد هو أن يكون موضوعياً متسماً بالنزاهة والصدق والأمانة وحسن القصد ،متمسكاً بمنطلق أخلاقي نبيل  ،وقد لا يشترط أن يكون مستوعباً لثقافة واسعة متنوعة متكاملة ،ولكن لا بد له من الإلمام بموضوعه عارفاً بواطنه وخفاياه مقلباً جوانبه بصبر وأناة وتفهم واحترام وفي كل مناظرة تتعلق بالنقد المقارن عبر الحقب المختلفة نجد الباحثين والمحللين يلقون على الناقد اشتراطات ومهمات جديدة فهم يشترطون عليه ديمقراطيته وعدم تعصبه لرأي أو فكرة واحدة خاصة إذا كانت شمولية ومغلقة ،وتقديسه لحرية القول والتعبير وإدراكه لأبعاد الجمال مهما اختفت وراء بساطة أو تعقيد وتركيب  ،وضرورة عمله على بلورتها وإشاعتها ،وقد يشترطون عليه في هذه الأيام إيمانه بالجوهر الإنساني للثقافات المتعددة والمتفاعلة دون إغفال ترسيخ الملامح المحلية والخاصة ،
إن  أهم ما ينبغي أن يتحلى به ناقد يريد أن يحلل ظاهرة العنف في ثقافتنا هو أن لا يكون عنيفاً ،بل مفعماً بروح السلام والخير متسماً  بالهدوء والرصانة والموضوعية ،مبرأً من النوايا الخاصة ونزعة الكراهية والقسوة بل على قدر من عاطفة الحب والتفهم للناس حين يجدون أنفسهم مرغمين محاصرين بظرف صعب ،مدركاً طبيعة العصر،والمنطقة، وتقلبات التاريخ التي داهمتهم، وفي الوقت الذي يدين الظلم الذي وقع عليهم ،ويتفهم الضغوط والصعاب التي تفرض عليهم الضلال والانحراف ،يقدم هو بأحكامه ومعالجته صورة للعدالة الغائبة أو المنتهكة ،في مجال النقد الأدبي والتقييم الفني طبعاً هناك قواعد دقيقة محكمة لا تشفع فيها العواطف والميول ،ولا تحتمل التسامح إلا بقدر ضئيل جداً ،لكنها تقتضي أعلى درجة من التجرد والدقة والموضوعية وحين ينطلق الكاتب من نية الانتقام والقصاص أو تصفية حسابات موهومة معتقداً أنه جهة القضاء المخولة بالحكم ،غير أن ينطلق من الحدب ،والشعور بالمسئولية على مصائر الناس ومظاهر الإبداع وضروراته ،ومع هذا يظل التسامح كمفهوم حضاري في العلاقات بين المبدعين أنفسهم وبينهم وبين المتلقين والمجتمع عموماً ضرورة حضارية لا يجوز الاستهتار بها  !حيث أن مسار الثقافة والحضارة العراقية الذي يمتد لسبعة آلاف عام كثيراً ما عبر على أخاديد وخنادق كانت في يوم ما مجار للدماء والأحزان !وسيظل يخب بين الأعاصير والحرائق باتجاه حياة جديدة تليق ببداياته الرائدة  ،وقد يصل إليها أو يطول طريقه، لكن حمل نبل الهدف أمر رائع ويستحق العناء !
وبقدر ما أضحت هذه  القضايا في أيامنا هذه معروفة بديهية في القول صارت نادرة في التحقق،لكن كتاب سلام عبود هذا يضعها  أمامنا وللأسف مشوهة وممسوخة تماماً ،حتى ليجد المرء أن من الأفضل إهمال هذه الصفحات الكثيرة التي سودها بمزاج متوتر مأزوم سيئ القصد ( وهو غير مزاج الإبداع على أي حال ) لولا إن الكتاب أطلق أحكاماً قد يفسر السكوت عنها أنه موافقة عليها ،كما إنه قدم لبعض الصحف العربية والمثقفين العرب على أنه آخر تقرير وشهادة من عراقي عن وضع الثقافة العراقية ،وطناً، ومنفى ، بينما لا يستطيع أي مثقف عراقي موضوعي أن يقر معظم جوانبه واستنتاجاته وأحكامه المتعسفة !  
