أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ، الشاعر الذي تأبط منفاه

حاوره: محمد نجيم
- المغرب -

على وجهه ابتسامة صحيحة لا تفارقهُ، توحي بالفرح والتفاؤل من طرف، ومن طرف خفي تشي بألم غامض، كلماته تنساب بهدوء مثل سلسبيل عذب، عبقة بروائح الأفكار والتأملات وخضرة الأشجار. عدنان الصائغ، أسم شعري حفر بصماته في الذاكرة الشعرية العربية على مدى العقدين الماضيين. صدر له حتى الآن عشر مجموعات شعرية، إلى جانب كتابات نثرية وسيرة متناثرة في الصحف. أُجريتْ معه كثير من الحوارات خلال مسيرته الشعرية، ذلك ما يجعل الحفر في أرضه بحثاً عن الجديد والطريف مجازفة بكل معنى الكلمة.. لذلك تركتُ الأفكار والأسئلة تطرح نفسها مدعية لنفسها البراءة قدر الإمكان، براءة الشعر..!

  • النجف، الكوفة، حواضر ثقافية بارزة لها جذورها وتفرعاتها الممتدة بين التأريخ والعصر، وقد قدّمت الكثير من الأدباء والعلماء الذين قدّموا مآثر خالدة. ما هي تفاعلات هذه البيئة في ذات الشاعر، عدنان الصائغ؟

  • - في هذه البقعة المفعمة بعبق التاريخ والشعر والنارنج والمحتدمة بصراعات المدارس الأدبية والفكرية والطوائف وتتغرغر بالمواويل، ولدت وترعرعت في بيت صغير يتكئ على نهر الفرات. هكذا توطدت علاقتي بنهر الكوفة منذ الطفولة وفتق في روحي ذلك التموج الآسر والإيقاع السمفوني المتدرج في مواسم "الصيهود" و"الخنياب". كما ان هذا الميراث الهائل من الأحداث والفواجع الذي يعج بها تأريخ المدينة وهذا الصراع الطويل ضد الظلم والاستلاب هو الذي زرع في روحي جذوة التمرد والرفض.
    وعلى هذه الأرض أيضاً ولد الكسائي ومدرسة الكوفة اللغوية، وكذلك مدارس الفقه والاجتهاد ومرت على أديمها ثورات الزنج والتوابين وأهازيج ثورة العشرين، مروراً بانتفاضة آذار. وشهدت فيوضات محمد بن عبد الجبار النفري في مواقفه ومخاطباته وتمردات أبي الطيب المتنبي الذي كان يردد:
    " شيمُ الليالي أن تشكك ناقتي     صدري بها أفضى أم البيداء" وصولاً إلى أبي فرات الجواهري وهو يموت بعيداً عن الفرات، حتى شعراء الثمانينات والتسعينات.
    هذا السفر العجائبي الذي وجدتُ نفسي بين دفتيه، فتح عيني على كنوز من فصول الأدب والحياة والثورة واختصر لي الكثير وعلمني الكثير.
    والآن، وأنا في شمال الأرض أو أينما أكون، ما أن أغفو على الوسادة حتى تتسلل إليّ تلك النايات الآسرة عبر شقوق روحي ونوافذي وحين أستيقظ أجد على وسادتي آلافاً من الأصداف والدموع المالحة والأوراق.

  • تسود أو تغلب على هذه البيئة الظاهرة الدينية والتربية المحافظة إلى حد التزمت والتلقين منذ الصغر، كيف تتمثل صورة العلاقة بين المحددات الاجتماعية والدينية وروح الشعر المحلقة بحثا عن فضاءات الحرية والتجاوز؟

