أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
مع الشاعر عدنان الصائغ:
قصيدة نثر ناجحة أصعب من كتابة قصائد التفعيلة أو القصيدة العمودية في أحيان كثيرة.

أجرى الحوار: زكريا الإبراهيم
دمشق

‏نفتقد إلى مفهوم الحوار... ندخل في مناقشة؛ حتى لو كانت عن قصيدة النثر وليست مناقشة سياسية؛ فتكتشف أنك في ساحة معركة وأن القصف العشوائي بات وشيكاً.. فتطوي أوراقك وترحل! ‏
ما معنى أن تكسر صنماً لتبني صنماً آخر؟... المبدع الكبير هو هدام الأصنام جميعاً والمبتكر دائماً للجديد والمدهش! ‏
عدنان الصائغ يختصر قبيلة من الشعراء؛ إضافة إلى الزخم الواضح من التلوينات الوضّاءة... والتي مهما راوغت فإنها عجينة عشق وشعر يبدأ من مجموعته الأولى «انتظريني تحت نصب الحرية» عام 1984، أي بعد فسحة كسل «ضروري» من ميلاده عام 1955 في الكوفة إلا من أحفاد يقتاتون الرحيل، إلى مجموعته الثانية عشرة «تأبط منفى 2001» مرورا بالعديد من العصافير والمرايا. ‏
وعدنان الصائغ مترجم إلى مجموعة من اللغات إضافة إلى حمله مجموعة من الجوائز منها «جائزة هيلمان هاميت العالمية للإبداع وحرية التعبير عام 1996 في نيويورك».. (!!..). ‏
وجائزة مهرجان الشعر العالمي عام 1997 في روتردام.
عدنان الصائغ يغريك بالقصيدة وارتكابها، لذلك أحاول أن أطرز شاعراً بيمامة الغسق وعكاكيز الهواء والمقابر والمعابر وعصير اللغة المتدفق من صلب الهباء. ‏
الشعر اليوم كثير جداً، ولكن مايستحق أن يصغى إليه قليل جداً، وشعر عدنان الصائغ من هذا القليل». ‏
هذا ماأعلنه «جبرا ابراهيم جبرا» في واحدة من أعطياته النقدية التي تشير دون مواربة إلى ذائقة بعلو هذه الهمة. ‏
ولأن تقديم «الصائغ» يحتاج إلى مجازفة بكر استطاعها مغامرٌ ندرك الجدل حوله.. وأناه مثل "عبد الوهاب البياتي" الذي يتجرأ المديح .. ويقول: «عدنان الصائغ شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب » .

  • قبل مجموعتك الأخيرة "تأبط منفى" 2001، هناك عشرة مجاميع شعرية من "انتظريني تحت نصب الحرية" 1984. كيف ترى إلى هذه التجربة الغزيرة ؟ .. ماهي الهموم والأدوات التي تطورت أو أُتسبدلت حتى الآن ؟