تناول عبود أهم جانبين في الثقافة العراقية للثلاثين سنة الماضية :وضعها في الداخل ،ووضعها في الخارج ،( اتخذ المؤلف (الثقافة )عنواناً لكتابه لكنه تحدث عن الشعر والقصة فقط مجافياً مفهوم الثقافة الذي يشمل الفنون والفكر والأنشطة الحضارية الأخرى ) وعرضها بطريقة ملتوية مناسبة لأحكامه الجاهزة ونزعته الغريبة في الإلغاء والتدمير،وإعادة إنتاج العنف ، مما أدخل هاتين الموضوعتين الحساستين والهامتين  حالة مضللة مؤذية وخطيرة تقتضي التصويب قدر المستطاع . سنطلق على هذه الصفحات المتضخمة  ،والمكررة في كثير من المواضع أسم كتاب اصطلاحاً بينما هو تجميع لمقالات متنافرة غير مترابطة ،ومكررة ،ومتناقضة في كثيرة من أجزاءها ، كان الكاتب قد نشر بعضها  في جريدة "القدس اللندنية " بل حتى ليمكن القول أنها في الكثير من أحكامها واستنتاجاتها خاصة في ما يتعلق بتناوله لأدب المنفى وشخوصه جاءت موافقة لهوى الجريدة ! كما إن الجزء المترهل المتعلق بحروب وفاشيات أوربا قد  ألصقه الكاتب بمقالاته دون ربط عضوي أو دراسة مقارنة  فجاءت مثل حشوة السن التالف ! يستهل عبود كتابه بالقول " الدوافع التي تقف وراء كتابة هذا الموضوع كثيرة ،في مقدمتها حالة الالتباس السياسي في الوضع العراقي وما يلازمها من تعقيد فكري وسلوكي أدى في أحوال كثيرة إلى تحول الجدل أو البحث في أصغر المواضيع إلى رطانة لا منطق لها "
وإن كتابه سيبحث في القيم الأخلاقية وعلى وجه التحديد في القيم الأخلاقية للأديب !
"وهو دراسة اجتماعية ذات منحى أخلاقي،وأؤكد هنا على كلمة أخلاقي  باعتبارها الهدف المباشر لمجمل الملاحظات والمقارنات والتحليلات التي تناولها الكتاب !"(ص 7)
وبالطبع لا بد أن نتوقع أن من يبحث في القيم الأخلاقية داخل نصوص الآخرين أن يلتزم هو قبل غيره القاعدة الأخلاقية في البحث والتمحيص وإصدار الأحكام ،ولنرى كيف أنجز عبود هذه المسألة : كان سهلاً عليه إدانة شعراء وكتاب ارتبطوا بالنظام منذ عهد بعيد ،بل كانوا في نتاجهم المبكر من دعاة الفكرة التي قام عليها هذا النظام كحميد سعيد وسامي مهدي ،وقد لحق بهما فيما بعد عبد الرزاق عبد الواحد وعلي الياسري،ورعد بندر  ولؤي حقي وغيرهم ،فهؤلاء في كل نتاجهم في العهد الحالي كانوا يحاولون عبثاً إعادة إنتاج عنف النظام أدبياً وجمالياَ وتسويقه في مجال الروح والعقل ،إي أنهم كانوا يرتكبون جرائمه معنوياً ،مرة أخرى وأخرى عن سبق إصرار وبهوس يبلغ حد العصاب الجنوني ! ويصعب حقاً مطالبة ناقد أو باحث أن يجد مبرراً لهؤلاء في سلوكهم الشائن هذا ،إذ حتى إذا سلمنا بحقهم بالإيمان بفكرة أو مبدأ أو طريق يعتقدون أنه الأفضل لوطنهم ،والتعبير عنها ،فإن هذه القضية لا تعود صحيحة أو عادلة مادامت قد اعتمدت الحروب العدوانية والإرهاب والقمع وإذلال الناس طريقاً لها كما إن هؤلاء لم يعودوا مبدعين مجردين معزولين، بل صاروا مسئولين لهم مواقعهم المتقدمة في السلطة مارسوا من خلالها الكثير من الأنشطة المؤذية والخطيرة والمؤثرة على الناس والحياة  ! أي أنهم ببساطة تجاوزا الحد المعقول للضعف الإنساني،والحق المشروع لدرء الأذى ، وأوغلوا في الجريمة وولغوا الدماء !
وأدانه هؤلاء ،هو واجب أخلاقي كما أن القول أن من الصعب أن نجد في نتاجهم جوهراً إبداعياً  هو صحيح أيضاً إذا أن الفاشية وجو الكراهية والقسوة لا يعطى جمالاً أو قيماً فنية راقية .كما أن القول أن الحروب العدوانية غير الشرعية لا يمكن أن تنتج أدباً أو فناً صادقاً وجميلاً أضحت بديهية معروفة .