  • - أدركت منذ البدايات وأنا أمام هذا الركام الهائل من الموروث والكتب التراثية المصفرة والأدبية والدينية التي تضج بها مكتبات الكوفة والنجف ومدارسها ومقاهيها ودواوينها، وبعد أن غرفت منها ما غرفت زمنا طويلاً. أدركتٌ أني أحتاج للخروج من أسر هذا النوع الأدبي والفكري الواحد نحو فضاءات الإبداع المفتوحة.
    لقد تيقنت وآمنت أن الصراع (صراع القصيدة العمودية والنثرية وغيرها من الصراعات ) انتهى لصالح الحرية والشكل الجديد والمغامرة والتجديد في أساليب التعبير فلم يعد الوزن والشكل مشكلة. لكن البعض – وكنت كثير ما أرى ذلك في مقاهي النجف ونواديها الأدبية - يحلو له اجترار هذا الصراع الذي تجاوزته التجارب الشعرية منذ منتصف القرن. ورأيت أن بعض الشعراء انتهى من كل  ذلك الصراعات بالإطار الشكلي للقصيدة فقط دون أن يتجاوزه إلى المضمون أو بالعكس. فتوصلت إلى أن الكثير من تلك الأحاديث والنقاشات هي مضيعة للوقت. وأن علينا أن نتحدث عن حداثة المضمون بعد أن نتحرر من سلفية الشكل وعن حداثة الشكل بعد أن نتجاوز سلفية  المضمون، لكي نتوغل في روح الشعر وجوهره وفي هموم الإنسان المعاصر وقضاياه الإنسانية والكونية.

  • هل أنت من عائلة أدبية، كيف اكتشفتَ الشعر أو اكتشفكَ ؟

  • - عشت بلا طفولة وأنا أفتح عيوني على الفقر والانكسار, حين وجدت أبي راقداً في مستشفى الكوفة مصاباً بالسل حتى وفاته مبكراً. لم يعلمني أبي سوى الصبر والكبرياء. كان رجلاً أمياً لم يستطع أن يتعلم كيف يكتب أسمه لكنه حفر أسمه عميقاً في جذوع نخيل روحي وذاكرة الأقرباء والناس. لم يكن يعرف الحساب ولهذا تناهبه الأصدقاء والديون. أما أمي فقد تعلمت القراءة والكتابة بنفسها وحفظت القرآن عن ظهر قلب. أول قصيدة كتبتها كانت عن مرض والدي وقد وقعت صدفة بين يديها وأحسست بدموعها تنسال من مآقيها. كانت تلك هي الشهادة الأولى التي رسمت لي بداية الطريق. بدأت بالكتابة منذ سن العاشرة أو الحادية عشر. ووجدت نفسي ألتهم رفوف المكتبة العامة في الكوفة ومكتبة الحكيم والسباك بشغف وانهماك لا يتناسب مع سني. كنت أحس أن النص هو الوجود وأن الكتب هي أعظم أصدقائي. ثم وجدت نفسي في بيت خالي الشاعر والناقد د. عبد الإله الصائغ أنهل من مكتبته الضخمة وأحاديثه الأدبية وجلسات أصدقائه، حيث عشت قي بيته لفترة..
    لم أستطع أن أمارس في حياتي أي مهنة غير الكتابة. فشلتُ في كل شيء, ورغم ذلك ففي صباي وشبابي ونتيجة لحاجة العائلة الماسة لم أترك مهنة لم أشتغلها: ندافاً وبنّاءً وعامل مقهى وبائع رقي وسجائر وطماطم وآيسكريم. وفيما بعد عملت لسنوات طويلة ومضنية في الصحافة. ورغم حبي لها كنت أطمح وأحلم أن أستيقظ ذات صباح فلا أجد على طاولتي ما أشتغل عليه سوى نصي الشعري.

  • كل بداية محكومة بالمحاكاة والتقليد والتأثر.. هل تشي بتلك البدايات؟

  • - الكاتب الذي لا يتأثر بأحد يشبه الحجر الثابت الذي لا يكبر ولا يصغر ولا يُصقل ولا يتغير. لذلك أرى من الطبيعي أن كل ما يمر بالشاعر من نصوص وأحداث وقراءات وأشخاص سوف يترك على سطح حياته أثراً أو خدشاً. وستجد الكثير من ذلك بين طيّات نصوصي.