  • هذه الغزارة التي تراها هي فوران من الألم، الألم الخبيء المسعور الذي تفجر فينا طيلة تلك الحقبة المريرة من تاريخنا الوطني والانساني وما عصفت بنا من حروب وكوارث وحصارات تركت أثرها واضحاً وداكناً على مجمل ناج جيلنا الشعري والأجيال الأخرى. هذه الكوارث قد تغطي قامة المبدع فتخنقه وتقتله وقد يكون هو أقوى منها، يستشرف من خلالها واقعه ونبض عصره فينتصر عليها بابداعه.. لذلك تجد أن هناك تجارب ابداعية كبيرة في الأزمات الكبيرة، بينماهناك تجارب جفت ويبست نتيجة هذا الاعصار المدمر وتساقطت أوراقها واحدة تلو الأخرى. وحين تنظر الآن إلى خارطة جيلنا تجد الأمثلة واضحة، فكم من الأسماء قد جفت وانتهت. لكنك بالمقابل تجد ثمة خضرة وارفة عند هذا المبدع أو ذاك. وحالة التطور والنضوب هي حالة طبيعة في عموم الإبداع الإنساني في كل زمان ومكان. يضاف إلى ذلك، بعض العوامل الذاتية والثقافية والنفسية للمبدع نفسه، والخ والخ..
    وللغزارة هنا وجهان، وجه سلبي يعكس استسهال الكاتب لفنه، وبالتالي يكثر من الكتابة والنشر حد التكرار والملل والمباشرة. وهذا ما يتجنبه المبدع لكي لا يقع في فخ الاستسهال الدبق. والوجه الثاني الإيجابي لهذه الفورة هو أنها حصيلة تمازج المعاناة بالقراءة، والموهبة بالألم، والصبر بالصدق، والتجربة بالاستشراف. وهي خبطة دقيقة ليس من السهل الحصول عليها لأي أحد، لكنها تأتي بالمران والصبر والجهد والقراءة والصدق والكد.. لهذا فالغزارة سلاح ذو حدين وقد انتبهت إلى هذا منذ بداياتي أنا الذي بقيت بعيداً عن النشر لسنوات طويلة حتى عام 1982 حين نشرت أولى نصوصي في جريدة "الجمهورية" وحتى عام 1984 حيث صدور مجموعتي الأولى "اتنظريني تحت نصب الحرية" .. كنت أحاول في نشر مجموعاتي الشعرية أن ـوقف زحف اليأس باتجاه زرع الحياة والمقاومة.
    أخاف المسودات لأنني لا أستطيع أن أحتفظ بشيء. أخاف من ضياعها أو فقدانها. وضياعها يعني الكثير، ضياع الذكريات والأصدقاء والمدن وبوح الروح، وهذا الخزين الهائل من الآلام والزلازل والتجارب التي عشتها في حياتي متنقلاً بين الخنادق والكراجات، بين الجثث والكتب، بين الإحتفالات والصفعات، بين الوردة والطعنة. هذا التراكم هو الذي أملى علي سطوري عندما كنت في الداخل، في أتون ذلك الجحيم المضطرب، وعندما وصلت إلى المنفى في ثلوج القطب.. والآن حين أجلس إلى طاولتي أتطلع إلى عناوين تلك الكتب التي حملت شيئاً من حرارة تلك التجربة: "سماء في خوذة"، "غيمة الصمغ"، "مرايا لشعرها الطويل"، "أغنيات على جسر الكوفة"، "العصافير لا تحب الرصاص"... وحين أنظر الى ما احتوته من قصائد أجد أن كثيراً من الموضوعات قد تبدلت فعلاً نتيجة تبدل الحالة والأحوال والسنوات والأماكن والأصدقاء والذائقة والقراءات.. فمن الجحيم المفتوح وازيز الرصاص الى هذا الهدوء السرمدي في جنوب القطب حيث أنظر من نافذة منفاي إلى الثلوج والطيور الوادعة، في سماء بلادٍ لم تمر بها قذيفة مدفعية منذ أكثر من 200 عام ..
    كذلك كان  لتبدل الأماكن ووجوه الأصدقاء والكتب والقراءات والشوارع أثر واضح في طبيعة الكتابة والأسلوب نتيجة لتبدل المواضيع والمشاهد والموضوعات الشعرية.

  • أرى أن معظم قصائد المجموعة الأخرى تعتمد اللقطة المحكمة، حيث الكثافة في التعبير إلى جانب الاقتصاد في اللغة التي تجعل من القصيدة - الومضة حالة فوتوغرافية مشبعة بالحزن والسخرية.. إلى أي حدٍ تتعمد ذلك وتبرره شعرياً ؟ هل هو توجه أصيل وضروري وخاصةً أن نبضنا أصبح سريعاً ومتقطعاً..