لكن الكاتب يمارس ظلماً بيناً حين يخلط بين هؤلاء المدانين في الداخل والخارج وبين أسماء مثل :محمد خضير وياسين النصير ومحمود جنداري وعدنان الصائغ وفاضل ثامر وحميد المختار ومحمود عبد الوهاب وعبد الخالق الركابي وآخرين ،ويظل طريقه حين يواصل الحديث عن مسالة الحرب ،وضرورة إشهار الخلاف مع السلطة ،هنا تغدو أحكامه غير معقولة وغير ممكنة حتى ولو على أبسط المسائل ،خاصة بالنسبة لكتاب تناولوا الحرب الأولى أو الثانية ،في قصائدهم وقصصهم مضطرين ثم لم يلبثوا أن نفضوا أيدهم منها، وغادروها للمنافي حيث يقول " إن الذات لا السلطة هي المسئولة عن كتابة النص  وهي المسئولة عن إنشائه وولادته وإطلاقه إلى النور" وقد يكون هذا صحيحاً بعض الشيء في كل مكان إلا في العراق ،لذا فهو يطالبهم ما داموا قد أصبحوا بإراداتهم أدباء أن يكتبوا قصائد وقصص وروايات لا تدين الحرب وحسب، بل وتشير إلى مشعلها وتلعنه ولا ندري هل سيضمن سلام عبود نشر نتاجهم الشعري والقصصي النضالي هذا  في جريدة القادسية ،والجمهورية ،أم تلفزيون الشباب أو سيدفع للسلطة نيابة عن أهاليهم أثمان الرصاصات التي سيعدمون بها !
هل هي سذاجة من سلام عبود ؟ أم قسوة متأصلة في الطرح ؟ أم عجز في التحليل والنقد ،وإذا كان الأمر كذلك فما الذي دعاه ليخوض غمار تجربة لا يستطيعها ؟
من الغريب أنه حين تناول قصة للكاتب فاتح عبد السلام وفيها إدانة صريحة للحرب علق قائلاً : هذا غير صحيح : كيف يستطيع كاتب أن يكتب ضد الحرب ؟
مما يجعل القارئ حائراً معه ،ماذا يريد ؟
لا يكلف الكاتب نفسه إزالة تناقضه داخل كتابه حين يعود ويعترف "إن من الجنون مطالبة كاتب عراقي يعيش في الداخل بالكتابة عن أجواء الحرب"لكنه يعود ويخفف مطالبه فيدعوهم  للكتابة عن ظلالها ! وكأن مثقفي وكتبة النظام سذج أيضاً لتمر عليهم تلميحات هؤلاء الكتاب المغامرين وظلالهم التي ستكون خفيفة وفق وصفته الغامضة المستحيلة ، ومع ذلك حين ترد في نصوص الشعراء والكتاب  بوعي أو دون وعي ،بقصد أو دون قصد تلك الظلال بل وحتى بعض الأضواء المناوئة للحرب والدكتاتورية والقمع معها يعود عبود لينكرها عليهم ويمسخها ويحرفها إلى المعنى الذي يريده، وهو أن هؤلاء كانوا جبناء خائفين لم يشتموا صدام وحروبه !لا يسعك سوى التساؤل أهو غباء أم تغابي مطالبة الكاتب أو الشاعر لقول نص كل كلمة فيه لن تعني في قاموس السلطة سوى المقصلة والرصاص مدفوع الثمن من أحباب القتيل ؟ألم يدرك أنه بشهادته المتحاملة على الكتاب العزل هذه يلتقي مع رأي السلطة من أن جميع الشعراء والكتاب كانوا معهاً قلباً وقالباً ولم تصدر منهم نأمة مخالفة أو إدانة ؟ بينما السليقة والفطرة الفنية  تتمرد أحياناً على المبدع نفسه ،وتعطي الكثير من ومضات الإبداع الصادقة ،وهذا ما قد يكون موضع بحث جاد  لدى النقاد الأذكياء في المستقبلً إن كل ذي بصيرة يستطيع أن يرى مأزق المبدعين العراقيين في ظل سلطة إرهابية متورطة في حرب تكاد تبتلعها حيث لا يكون أمام الشعراء الذين لم يختاروا المنفى، أو لم يجدوا إليه سبيلاً ،سوى أحد خيارين أحلاهما مر كما يقال ،إما الصمت (وحتى هذا صار صعباً في ظل الملاحقات ،وقرع الأبواب ،والمطالبات بأداء ما أعتبر واجباً وطنيا) أو الكتابة حسب أوامر ومقاسات السلطة ،وهنا لا تستطيع أن تطالب الشاعر أو الكاتب سوى أن يلوذ بأداته الإبداعية ،حيث كلما أتقن المبدع فنه استطاع أن يزوغ عن أعين السلطة ويمتثل قدر المستطاع لصوته الداخلي ونبض ضميره الإنساني ،متقناً صنعته الفنية كدرع أخير ،وبدلاً من أن يبحث عبود في نتاج الكتاب والشعراء عن هكذا ومضات إبداعية صادقة( وليست أعمالاً متكاملة بالطبع ) فقد راح بهوس غريب يسفه كل شيء ويرد حتى ما يراه هو بنفسه لمحة جميلة لدى المبدعين العراقيين المحاصرين  ليلحقها بما اسماه بنهج الخراب الجميل ،الذي سيطر على الكتاب كلازمة موسيقية نشاز ،وقد استعار عبود مصطلح الخراب الجميل من عنوان رواية لأحمد خلف من الواضح إنه لم يقرأها معتقداً أنها تدور حول الحرب بينما هي  تدور حول خراب علاقة شخصية ،وهي مكتوبة قبل الحرب( صدرت عام 1981 وهذا يرينا الخفة التي يتناول فيها عبود معلوماته ومصطلحاته  !