  • محمد مهدي الجواهري، شاعر العرب الأكبر انحدر من النجف إلى بغداد، ومن بغداد إلى بلاد الدنيا، في مسيرة متواصلة من التألق والتجدد! هل تحسُّ بآصرة من نوع ما مع روح الشاعر، وأنت سلكت نفس الطريق نحو بغداد ثم إلى العالم الأوسع غير المحدود بالجغرافيا ؟

  • - رحلة الشاعر هي تجديد مستمر لخبرات الشاعر الحسية والمعرفية، وثراء في صوره وتجاربه. ومن هنا نجد أن هذا الرحيل يكسب الشاعر - بالإضافة إلى تجاربه القديمة - حيوية دائمة في كتاباته، وروحاً مغامرة متوهجة. وهي الآصرة الحالمة التي ربطتني به بالإضافة الى الأواصر الأخرى.
    وكأن بيت المتنبي العظيم :
    " على قلقٍ كأن الريح تحتي    أوجهها جنوبا أو شمالاً"
    يتغلغل في روحي وأحس بكلماته كأنها أجنحة تحملني وتحلّق بي إلى أصقاع الأرض..
    فمن تحت جسر الكوفة حيث كنت أجلس في صباي لساعات طويلة مع المتنبي والجواهري والسياب وغيرهم، محدقاً بمياه النهر وهي تنحدر جنوباً. كنت أتتبع الأمواج والقوارب والنوارس البيض وكأني أجوب معها ذلك السديم الأزرق إلى آخر الأرض أو آخر التجربة.
    بعد سنوات طويلة حين وقفت على شواطئ عدن  وبحر البلطيق راحت عيناي تتلفتان جنوباً أو شمالاً بحثاً عما تبقى من تلك الأحلام وذكريات الصبا والأزقة.. ها أنا أمشي في شوارع المدن الباردة روحي تحلق فوق سطوح مديني البعيدة الحزينة, في ليلها الكابي, تهدهد جراحات من ظلوا هناك يعلكون الأغاني والخبز اليابس ويتسقطون أخبارنا، فلا أملك إلا تلك الغصة وأنا أردد مع الشاعر الضليل أمرئ القيس:
    " لقد طوفت في الآفاق حتى   رضيتُ من الغنيمة بالإياب"

  • عشر مجاميع شعرية في أقل من عشرين سنة، معدل كتاب كل عامين، هل أنت مفرط في الكتابة ؟

  • - هذا وأضيف: هناك الكثير مما ضاع مني من نصوص في الحرب وأثناء تنقلاتي بين الجبهات والثكنات وفيما بعد سأفقد الكثير أثناء تنقلاتي في شتات المنافي. أذكر منها على سبيل المثال وبألم، قصيدة طويلة بدأت كتابتها في الثمانينات، أسميتها " أوراق مفقودة من ملف ميثم التمار" لكنها فُقدتْ مني قبل إكمالها. وأعود إلى سؤالك فأقول: الكتابة عندي أجمل مهنة في العالم وأقساها. الكتابة كالينبوع لا يعرف أحد متى ينفجر وإلى متى سيبقى, ولا تملك الطبيعة أن توقف تدفقه. فماذا تفعل أصابعي لهذه الينابيع التي أراها تتدفق من جسد الأرض المفتوق وعذابات البشرية وأحلامها, لذا تحاول الكتابة أن تضمد بعض هذه الجراحات.. حيث تستحيل كل قطرة دم إلى حبر.
    الحياة قصيرة يا صديقي كما يقال والكتابة شاسعة وواسعة فماذا أفعل؟ وأمامي هذا الزخم الشعري الذي يحتاج إلى أعمار وأعمار,, لقد تركت نهر الحروف يتفجر في أعماقي وينسال على الورق دون أن أضع أمامه السدود.. باستثناء ما أراه ضرورياً من تعديل أو حذف أو تكثيف. كما عملي الأدبي لا ينتهي, وقت الكتابة عندي غير مرتبط بوقت أو زمن محدد. فحين تنفتح شهيتي على الكتابة لا أتوقف ولا أخاف من التخمة, وذلك لأنني طول تلك الفترة أمارس رياضة القراءة والتأمل.. وبذلك لا أشكو من السمنة، ولن أحس بتشحم أوراقي. ويبقى الزمن هو الغربال الحقيقي لكل النصوص.