  • أعود فأقول من تلك الغزارة تعلمت أهمية الكثافة. ضرورة الكثافة أملتها علي ظروف المنفى بالدرجة الأساس وأن كانت سنوات الحرب قد علمتني الاختصار. فلا وقت بين القنابل لكي تسترسل بالحديث.. لكن للمنفى أيضاً لغته التي لا تسمح لك بالإطناب والبلاغات، إذ كل شيء هنا سريع الزوال، سريع التغيير والانتقال من حال إلى حال فلا بد إذاً من لغة الصورة، لغة تختصر إيقاع العصر. لهذا وجدتني أميل إلى الكثافة والاقتصاد في المفردات فقد مللنا المطولات والشروح. إن صورة صغيرة من أبيات الهايكو لا تتجاوز الأبيات الأربع قد تقول أكثر مما تقوله معلقة وأبلغ مما تجويه المطولات. وقد اتنبه المسرح الحديث والكاميرا السينمائية إلى تلك المسألة فراحت تمنتج لقطاتها لتقول في كادر واحد كل شيء لهذا فالشاعر الجيد هو مخرج جيد يقول كل شيء في بيت شعر واحد .. فإذا كان عنترة بن شداد قد اشتكى في زمانه: "ما ترانا نقول إلا معاداً".. فما الذي يقوله الشاعر الحديث اليوم..

  • ماذا عن ذاكرة المدن والمنافي، خاصة أنك دقيق ووفي في توقيع قصيدتك وتأريخها وتوثيقها.. مثلاً قصيدة "باب" موقعة في 3/7/1999 فندق كوسيا – براغ، أو "نقود لله" 1966 مقهى الكوفي دو باغيه – بيروت. ألا يمكن للأمكنة أن تتنقل معك عبر التخييل والتذكر ككيانات ضرورية للقصيدة ! أم أن الأمر له علاقة بتوثيق النبض ؟!

  • زوال المدن وانفراطها من بين أصابعنا نتيجة هذا التنقل القسري والهجرة من وطن إلى وطن جعلني أتمسك بالمكان وكأنني أريد أن أؤرخ به أشياء كثيرة تنضاف إلى ما تقوله القصيدة.. فالمنافي التي تأبطناها من السودان الى القطب الشمالي ومن بحر بيروت الى بحر  البلطيق ذاكرة حية تحوي الكثير من المشاهد والأرصفة والبشر والأصدقاء والكتب والمفارقات. كان لا بد من توثيقها وكأنك بذلك تؤرشف أحزانك بعد أن طردتك البلاد، مهاجراً عبر الأقانيم لا تحمل سوى جمرة القصيدة وهموم تلك السنوات الثقال على كتفيك.
    في الوطن كنا نؤرخ قصائدنا على سنوات الحروب وشهور القنابل والشهداء ودقائق الشظايا والتي كست المشهد كله بذلك النثار الحي من اللحم والدم. كنا ونحن نؤرشف الخنادق والمعسكرات والأيام المهولة، كأنّا نؤرخ حياتنا المهددة بالزوال في أية لحظة أو قذيفة عابرة.
    اليوم ترانا نؤرخ قصائدنا المنافي، رصيفاً رصيفاً، ومقهى مقهى، كأنا نخشى أيضاً من الضياع في المجهول أو الموت على أرصفة الغربة، بعيداً عن الأهل والوطن..
    حياتنا إذاً، حياتنا الممتدة بين الحروب والمنافي ظلت تتأرجح كبندول ساعة، نرقبها بقلق، وعلى يسارها ويمينها تتناثر حبات الأيام والدقائق. عبثاً نحاول أن نجمعها في أيناء.

  • تقول في قصيدة "العراق" من ديوانك " تأبط منفى":
    "والعراقُ الذي نفتقدْ / نصفُ تارخه أغانٍ وكحلٌ / ونصفٌ طغاةْ". أعتقد أنه أجمل تلخيص للعراق، أقصد الأشدّ وجعاً.. أين يقع العراق الذي تريد وتحلم شعرياً ؟ هل تحمل هذه الصيغة إمكانية القول أن العراق هو هكذا: (غناء.. طغاة)