ولكن لنر ماذا فعل سلام عبود بمن حاول أن يتسلح ببراعته الفنية ليروغ عما تريده السلطة من الشعراء في تمجيد الحرب ،والدعاية لها :
فعندما يقول الشاعر عدنان الصائغ :"وما تبقى من فواتير الحروب ،غداً تسددها جراحات الشعوب"أو " أصبعاً أصبعاً ستقطع كف طفولتنا الحرب ،أو "سوف نبكي على حلم ضيعوه فضعنا "يعلق سلام عبود :أن الصائغ  يبكي على مناصبه التي ضيعها ،وبينما لم تكن لعدنان مناصب أو رتب ،أو مدفع عملاق ، سوى ما منحه سلام عبود من جيش الوهم ،وإن الصائغ  يعبر عن فجيعة عامة ، فإنه  لا يريد أن يتلمس جراحه ،وكأنه صدم أن هذا الشاعر وكثيرين غيره ظلوا نظافاً لطافاً قدر استطاعتهم في أجواء تنضح قذارة ،فأنه يصر على تلطيخه ،وحين يتناول كتابه الذي يضم قصيدته الطويلة نشيد اوروك التي كتبها داخل العراق يصر على القول وكأنه كان يرافقه في الحروب وهو يتنقل حاملاً أوراقها المبعثرة متنقلاً من إسطبل مهجور إلى معسكر تحت القصف  "بتقديري الشخصي إن نشيد أوروك هو من نتاج الخارج وليس الداخل "إنه مصر على جعل المبدع في الداخل عقيماً خانعاً حتى لو تمرد وحقق خصوبته بشكل سري يقارب الصمت ،  ثم ينقض على قصائده المستجيرة بالمستوى الفني  ، لينقذ موقف رقيب الداخل الذي لم يفته شيء  فيروح يعتصر القصائد  ،يبعثر كلماتها، ويعيد ترتيبها ليحاول عبثاً أن يثبت أن هذا المقطع أو ذاك " مخصص لإرضاء شهوة صناع الحرب "حتى ليحس القارئ بقشعريرة غضب وتقزز وهو يتصور عبود  يدخل القصائد والقصص غرف تعذيب ،يجلدها يطفأ في عيونها السجائر ليستنطقها ، ويجبرها على الاعتراف أن من يقف وراءها شاعر خائن للشعب ،مخلص للسلطة ،والمؤسف أن هذا ديدنه في كل الكتاب ،فكل مبدعي الداخل هادنوا السلطة ، لم يخلصوا  للشعارات التي ما يزال سلام عبود مؤمناً بها ،قادراً على قصف الوطن بها من منفاه ،وهذا ما قالته السلطة قبله ،وأفحمها كثيرون،لكن عبود ينتهي واقفاً مع السلطة دون أن يعلم ،ولا يريد أن يعلم   !  الأخطر من هذا كله هو تخطى أمانة الكاتب ونزاهته حين يضيف من عنده جملة ( من القائد.. إلى الفاو)استهلالاً لأحد نصوص  الشاعر عدنان الصائغ،والتي لا وجود لها في أي من نصوصه كما أوضح الشاعر الصائغ في رده عليه ،ويتوهم عبود أنه بذلك يسقطه أو يلقي القبض عليه متلبساً بالخيانة العظمى  ،وهذا اخطر أنواع التلفيق والتزوير ،الذي يريد تدمير سمعة إنسان عجز عن أن يجد في شعره ما يشين ،وهذا أمر ليس فقط غريب عن تقاليد النقد الأخلاقية والنظيفة بل هو يقع تحت طائلة القانون الجنائي ألو أراد الشاعر ملاحقته في المحاكم !
وحين يتناول عبود قصص عبد الستار ناصر التي كتبها للحرب ويقول أنها كانت رديئة وسيئة وضارة ،فلا يجافي الموضوعية رغم قسوة الجو العام ووحشيته ،لكنه يغفل أن عبد الستار  كتب قصة جميلة اسمها "سيدنا الخليفة "وسجنه النظام من أجلها  اكثر من سنة بزنزانة انفرادية وكاد يموت بينما زملاؤه في الداخل لا يستطيعون أن يفعلوا له شيئاً ،لولا حملة تضامن من مثقفين عرب في الخارج ،خاصة بيروت التي  نشط فيها أدونيس في حينها ،والموضوعية تقتضي حين يتهمه هناك بالخيانة ،أن لا يمر مدلساً على موقف شجاع لستار  ،وهو الذي ادعى إنه قلب كل صغيرة وكبيرة من اجل تأليف كتابه !