  • كيف توازن بين الكم والنوع في ظل ذلك ؟

  • - لستُ راضياً فنياً عن قصائدي الأولى لكن عملية إعادة صياغتها عملية مستحيلة تبعاً لتغيرات مناخات الشاعر وثقافاته وأماكنه. إن الحل الأفضل باعتقادي هو تجاوزها لكتابة شيء جديد. فالحياة في تغير والأشكال الفنية في تغير تبعاً لها أو لشيء آخر.
    وتكمن قوة الشاعر في استيعابه لعصره وللمفاهيم والمؤثرات الخارجية والتراث الفكري والأحاسيس الداخلية. وهذا كله يعطيه دفقاً حاراً وقوة ولا بد أن تكون للشاعر موهبته الحقيقية وثقافته وأحاسيسه، وإلا تحول إلى قاموس معرفة أو تحولت معارفه إلى سقط كتابي يقترب من الشعر لكنه ليس شعراً. وفي هذا الإدراك المهم لوظيفة الشعر تتجلى قدرة الشاعر على التفريق بين الكم المعرفي والنوع الفني، والإنحياز إلى الأخير.

  • هل ينبغي على الشعر أن يقدم جديداً كل مرة، أم يكفيه أن يتمثل عصره ؟

  • - ما قيمة ما يقدمه اذا لم يكن جديدا فالإبداع هو تاريخ التجاوز وليس الثبات والتكلس. ولأن الشعر يمثل جوهر الفن كما يرى هيغل لذا لابد أن ينطوي على تعميق المضمون الروحي للإنسان بما يفتق من أسئلة وجودية وجمالية.

  • المتتبع لشعرك، يجدك معلقاً بين شجرتين حسب تعبير أحد الشعراء المغاربة، المرأة والذات، من هو الأول والأقدم والأكثر أثراً أو أسبقية لدى عدنان الصائغ الشاعر والإنسان ؟

  • - في مرآة الذات أجد المرأة واقفة بامتشاق أخّاذ تتأمل ملامحها السومرية. وفي مرآة المرأة أجد ذاتي تتكاثف وتتقاطر سحباً لازوردية من الأحلام, وبينهما أمتد أنا جسراً من كلمات ومرايا, وحقولاً لا تنتهي من حب وياسمين.. وحين أصدرتُ ديواني الأول "انتظريني تحت نصب الحرية" كنتُ كأني أربط المرأة التي أحب وأحلم بالحرية التي أحلم بها وأقاوم.. وهذا التداخل, بين المرأة والذات في شعري وحياتي، هو تداخل كياني ووجودي يكمل أحدهما الآخر, ينصهر في ثناياه ويتشكل به ومعه عالماً ساحراً ما زلتُ أهيم في سديمه الأزرق. هذا الهيمان لم يتركني أفكر مَنْ هو الأول والأقدم والأكثر أثراً, لأنني أرى أن الذات والمرأة شيء واحد في تصوري الشعري والإنساني.

  • هل وصفك أحداً بالنرجسية من قبل .. ماذا تقول في ذلك !؟

  • - لا أظن أنني سمعت هذه الكلمة من قبل رغم كثرة النعوت والتوصيفات التي سمعتها طيلة تأريخي الشعري من مدح وقدح. أنني أشعر على الدوام أنني لم أصل إلى ما أطمح إليه، ولم أكتب النص الذي أحلم به وهذا هاجسي المستمر. لهذا لم يخطر على بالي يوما أن أستكين أو أهدأ أو أشعر بالرضا فما بالك بالغرور أو النرجسية.
    هناك عبارة قديمة على معبد دلفي عبارة، تقول: " اعرفْ نفسَكَ "..
    فما أجمل أن يعرف الإنسان نفسه قبل سعيه لمعرفة العالم. وحين يتمكن من ذلك تختفي من قاموس حياته كل مترادفات النرجسية مهما حقق ويحقق من إنجازات.