  • هذه المفارقة المرة والمدهشة معاً، يا صديقي، وسمت تأريخنا الطويل منذ أغاني إينانا وحروب نبو خذ نصر حتى يومنا هذا، بين حروب القادسية وأم المعارك وغناء كاظم الساهر وأنوار عبد الوهاب وفصائد السياب.. وبينهما ظلت حياتنا تتأرجح أيضاً على مدار التاريخ العجيب لهذه الأرض الغرائبية التي ضمت بين رفاتها أشرس الطغاة وأرق المغنين والشعراء والعشاق.
    أدخل – يا صديقي - مقبرة العطيفية مثلاً في أحد أحياء بغداد ستجد قبر الزاهد والمتصوف الكبير الجنيد البغدادي ملتصقاً بقبر شاعر الخمرة والتهتك والعربدة أبي نؤاس. كيف ضمت أرض بغداد الواسعة هذين القبرين جنباً الى جنب في تلك المقبرة المطلة على دجلة، كأنها بذلك تلخص طبيعة هذا التنوع والانفتاح والتناقض العجيب.. ربما كانت هذه إحدى أهم مرتكزات مأساتنا الطويلة، وربما كانت هذه إحدى مفجرات الثورة الإبداعية في ساحة الأدب والفنون، التي لم يشهد مثلها تاريخ الإنسانية حيث نشأت على هذا الأديم المدهش أربع حضارات عالمية إنسانية، غيرت مسار التاريخ. كما وسالت عليه أيضاً أنهار الدم والوحول والإنقلابات. صبغت سماءنا وأرواحنا بنكهة الألم الأزلية ولونت أغانينا بالحزن وقصائدنا بالشجى.
    ذات يوم من أيام مهرجان الشعر العالمي كنت أتمشى تحت نثيث الندى الخفيف في تلك الشوارع الهادئة من روتردام وأنا متجه لإلقاء قصيدتي. جلست أمام طاولة ووضعت العاملة طعاماً. سرحت بعيداً إلى أيام الخنادق وجبهات الرصاص. جاء عصفوران وبدءا ينقران بهدوء من طعامي ويتناغيان ويتعانقان. تركتهما يفعلان ذلك رغم جوعي وبدأت أرقبهما وأنا أسترجع مناقير الشظايا التي كانت تنقر طعامنا وأرواحنا. فجأة أخرجت ورقتي ووجدتني أكتب: "العراق الذي يبتعد كلما اتسعت في المنافي خطاه" إلى آخر القصيدة.
    لا أدري هل أجبتك على السؤال وهل أجابت قصيدتي، فبل هذا على حالتي التي كنت فيها، أنا الذي خرجت من الحرب سهواً، مثقباً بالأحزان. أجلس في هذا الركن البعيد يشاركني هذان العصفوران الآمنان طعامي وأنا أتذكر مقهى حسن عجمي وأصدقائي الشعراء المسكونين بالوجع والمخاوف، الذين تناثروا على خريطة المنافي.

  • أسألك بتحرش، ومن موقع بعيد وغريب، هل تشاركني بأن الطغاة "العراقيين" لهم دورٌ – ريادي – في هذا الدفق الشعري الحزين، ذي الموضوع الواحد.. الخالد، الكاّبة، الحزن، المنفى، الحلم، الحرية... وأنا لا أقصد أن التاريخ الكربلائي بعيد، بل أن الحداثة الشعرية تزامنت مع حداثة العسكر والطغيان.. حداثة أدوات الموت.

  • أعود فأقول ليس للطغاة على مر التاريخ دور سوى ذلك التخريب المرير الذي شهدته أرضنا على مدار تاريخها وذلك الوجع الذي وسم أرواحنا إلى الأبد. وليس الإبداع سوى مقاومة الموت والخراب بوسائله الشتى. واشتداد الطغيان زاد هذه المقاومة ونوع أساليب التحدي فارتفع منسوب الأنين في نواعير الأغنية العراقية، مثلما تلون الشجى والحنين في نايات القصائد. فالترابط ليس ترابطاً ابداعياً وفنياً وإنما هو انعكاس لحالة. وفي الآداب والثقافات العالمية حدث مثل هذا وحين تقرأ روايات اريك ماريا ريمارك في "ليلة لشبونه" و"للحب وقت وللموت وقت" سترى ذلك الإنعكاس جلياً مثلما تقرأ العديد من أعمال لوركا وماركيز وايلوار والجواهري ودستوفسكي والماغوط والسياب والخ..
    ومثلما يفتش الطغاة عن وسائل أكثر تدميراً يبحث المبدع عن لغة أكثر تغبيراً وتحدية وتحديثاً، لغة مشحونة بالدلالات والدهشة والألم. ومن هنا تفترع الكتابة إلى طريقين: السقوط في المباشرة والخطابية. أو الإرتقاء والبحث عن أعظم الأساليب الفنية. وأذكر أن ماركيز كان يرى أنه لكي يشتم دكتاتور بلده كان يفكر في انتقاء أعظم الأساليب الأدبية في العالم كما يقول.
    اللغة الخطابية فخ كبير سقط فيه الكثير من شعراء الشعارات والمناسبات.