المصيبة إن سلام عبود لا يريد أن يرى ولو حتى بقعة واحدة ناصعة لدى أي من كتاب الداخل أو الخارج، بل إنه كثيراً ما يفضل على هؤلاء كتاب السلطة فيقول "ص 41
إن إحدى أغرب مفارقات  أدب الحرب في العراق تكمن في أن رصد ظاهرة تقدم الموت مع تعاظم حجم الخراب لم تكن من اكتشاف أعداء الحرب على العكس كان ذلك واحدة من "انتباهات" بعض كتاب السلطة " بل إنه يمضي في موضع آخر ليفضل رجال السلطة وجرأتهم على المثقفين المضطهدين  وفي مواضع أخرى يساوي بين المثقف ورجل السلطة  ،مما لا يجعل من الممكن مجاراته في  ضغينته وتحامله على شعراء وكتاب هم مهما اختلفنا معهم لا ينبغي محاكمتهم أو محاورتهم بمعزل عن ظروفهم القاسية القاهرة ،متوخين الموضوعية والعدالة والابتعاد عن الضغائن والأحقاد !
من المعروف أن حرب الخليج الأولى كانت جريمة كبرى بدأها صدام ،لكنها لم تلبث بعد أن وافق صدام على وقفها مكرهاً لا بطلاً ،ورفض الخميني ذلك ،وطالت لسنوات وسنوات على هذه الوتيرة المشتركة في العناد والتصعيد أضحت جريمة مشتركة لرأسي النظامين ،فتكونت لدى الناس في العراق مشاعر قلق حقيقي من غزو إيراني لوطنهم،مما أجج حقدهم على ما أسموهم بالغزاة الإيرانيين ( أو الفرس المجوس حسب مصطلح السلطة ) بغض النظر عن معرفتهم أن صدام هو الذي بدأ الحرب، لكنهم لا يجدون مبرراً لأن يكون احتلال وطنهم ثمناً لجريمة حاكم كرهوه وبعضهم عمل  ما استطاع للخلاص منه  !
وهذا ما يجعل النظر للروايات والقصص والقصائد التي كتبت بعد العام أو العامين الأولين من الحرب مختلفة الدوافع والغايات لكن الناقد الذي يفتقد للنظرة السياسية المتكاملة  والناضجة يزج  الكتاب والشعراء في قالبه النقدي الضيق  الجامد على مدى السنوات كلها ولذته الكبرى أن يهرس رؤوسهم !
يتناول سلام عبود نتاج الكاتبين جاسم الرصيف وفيصل عبد الحسن ،الذين لا مناص أمامهما سوى الصمت والتواري ووأد موهبتيهما ،أو الامتثال لأوامر السلطة في جو عام ينضح دماً وصرخات تدعو للحرب ،وبدلاً من أن يلعن عبود سلطة غاشمة دمرت كل شيء بما فيها مواهب المبدعين شباباً وكهولاً ،دون أن يغفل مسئولية الكاتب في التواطؤ والخنوع ،مدركاً حدود قدرته على الرفض والمقاومة  ،يصب شتائمه ولعناته عليهما مردداً نغمته الرتيبة من أنهما لم يسفها الحرب ولم يشيرا لمشعلها ،وكأن جاسم الرصيف وفيصل عبد الحسن عضوان دائمان في مجلس الأمن ويقيمان في ناطحات سحاب نييورك  ،وليسا كاتبين فقيرين بزغا لتوهما في عراق الرعب والقمع ! يمكنك أن ترفض نتاجهما أو تدينه ولكنك لا تستطيع مطالبتهما بما هو فوق طاقة البشر !
لا أحد يطلب من عبود عدم إدانة كتاب طبلوا وزمروا لصدام وحروبه وقمعه ،أو عدم  رفض تلك الأكوام من الكتب والمنجزات الفنية التي عملت على غرس الدكتاتور في عيون الناس وأرواحهم أين ما حلوا أو ارتحلوا ،ولكن مطالبه لكتاب الداخل ينبغي  أن تكون معقولة أو ممكنة ولا بد لمحاسبته لهم أن تكون عادلة ودقيقة ولا تحرق الأخضر واليابس وتزج من بقي نظيفاً في قذارات السلطة أو تنصب الفخاخ للإيقاع بهم !