  • هناك فارق، بين من يدور حول نفسه في كل ما يكتب أو ينسى نفسه ويسعى نحو الآخر!؟

  • - المسيرة الإبداعية ليست عملاً فردياً، أنها تواصل وتتابع لحلقات المعرفة التي تبدأ من المبدع وتنتهي عند المتلقي، مروراً بعشرات القنوات والمحطات.
    ليست هي ازدواجية أبداً أن أقول أن الكاتب يحمل شخصيات متعددة في داخله. وعليه فأن المبدع يحمل في داخله هذا الإرث الإنساني والثقافات والمعاناة الروحية والوجودية لدى الآخر وهضمها وتمثلها لكن دون أن يفقد تفرده وخصوصيته.
    المهم هو أن يكون لك صوتك الخاص بين الأصوات المحتشدة، صوتك الذي يمثلك أنت ونجد عليه بصماتك ويعرفك القراء من خلاله.

  • ظاهرة المرأة في الشعر العربي ما تزال لدى الكثيرين ألصق بالشعر والتصوّر منها بالواقع.. في أي جانب ترقد امرأة الصائغ الشعرية ؟

  • - لا أريد إنزال المرأة إلى الواقع, بل أشتهيها كوكباً يلمع في حلكات ليالينا، وأتأملها غابة تملؤها الطيور والينابيع والأزهار..
    أريد أن أهرب بامرأتي إلى فراديس الحلم التي أنزلنا الله منها في لحظة سهو..  وأترك هذا الواقع وتفسيراته وحساباته للصيارفة والسياسيين وعلماء الاجتماع.

  • ما الذي ساعد في تأصيل قصيدة الثمانينات والتسعينات إلى جانب الظواهر الشعرية والثقافية الأسبق منها تاريخياً؟

  • - قصيدة الثمانينات والتسعينات برأيي وليدة مخاض صعب من التجارب والمعارف والتحولات, بالإضافة إلى استفادتها من التجارب التي سبقتها عراقياً وعربياً وعالمياً, فانصهر كل ذلك في بوتقتها على أرضية أكثر اشتعالاً وتفجراً.. كل هذا فجر في القصيدة الثمانينية – التسعينية براكين ورؤى لم تشهدها الأجيال التي سبقتها، وقد تأصلت بهذه العوامل وتطورت ونمت.. أي أن تأصيلها جاء من داخلها وليس من عوامل خارجية أو توصيات نقدية أو حزبية أو سلطوية, وهذا برأيي هو أهم عوامل تمايزها عما سبقها من جانب وعما يحاذيها من التجارب العربية الأخرى من جانب آخر..    

  • ظاهرة الحرب والمنفى واضحة في شعرك كثيراً، كجزء من قصيدة الثمانينات والتسعينات، أعطت القصيدة العربية زخماً نحو الأمام.. أم أن الشاعر هو الذي استطاع استثمار ذلك وتوظيفه للمصلحة الشعرية، بينما لم تتقدم القصة والرواية العربية بهذا الاتجاه ؟

  • - كم هي قاسية وشرسة تلك المخاضات التي عشتها وعاشها جيلنا في سنوات الحرب وفي شتات المنافي فيما بعد حين وضعت الحرب أوزارها أو كادت.. كل هذا رسم بصماته، واضحة ومؤثرة على نتاج جيلنا والجيل الجديد, وفتحت أمامه طرقاً بكراَ وأساليب للتعبير أطاحت بكل زخارف الكلام المنمق والأشكال الهندسية المحسوبة ذهنياً وغير ذلك..
    وحين تقرأ نتاجنا ستجد فيها شراسة الحرب, فليس سهلاً أن تعيش نصف عمرك في بطون الخنادق وبين الرصاص والفئران..
    وليس سهلاً أن تنتقل بما تبقى لك من إرث مخرب وخسارات إلى المنافي لتأسس بيتك ونصك ووطنك..
    هذه الثيمات التي أكتنز بها نصي ونصوص أصدقائي, كانت قاسية جداً بالنسبة لنا على صعيد الحياة والكتابة. لكنها من جانب ساهمت في الانعطاف بالشعرية نحو تخوم جديدة, وأثرت في واقع الشعر العربي والشعر العراقي بشكل خاص..  