  • المنافي المترامية.. هل تستطيع تصنيع شاعر؟ لأننا لا نرى من العراقيين إلا الشاعر والروائي و... المبدع / نزوحٌ إبداعي/ كيف تقرأ سوية الإبداع المتكئ على القمع والمنفى دون شرارة الخلق الأولى... أقصد هنا ركام الإدعاء والاستسهال الحاصل.

  • لا المنافي والتشرد ولا المعارضة قادرة أن تصنع شاعراً. ولا السلطة وأبواقها وأضواءها ولا مؤسساتها قادرة أيضاً أن تصنع شاعر أو فناناً مبدعاً. وهذه هي واحدة من أولى بديهيات المعرفة الإبداعية. وما ترى من الإرتباكات في المشهد الشعري في العراق وفي غيره من البلدان أنما هو جزء من ارباكات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي سواء داخل الوطن حيث تتسيد بعض الأصوات، اعلامياً ولا أقول ابداعياً نتيجة للدعم السلطوي لها لكنها سرعان ما تنطفئ. أو سواءً خارج الوطن حيث ترى العشرات من الطفيليين يمسكون ميكريفونات المعارضة والنضال وهم يتصورون أن ما يتشدقون به من الكلام الثوري هو إبداع خالص. دون ينتبعوا أو يجرأ ناقد ليقول لهم أن نصوصكم هذه هي شعارات سياسية وطنية، هذا صحيح ومفهوم ومطلوب أحياناً، لكنها ليس إبداعاً وهذا الخلط أضاع الكثير من الأدباء في الوهم والتوهم.