بعد جولته  على زملائه في الضربات القاضية يعود ليتساءل :إذا كان صدام مسئولاً عن الحرب فمن المسئول عن ثقافة الحرب ؟،وثقافة الحرب السائدة ،وإذا كان كتابه في ثقافة العنف لم يستطع أن يجيب على هكذا سؤال ترى أين سنجده ؟في كتاب للطبخ مثلاً ؟ماذا سيكون رده إذا عرف أن صداماً لم يكن مسئولاً عن الحرب أيضاً ،والمسئول عنها هو المسكين حميد المختار الذي قال عنه سلام عبود " كان حميد المختار يصرخ بملء الفم ضد الحرب، ولكن ليس ضد حرب النظام"  ،كان على حميد المختار أن يصرخ داخل قصصه مثل شكسبير  " إنه الملك لير " حقاً لماذا لم تفعلها يا حميد المختار ؟  
وحين ينتقل للحديث عن ثقافة المنفى يستهلها بحوارات ومناظرات لأدباء ومثقفين حاولوا تقييم التجربة بما لها وعليها وبعد أن يسفهها ويسخر منها يشن هجوماً ضارياً على كتاب ونواد وأحزاب وجمعيات في السويد والمنافي الأخرى  (من المفارقات أنه يتهيب من ذكر أسماء النوادي والجمعيات بينما يريد من كتاب الداخل أن يلعنوا حروب صدام )ويروح ينزل عليها اتهاماته ولعناته ،ويصمها بالفشل والكذب والتزوير واللصوصية  والخيانة والتخلف وخديعة الذات والآخرين وقائمة أسماء الشعراء والكتاب المدرجين بقائمة عبود السوداء تطول وتطول ،ولا جدوى من ذكرها ،فالكتاب والشعراء في الخارج كلهم أو جلهم هم ليسوا اقل سوءاً من كتاب وشعراء الداخل ،والرقابة الداخلية على الذات لدى المبدع المنفي  أكثر فساداً من رقيب السلطة :
"وربما وجد نجم والي في النجاح الذي حققه في حي الطرب ما يشجعه على الاستمرار في تطعيم الحرب بالعبث والجنس الرخيص من دون أن يتنبه إلى أن نجاحه في الحرب في حي الطرب لا يختلف كثيراً عن نجاح قصص الحرب في الداخل في عين الرقيب العراقي، فرقيب الخارج لا يقل فساداً عن رقيب الداخل "
إنه يعيب على الحزب الشيوعي تحجره الأيدلوجي ومحاسبة الكتاب وفق مفاهيم أيدلوجية ضيقة ،لكنه يمضى لاهثاُ على مدى 300 صفحة محاكما المبدعين والفنانين بمفاهيم جدانوفية وأيدلوجية ضيقة تذكر بقيم  استالين الرهيبة التي تحاول عبثاً أن تأخذ شرعيتها من بشاعة قيم هتلر !
ولا يرى في أي نشاط مهما اجمع المثقفون على فائدته هو سيئ وخطير ، فإصدار مجلة الثقافة الجديدة "إبحار في الرمل" الذي  يضم قصائد لخمسة عشر شاعرا من معسكرات اللجوء بعد انتفاضة آذار ( يسميهم شعراء من مخيمات السعودية ) ثم يعقب على هذا النشاط الثقافي  (هذا التسابق رغم مظهره الثقافي هو جزء من تقاليد سياسية لا تجيد سوى صيد الفطائس ) ص69
يسمي شعراء لاذوا بالمنفي بعد ثورتهم بالفطائس ؟فأية كلمات وأحكام تعيسة استعملها مع آخرين من الرجال والنساء والكهول ؟
ثمة ملاحظة تبدو صغيرة وعابرة لكنها لا تخلو من دلالة فسلام عبود يسبق اسم كاتب أو شاعر في الداخل أو قادم لتوه للخارج بكلمة (زميل) أو( أستاذ) أو (السيد) بينما يورد أسماء كتاب المنفى بسخرية أحياناً كما أورد اسم نجم والي من أنه ( نجم ) وهناك نجمان ،ويقصد نجمان ياسين !
ويسمي القصة القصيرة جداً هذا ،النمط الإبداعي المقدر عالمياً ،بالطقطوقة ،فقط ليستهين بنتاج كاتب في المنفى عرف بهذا النمط من الكتابة ! جاهلاً أن الطقطوقة هي من الغناء العربي الجميل!
وبعد أن يطلق سلام عبود أحكامه العدمية على كل ما أنتج  في المنفى من قصص وشعر ،ويحيله رماداً ،ولكن أليس هناك إبداع راق ؟ هنا يلجأ عبود لحيلة مضحكة فيقتبس فقرة ينسبها لفاطمة المحسن يرد فيها أسمه وروايته الإله الأعور ،على أنه نتاج متميز وهكذا بعد أن يتحطم كل شيء يبقى الإله الأعور صارخاً بين الحطام  !    
لا شك هناك اخفاقات وجوانب فشل كثيرة ونكوص في المنفي العراقي الطويل الصعب الذي لم يجد إسناداً من أحد على العكس جوبه بضغوط  وصراعات وتحديات قاسية ( حتى اليوم تلاحقه مسدسات كاتمة الصوت ) بل هناك عيوب ومثالب كثيرة من الضروري تشخيصها بدقة وموضوعية وتحليل أسبابها وعواملها ومحاولة فتح أفق معالجتها لكن عبود بدلاً من أن يأخذ قسطه في هذه المسئولية الخطيرة ،راح يعيد إنتاج عنف قديم ومتراكم موهماً أن سيزيل به العنف الماثل في ثقافتنا وحياتنا على الضفتين !