  • شخصياً اعتقد أن حالة الحرب والنفي لم تنحصر في حدود العراق، وانما اصبحت محور الشعرية العربية في عقديها الأخيرين ؟!

  • - في إحدى الدراسات السويسرية التي نشرت مؤخراً ، تقول: " أن العالم وخلال تاريخه منذ خمسة آلاف سنة وحتى الآن لم يشهد إلا 292 سنة منها فقط بدون حروب" وتأمل معي هذه الأمواج المتلاطمة من الجثث وأنهار الدم التي سفكها الإنسان لا لشيء إلا لتثبيت عرشه أو مكانته أو لتكريس معتقده الديني أو الطائفي أو العرقي أو اغتصاب أرض أو حق أو مال.. وكان يمكنه بالحب والسلام أن يصنع المعجزات ويحصل على أكثر مما كان يطمح لكنه منطق غباء القوة..
    وعلى أثر هذا نزح الملايين منذ بدء التأريخ أيضاً نحو بلدان أخرى بحثاً عن الحرية والأمان والخبز.. وقد فرش هذان الأمران المريران ظلالهما الكالحة على مساحة الشعر والفكر والحياة..
    غير أنك تجد تفاوتاً مرعباً، بين بلدٍ أقول فيه:
    "تلفتُ كانت سماء العراق
    مثقبة بالشظايا
    وكانت تنزُّ دماً أسوداً.. "
    هو بلدي العراق، مربع صباي وشبابي الذي غادرته عام 1993 إلى بلاد الغربة..
    وبين بلدٍ لم تمر بسمائه قذيفة مدفع منذ أكثر من 200 عام هو السويد حيث أقيم الآن.
    ومن هنا تجد أن هذا التفاوت يرسم شكل وعمق الوجع والخراب من حالة إلى حالة ومن بلد إلى آخر.. وبما أن بلدي عاش حرباً تجر حرباً فأنك ترى الوجع فيه مكثفاً أكثر من غيره, دون أن ننسى وجع الفلسطيني الموغل في النزيف والألم, ولا ننسى الوجع اليمني والجزائري واللبناني وغيرهم من بلداننا العربية، بلدان الخيرات والحضارات والقمع والحروب.  

  • باعتبارك تقيم في بلاد أوربية، كيف تجد تقبلهم للشعر العربي ؟

  • - رأيتُ ثمة انشداداً لأجواء ألف ليلة السحرية أكثر من أي شيء آخر وينعكس ذلك الاهتمام في الترجمات والدراسات وتقديمها على المسارح أكثر مما تحظى به النصوص العربية الأخرى من رواية وقصة وشعر.. هناك بعض الترجمات القليلة والشحيحة للأدب العربي لا ترقى إلى الطموح أمام ثراء الأدب العربي.. والمشكلة باعتقادي هو تكاسل المؤسسات الثقافية العربية في دعم مشروع الترجمة، هذا المشروع الحضاري الهام.. لأن مشروع الترجمة، هنا غالبا ما تقوم به مؤسسات.. وتبقى المبادرات الشخصية أقل من قليل.
    وقد لاحظت أن المتلقي الأوربي يسعى ويجب أن يطلع على نتاج الآخر أينما كان، ويجد الكثير منه في مكتباته. لكنه عندما يقف أمام رفوف الكتب العربية المترجمة لا يكاد يجد أمامه إلا القليل.  

  • ما الذي يبحث عنه القارئ الأدبي، ولا يجده في القصيدة العربية ؟

  • - القاريء العربي يبحث عن المسكوت عنه والمغيب في النص, وهو غالباً ما لا يجد بغيته مما ينشده أمام الرقابات المتشددة والتي تزداد يوماً بعد يوم صرامة وغباءً..