  • أين تقع تجربة عدنان الصائغ من هذا الزحام والضجيج الشعري العراقي الآن ؟

  • لقد فتحت عيني على ضجيج صاخب في الداخل وأفتحها الآن على هذا الضجيج نفسه في الخارج وأن اختلفت أشكاله وأهدافه وأسماؤه نتيجة لتبدل الأدوار. هذا الصخب العشائري ولا أقول الإبداعي، هنا أو هناك، سببه عاملان.
    أولاً: تشجيع الأنظمة أو أحزاب المعارضة على رعاية شعرائها لوحدهم ونفخهم كالبالونات وتفخيمهم بكل مناسبة.
    ثانياً: الاستسهال نتيجة التوهم بأسم الحداثة وتفكك ضوابط العمل الإبداعي والشعري بشكل خاص بعد شيوع قصيدة النثر حيث يرى الكثيرون من ضعفاء المواهب أنهم قادرون على كتابته، حتى وهم يكتبون رسائل استرحام لحبيباتهم أو لحكوماتهم أو يخطون شعاراتهم ضد أنظمتهم أو أعدائهم. وقصيدة النثر ليست هكذا بل هي أكثر صعوبة مما يدركون أو يتوهمون.
    أنني أقول: أن كتابة قصيدة نثر ناجحة أصعب من كتابة قصائد التفعيلة أو القصيدة العمودية في أحيان كثيرةً. أقول ذلك، وقد جربت الإيقاعات الثلاثة كلها: العمودي والحر والنثر، فوجدت أن النثر أكثر إحراجاً وحساسية، أنا خريج مدارس الشعر النجفية المعروفة بصرامة عروضها الخليلة وشعرائها المعممين والمعجونين بالشكل الكلاسيكي حتى الهوس. عشت معهم وجربت الكتابة العمودية في بداياتتي مع ندوة الأدب المعاصر في منتصف السبعينات (ولم أنشر شيئاً) ثم ملت الى القصيدة الحرة بعد أن ضقت بأوزان الخليل، فمالت وانعطفت بي بتلقائية الى قصيدة النثر. من هذه التجربة والمعرفة أتحدث عن مدى صرامة وحساسية قصيدة النثر التي لا يعرفها الكثيرون من ركاب الموجة... الذين لا يلتفتون الى هذه المعايير المهمة متوهمين أن رصف الكلمات مع بعضها بمجانية يتمخض عنه شكل قصيدة النثر. وزج كلمات مثل: حوذي وقبعة وطيلسان وطلاسم وهيولى سيمنحها الحداثة الجديدة. أن عكازة يمكنها أن تقودهم إلى أقصى ما يحلمون به من التطرف دون يفهموا الأرضية التي سار عليها رامبو ومن أين جاء والى أين وصل. أنهم يقرأون القصائد المترجمة ويحشونها بعض مفرداتها ومناخاتها في نصوصهم دون أن يرف لم جفن أو دون أن يلتفتوا لما حولهم. ذلك العجز في أدواتهم ومواهبهم قادهم إلى هذا التخبط وأفرأ معي الكثير من النصوص الجديدة ترى الأمر واضحاً , طبعاً أنا أستثني من ذلك ويعرف القاريء النبيه، بعض التجارب الحقيقية المبدعة في العراق وفي الوطن العربي التي تبحث بشكل حقيقي عن التفرد والتجريب والمغايرة.
    هذا الضجيج العام قادني الى البحث عن خطواتي الخاصة في خضم الأصوات المتشابهة والمتشابكة. في البداية أعترض علي حتى بعض أصدقائي من جيلي وقد استهوتهم الضجة الحداثوية، وها هو بعضهم يعود الآن بطبوله الخاسرة المثقوبة الى تلك الخطوات الأولى ليقتفي أثرها، أو ليبحث عن طريقه الخاص، لكن بعد أن فقد الكثير، وبعد أن أدرك أن عكاز رامبو أوصل رامبو إلى أرض عدن والحبشة وإلى دهشة الشعر والاكتشاف، لكن هذا العكاز المستعار سوف لن يصوله الى شيء. طبعاً وكما قلت هناك أصوات حقيقية في خضم هذا كتبت باخلاص مع تجربتها وأشير بشكر خاص الى تجربة طالب عبد العزيز، عبد الرزاق الربيعي، محمد مظلوم، باسم المرعبي، دنيا ميخائيل تحديداً دون أن أنسى أو أغفل عشرات من الأصوات المبدعة هنا أو هناك، وأن اختلفت أساليبهم في الرؤيا والأسلوب واختلفت معهم لكنهم ينتمون الى الهم الحقيقي هم الشعر والبحث والمغايرة وأنا بين هذا الخلط الجميل أجدني قريباً منهم جميعاً لكن لي خطوتي وحدي، كما أنا قريباً من السياب وأدونيس والماغوط وسعدي يوسف وأنسي الحاج والبياتي لكني بعيد عنهم أيضاً. أين أنا لا أدري بالتحديد لكن أهمية الشاعر أن تكون له بصمات واضحة لا تشبه أحداً وهذا ما أحاوله بعد أن تشابهت قصائد الشعراء هذه الأيام الى حد الاستنساخ.

  • المبدعون العرب افتقدوا الحوار واللقاء المنتج رغم أن المنافي المشتركة في الداخل والخارج يجب أن تقرّبنا. بعيداً عن الجغرافيات.. هل هي الهموم المتنافرة ؟ أم أنها مسألة تتعلق بالسوية وسمت الرؤيا؟ أرى أن هناك متاهة أو مرضٌ مزمنٌ لم يشخص بعد... ما تعليقك ؟