فهو لا يتورع عن التلاعب بالحقائق فقط لكي يخلق انطباعاً يريد من خلاله  تشويه سمعة زميل له ،فهو يذكر ودونما مناسبة في السياق أن وزارة الثقافة والإعلام العراقية قد أصدرت المجموعة القصصية( زهور في يد المومياء)لإبراهيم أحمد  أواخر عام 1979 " في الوقت الذي كان فيه  الشيوعيون يقفون رسمياً خارج التحالف مع البعث وقد أوضح القاص إبراهيم أحمد هذا الأمر غير مرة معللاً إياه بأن الرقابة حذفت بعض نصوص المجموعة وكلماتها ،ولكن ذلك لا يغير إن صدور المجموعة من قبل وزارة الثقافة جاء في وقت كان الحزب الشيوعي قد تحول لو لفظياً من خلال عدد من البيانات باتجاه المعارضة" ص 240بينما الحقيقة ،ويعرفها سلام عبود ،هي أن الكتاب كان قد قدم للوزارة قبل سنتين من صدوره وظلوا يماطلون في إصداره ،ولم يصدروه إلا بعد  خروج الكاتب من العراق متسللاً ( حيث كان ممنوعاً من السفر ) إلى المنفى ،لكي يحققوا الانطباع الذي راح سلام عبود يروج له الآن عن وعي أو دون وعي ! ماذا يريد هذا النمط من البحث في ثقافة العنف غير إنتاج عنف آخر يريد من خلاله تشويه سمعة كاتب معارض من إنه كان متواطئاً مع السلطة ضد حزبه آنذاك ؟ أي ضمير هذا الذي يتحمل إطلاق هكذا أحكام ثقيلة على زملاء له يتحملون آلام المنافي لربع قرن فقط لكي لا يهادنوا سلطة جائرة !يا لسذاجة الناقد ،لو أراد إبراهيم أحمد،أو غيره من الكتاب المعارضين الذين اختاروا المنفى ، مساومتها آنذاك لحصل على أكثر من مجرد إصدار مجموعة قصصية ،والناقد المكتشف هذا  يعرف كم حصل كتاب هزيلون من السحت الحرام ،لقاء قبض السلطة على أرواحهم !
لعل أهم ما يطلب من ناقد أو دارس عن المراحل التاريخية المترعة بالدم والدموع والصخب ،وأكداس الادعاءات ، هو أن يكون شاهد عدل ،لا شاهد زور !
من يقرأ الكتاب كان يأمل أن يجد فيه رداً هادئاً متزناً على العنف ،وانتصاراً للوئام والانسجام المنتظرين في حياتنا طويلاً ،لكنه لا يجد على صفحاته سوى محرقة يلقي فيها عبود الأسماء المبدعة والتشكيلات الثقافية والسياسية ما أنجزته عبر عذاباتها الطويلة ، لقد قدم  للأسف هولوكوست كلامي معتقداً أنه ينجز شيئاً ثقافياً !
لننظر إليه هنا وهو لا يتحدث عن نتاج كتاب وشعراء أو مقطع من أعمالهم ،بل يتناولهم كأشخاص وكيانات إنسانية :
حين يتساءل :ص298
ماذا فعل حسين كامل بحريته المؤقتة؟حملها في حقيبة سفر وسلمها إلى قاتله !
إلخ ...
ماذا فعل فيصل عبد الحسن بحريته ؟
ليس دائماً يستطيع الكاتب الإفادة من مخزون التجربة الواقعي بشكل صحيح (إلخ....
ماذا فعل جاسم الرصيف بحريته ؟ أعاد طبع روايته "خط أحمر" التي هي نموذج جدي لسلسلة الأخطاء والخطايا التي أرتكبها في الداخل !(الخ...)
ماذا فعل عدنان الصائغ بحريته ؟ اكتشف إن عبد الكريم قاسم "قتلته الجماهير وسحل حتى نهر دجلة (الخ...)
ماذا فعل المثقفون اليساريون بحريتهم؟
نصبوا الكمائن لرفاقهم في عدن وموسكو وصوفيا ( إلخ...)
بهذا النموذج من الخطاب الرهيب يمضي سلام عبود واضعاً الجلاد القذر حسين كامل مع مبدعين مهما اختلف المرء معهم فإنه خلافه لا ينبغي أن يتجاوز الأطر الثقافية والإبداعية ،لكن عبود يضعهم مع مجرمي السلطة في قفص اتهام واحد .( وبالطبع يستطيع هو أو غيره احالتهم للمحاكم إذا كانت لديه أدلة من أنهم قد ارتكبوا جرائم عادية )
ثم يعود عبود بعد (هذه الصولة الجهادية) خافت الصوت ،متمسكناً ليصف كتابه ( إنه مجرد منلوج حزين ) ،إن تمرير هكذا خطاب وإشاعته هو ليس فقط إشاعة لثقافة العنف، بل تأسيس لها من جديد على أسس مغايرة أكثر خطورة !