  • ما الذي أخر وصول الشعر العربي للعالمية اسوةً بآداب وفنون البلدان الأخرى، مثل اميركا اللاتينية أو الهند ! .. هل تعتبر ذلك جزءا من الإشكالية السياسية ؟

  • - ليس الإشكالية السياسية وحدها وان كان لها الدور الكبير لكن هناك إشكاليات عديدة مساوية لها، منها كما قلتُ تكاسل المؤسسات الثقافية بإيصال النص العربي إلى الخارج من خلال ترجمته ونشره والتحدث عنه.. ومنها أيضاً انشغال الكثير من الأدباء العرب في الخارج بأمور لا تمت لهذا الهم الحيوي بصلة، منكفئين بداخلهم على صراعات سياسية وثقافية محلية مباشرة..
    وثالثاً عدم وجود جسور ثقافية. وما أُسس منها لهذا السبب أو ذاك سرعان ما يُنسف بهذا السبب أو ذاك..
    كل هذا وغيره الكثير الكثير، أخر وصول الشعر العربي إلى العالم رغم قيمته الجمالية والإنسانية التي يتطلع إليها القاريء الأوربي.  

  • حزت على جائزتين في هولندة ونيويورك وظهر لك كتاب بالسويدية والهولندية والاسبانية.. هل في الأفق مشاريع بلغات أخرى ؟

  • - هناك مشروع قام به مسرح x في السويد، في تقديم عرض شعري مسرحي فني، تحت عنوان "الكتابة بالأظافر" (وهو عنوان كتاب ضم قصائد لي مترجمة إلى اللغة السويدية من قبل ستافان ويسلاندر والشاعرة بوديل جريك وصدر قبل فترة) أقدم فيه قصائدي بالعربية وتقدم الممثلة السويدية ليزا فري بقراءتها باللغة السويدية بإداء مسرحي أمام جدارية للفنان جعفر طاعون.. وقد نال العرض صدى طيباً في الكثير من الأمسيات والمسارح التي قدم فيها.
    وهناك ترجمة جديدة لديواني الأخير تأبط منفى إلى اللغة السويدية, كما يعكف الشاعر جواد وادي  على ترجمته أيضاً إلى اللغة الإنكليزية.
    وهناك مشاريع كثيرة لم تختمر في البال بعد..  

  • هل هزمتك الحرب في عقر شعرك أو أن هذه الحرب وهذه الظروف الصعبة هي التي خلقت منك شاعرا متميزاً ؟

  • - الحرب أخذت مني الكثير ، لكنني عرفت كيف أقاومها وانتصر عليها منشداً إلى نصي وصدقي أمام الطبول. مؤمناً أن الحياة لا تتوقف والإبداع لن يموت مادام هناك نبض إنساني، ودائماً ثمة شمس وراء كل ليل أو دخان. لذلك كنت أرى أن مقاومة الموت والخراب والقهر تتطلب روحاً حية وقدرة على التجاوز.
    ورأيت أن على المبدع أن يطلق العنان لخيول موهبته أن تنهب الآفاق ولا يقيدها بسرج أو لجام. وأن قدرة الشاعر على التحدي والتجديد والإدهاش هي أهم ميزات إبداعه. وعلى المبدع أن يكون رائياً مثلما عليه أن شاهد عصره الحقيقي.
    فحين أكتشف بأنني لم أعد أندهش أمام الجمال أو أُستفز أمام الخطأ أو أعبر عن ضمير عصري، أحس بأنني انتهيت وتوقفت دورة الحياة والإبداع في داخلي.
    لقد رأيت هناك الكثير ممن يكتبون حسب متطلبات السوق، وهناك من يكتب حسب متطلبات النظرية النقدية والحداثوية، وهناك من يكتب للمستقبل. أي يعيشون في عصر ويكتبون عن عصر آخر، ويعبرون عنه. لذا فهم أشبه بمن يضعوا أنفسهم في الثلاجة. لكن من يدري هل سيستقبل العصر الجديد نصوصه الجديدة كما يتوقعون ؟
    هؤلاء المحنطون لم يدركوا أن لكل عصر لغته وحداثته. والتطور الإبداعي لا يأتي من فراغ، أو تنظير فقط. بل هو يرافق التطور البشري والآلة والعصر والتغيرات والمستجدات، أنه الابداع ابن عصره وليس مفصولاً عنه.
    هؤلاء برأيي لن يستطيعوا أن يكونوا فاعلين ومهمين لا في عصرهم ولا في إي عصر قادم.