  • هذه محنة حقيقية أخذت وأكلت منا الكثير فأنت لا تجلس مع أحدهم إلا ويريدك أن تكون طبقاً له في كل شيء ابتداءً من فهمه لطروحات جاك دريدا وحتى كمية الملح في صحن شوربته الصباحية. وتقول له أن ديوانك كله رائع وجميل ولكن عندي ملاحظة صغيرة على سطر واحد فيتجهم وجهه ويحتد ويزبد ويرعد، فيكشر لك عن فكين يفترسانك دفعة واحدة وكانا قبل رأيك هذا يبتسمان لك بمناسبة أو بدونها.
    نحن نفتقد الى مفهوم الحوار. ندخل في مناقشة حتى لو كانت عن قصيدة النثر وليست مناقشة سياسية، فتكتشف أنك في ساحة معركة وأن القصف العشوائي بات وشيكاً فتطوي أوراقك وعربتك وترحل.
    ذات مرة دُعيت الى مهرجان شعري في النروج ِ أقامه دار السنونو واليونسكو. قادني الأصدقاء الشعراء الى ساحة كبيرة لفت انتباهي فيها وجود أربع بنايات متقابلة ومتناسقة تطل على جهات الساحة الأربع. قلت لمن هذه البنايات؟ قالوا: لكل حزب من أحزاب النرويج الرئيسة بناية. صفنتُ كثيراً، وحسبت، وضربت، وقسمتُ، ثم التفتت الى محدثي متسائلاً: ولكن أين الأسلاك الشائكة والدبابات والحرس. فقهقه صاحبي وقد أدرك مغزى ما ذهبت اليه أنا القادم من بلاد الواق واق. وزيادة في المفارقة أضاف محدثي: ومسؤولو الأحزاب والأعضاء يجتمعون معاً ويتناقشون على مائدة الطعام أو القهوة في اكثر المواضيع حساسية واحتداماً ثم يودع أحدهم الآخر بابتسامة عريضة وتحية مودة واحترام.
    ان معارك داحس والغبراء التي حملناها معنا في موروثنا وفي نقاشاتنا اليومية أفقدتنا طعم الحوار ولذته ونكهته وثراءه وثراء الاختلاف الفكري. كم نحن - أدباء الداخل أو الخارج - بحاجة إلى الحوار، حول قضايانا المصيرية، قضايا الوطن والقصيدة والروح والعصر والطبيعة والنقد، لنثري حياتنا بكل ما هو حيوي وبهيج. يقول غاندي: "أنا لا أخاف أن أترك نوافذ بيتي مفتوحة للرياح الأربع". ولماذا الخوف ما دمت واثقاً من نفسك ونصك من أن لا يقلعك أو تهزهزك ريح عابرة أو رأي أو محاورة أو إختلاف. نحن اليوم أكثر حاجة الى فتح نوافذنا جميعاً ليخرج الهواء الفاسد المكدس في رئاتنا، ولنستمع الى الآخر وإلى موسيقى الريح وخفيف الأشجار وهدير الأمواج. ولنطور أنفسنا وأدواتنا، فالحاجة إلى الحوار تتساوى لدى الجميع كما تتساوى حاجاتهم إلى الخبز والهواء سواء كانوا في الداخل أو الخارج.

  • كيف، باعتقادك، نستطيع الخروج من صنمية الموضوعات الشعرية والإبداعية عموماً الموسومة بالحداثوية الآن "..." ؟، كل شيءٍ مكرور وأن اختلفت الصياغة. نفس الكوارث والهواجس ؟