يقول الكاتب أن السلطة تنقل الحرب إلى الخارج ،دون أن يفكر ماذا يمكن لطروحاتة المنفعلة الحادة دون مبرر أن تسهم في حرب  السلطة أو حرب المنفى !ثم يعود ليقول إنها حرب ضمائر ولكنك حين تطالعك أحكامه المتعسفة الظالمة يطلقها على هذا وذاك من المثقفين العراقيين الضحايا في معظمهم لا يسعك إلا أن تتساءل :أي ضمير يقف وراء كتابه هذا ؟
إن الكتب التي لا تريد أن تبحث عن العبر والدروس المفيدة من الماضي وتحاول تثبيت الأحقاد والضغائن ،ووسم الكتاب وجدع آذانهم ووسم جباههم هي كتب عنف ،لا كتب مضادة للعنف !  
فهكذا كتب تريد إنتاج العنف من موقع الضحية ،تقلد جلادها بنعومة وبراءة مصطنعة ،تدعي المعرفة الخاصة والإلمام بأسرار البيت بينما هي تفتح أبوابه وشبابيكه على الهواء الفاسد ،لا يعالج قضية العنف إلا من خرج في معاناته منها إلى أفق رحب من التسامي ،والشجن الصادق والحكمة التي تشمل الجميع بعدالتها ،ورقتها معاً !
والوقع إن المرء يخضع لعملية تعذيب حين يجد نفسه مجبراً على قراءة هكذا كتاب حيث يجد بين كلمة وأخرى كلمة ضالة جامحة لوخز الضمير ،وربما ليس مستغرباً أن نجد في سجون المستقبل ( التي ستبقى عامرة بفضل هكذا نزعات عدائية ) كتب سلام عبود ومثيلاتها كأدوات مهذبة بعض الشيء للتعذيب  !
ترى ما الذي  دفع سلام عبود لكتابة هذه الصفحات المريرة ؟أهو إحباط خاص ويأس حيث هو يشكو وماً من إهمال الناس له ولكتبه ،وانعزاله في تغرب وتوحش يفاقمه المنفي السويدي المعروف بصقيعه وظلامه ؟ أهي كلها مجتمعة؟ لا أريد أن أحمل الأمر أية دوافع أخرى ؟ لكن سلام عبود يحس بفداحة فعلته  فهو يقول :ص9
"ومن ضمن مظاهر قسوة الواقع هذا إنني وجدت نفسي متلبساً في جريمة إلحاق الأذى بالآخرين ،وهو إحساس سيظل يعذبني بشدة ،فلربما ظلمت هذا أو ذاك من الأدباء حينما سلطت الضوء على نص له دون غيره أو حينما تناولت مقطعاً  صغيراً هامشياً من نص طويل له مبرزاً إياه كشاهد كشاهد ودليل على موضع لا يسر أحداً بمن فيه كاتبه إلخ..."
ولكن هذا لا يجدي ،إنه لا يتحدث عن فعل قد وقع وانتهى الأمر ،بل عن كتاب كان ما يزال بين يديه وكان يستطيع أن لا يدفع به للطبع قبل تلافي هذه العيوب التي أدركها وتجاهلها فيما بعد عن سبق إصرار وربما كان المتلقي سيتجاوز هذه ( الجريمة كما يقر بها ) لو كانت بهذه الحدود لكنها كانت تتعلق وكما يتضح من سيقا صفحات طويلة بنوايا واضحة في اللحاق الأذى بسمعتهم ومحاولة تشويههم !
إن أية كتابة عن الثقافة والمثقفين العراقيين في الداخل والخارج لا تنطلق من ضمير مهني نقي وشفاف لن تؤدي سوى إلى زيادة العتمة والضلال والعذاب ،وستسهم في تأخير تبلور روح طيبة تساعد الجميع تخطى آلام المراحل السابقة والتوجه الراسخ على العمل والإبداع !
خاصة في هذه الحقبة التي  يتطلع فيها العراقيون في الداخل والخارج لحياة جديدة بعد طول نضال وصبر ،بينما هناك نذر دخولهم لعهد عصيب شاق ومرير من الصراعات الجديدة غير المعهودة ،لا يعرف إن كانت ستفضي لخير أو ستأتي بكوارث أخرى وهم في كل ذلك يتطلعون للمثقفين كطليعة مخلصة تمنحهم الكلمة الناضجة الطيبة الملهمة !
أعتقد إن أفضل عمل يقوم به سلام عبود هو مراجعة كتابه وتصحيح ما طفح به من أخطاء وخطايا وأن يعتذر لزملائه عما ألحقه بهم من أذى دون مبرر ،بذلك يكون قد أعطى نموذجاً طيباً يسهم في تصفية ثقافة العنف !
 
البحث Google Custom Search