  • المغامرون الأوائل الذين اقتحموا قلاع القصيدة الكلاسيكية الممتدة على مساحة آلاف السنين والنصوص، وأسسوا حداثتهم الجديدة للقصيدة وفتحوا أبوابها لتجارب وإضافات من سيأتون بعدهم. غير أن البعض سرعان ما حول هذه الحداثة المغايرة الى قلاع ثابتة من جديد وتحصنوا داخلها لا يسمحون بأي تغيير. وهكذا دخلت الحداثة الجديدة أو قصيدة النثر في نمطية وتكرار أكثر مما دخلته القصيدة العمودية وغرقت أو اختنقت تحت هذا الركام. هذه النمطية هي اقرب الى أستنساخ مفردات دون رعشة أو دم أو احساس، مفردات تستطيع أن تحصيها بسهولة وتعيدها الى جذورها وقاموسها, وهي تشكل أو تهندس أحياناً لغواً لغوياً لا تستطيع أن تصل منه الى رؤية جمالية أو أي شيء.
    أنهم يتصورون أن الحداثة هي كسر عمود الشعر فقط، دون تقديم البديل الأجمل. ويتوهمون أن أي كلام نثري عادي غير موزون هو قصيدة نثر بامتياز. وهكذا تجد صحفنا ومجلاتنا ومنتدياتنا الثقافية تضج بهذا الهراء حتى تكدست أشناته وطحالبه وراحت تسد مجرى نهر الشعر العربي الهادر منذ آلاف السنين، وتخنق أسماكه وقواقعه الملونة وكنوزه المدهشة.
    وما هذه الدعاوى التي نسمعها اليوم بأسم الحداثة إلا كليشات جاهزة تقترب أحياناً من الكلاسيكية التي ثاروا عليها بحجة أنها لم تعد تلائم ايقاع العصر .. تعال خذ الآن بعض قصائد النثر وقل لي أي عصر وأي رؤى تدعو لها بل واي حداثة ثارت من أجلها. لقد تحولت قصيدة النثر لدى الكثيرين الى صنم جديد وقوالب جاهزة لا يستطيعون الخروج منها وهذا لا ينطبق على فن الشعر وحده بل ويشمل الفنون الأخرى كالفنون التشكيلية والقصة والمسرح والموسيقى وغيرها.
    ما معنى أن تكسر صنماً لتبني صنماً آخر.
    المبدع الكبير هو هدام الأصنام جميعاً والمبتكر دائماً للحديد والمدهش دون أن يخضع نفسه وأفكاره الى نمطية تحبس حواسه وتطلعاته وأنفاسه.
    المغامرون الأوائل تركوا الباب مفتوحاً على مصراعيه للجميع: مبدعين وأدعياء. المبدعون واصلوا المسيرة والبحث وراحوا يجترحون طرقاً أخرى وممالك جديدة.. والأدعياء أكتفوا بغنائم الساحة واغرقوها بالادعاءات والتنظيرات الحداثوية وهم لا يعرفون معنى الحداثة أصلاً. وليست المسألة باعتقادي تتعلق بهذا القطر أو ذاك أو بهذا المبدع أو الحزب أو الشاعر أو الصحفي أو البقال أنه مناخ عام نتنفسه جميعاً وعلينا أن نفتح نوافذ للجديد والمختلف الحقيقين. وإلا فأن السنوات تمر والمدارس الفتية تأتي وتمضي ونحن متربعون في خاناتنا نجتر الفراغ.

  • لكن..
    القصيدة الطازجة الغير ملوثة من خلال سقوطها في التشابه، أين وكيف يتم التقاطها والعثور عليها، رغم أن الخيالات متخثرة ومستغرقة في العنوسة؟

  • ليس صعباً ذلك فمهما علا الضجيج والدخان والطبول لا بد أن ينجلي كل ذلك الغبار العابر لتسطع الحياة بهائها الآسر والإبداع الحقيقي بدهشته الأخاذة والشمس بجمالها المبتكر. لهذا فأن النصوص الجميلة والأسماء المبدعة التي غيبت في حقبة ما لأسباب فنية أو سياسية أو اجتماعية، لابد وأن تعود لتسود وتسطع من جديد. ألم يقولوا عن رائعة جيمس جويس أنها أدب مراحيض وعادوا ليضعوها في مصاف روائع القرن العشرين. وبدر شاكر السياب الذي حاربه البعض وطردته العقلية الحزبية الضيقة عادوا ليتمسحوا على أعتاب قصائده. والأمثلة كثيرة، ذلك أن لا أحد يستطيع حجب شمس الإبداع أو شمس الحياة عن الساحة لأنهما أسطع وأقوى وأكثر حقيقة وجمالاً.


    صحيفة "تشرين" 10/8/2002 - دمشق

     
    البحث Google Custom Search