  • هل تفكر في ظل هذه الحرية التي تعيشها في أوربا أن تكتب رواية ؟

  • - أجد نفسي في الشعر أكثر تماثلاً وأكثر إقتراباً. وأن كل ورقة اكتبها هي حياة ضاجة ولحظات متفجرة. فليس في القصيدة مساحة للتفاصيل الرتيبة والإسهاب، وإنما ثمة  اكتناز وإيجاز وتمثّل للتفاصيل المضيئة والمفارقات والدهشة.

  • ترى انك أشد واقعية في شعرك. هل كل هذا أفرزته ظروفك وتجاربك؟

  • - مثلما لكل تجربته في الحياة فأن لكل شاعر تجربته في الشعر والحرب أيضاً. ومن ثم في الحياة والحصار والجنون والموت والسجن والمنفى وهذه التجارب تشكل بحد ذاتها سمفونية ألم فريدة قلَّ أن تجدها في تجارب الآخرين وتعال أنظر إلى إيقاعات جيلنا السمفونية: الشاعر حسن النواب سائق دبابة، محمد النصار خيّالة سعد، عبد الرزاق الربيعي وفضل خلف جبر معسكر مشاة الموصل، ومحمد مظلوم وطالب عبد العزيز.. والخ.. وخلف المشهد ثمة أسماء منسية لأصدقاء وشعراء لم يعد يتذكرهم أحد. أصدقاء لي، بدأنا بالكتابة منذ الطفولة: علي الرماحي شاعر (أعتقل عام 1979 ولا يُعرف مصيره حتى الآن)، حميد الزيدي كاتب رواية ( في بداية الثمانينات، أراد الهرب من الحرب والتسلل عبر الحدود فتم القبض عليه وإعدامه)، عبد الحي النفاخ  كاتب ( جُن من القراءة والتعذيب وظل هائماً يتمشى بدشداشته الممزقة حتى ساعات الفجر على ضفاف نهر الكوفة) والقائمة تطول...
    هذه التجارب المريرة وتلك الصحبة التي لم أنسها يوما رسمت لي ذلك الطريق الصعب في غابة الأسلاك والألغام والأفاعي.
    أنني أؤمن دائماً أن الحياة هي منجم شعري لا ينضب أبداً.

  • كيف ترى الاختلاف بين شاعر عراقي عائد من الحرب واختار المنفى، وشاعر عائد من الحرب وبقي في الداخل رغم الكارثة والحصار و..؟

  • - لا اختلاف إلا بمقدار مساحة الحرب في داخل كل منهما, ومساحة الحرية التي يتنفسون من خلالها هنا أو هناك.
    ولا اختلاف إلا بمقدار ما يجد أديب الداخل من هواء ساخن مليء بالدخان والحشرجات هناك. أو هواء بارد مليء بالغربة والوحدة هنا..
    ولا اختلاف إلا بمقدار رؤية بقايا الكارثة من بعيد، أو رؤيتها من قريب,
    ولا اختلاف إلا بمقدار ما تقدمه لك النادلة من كوب قهوة أو عصير طبيعي في كافتيريا على البحر، أو بين ما يقدمه لك أبو داوود من استكان شاي راقص في مقهى حسن عجمي.
    ولا اختلاف إلا بما يحوطك هنا من صقيع وغربة وأشجار، وبين ما يحيطك هناك من عسس ولهيب وأصدقاء.
    ولا اختلاف إلا بما تتيحه لك الكتابة هنا من فضاء مفتوح، وبين ما تتركه لك مقصات الرقيب من بقايا نصوص هناك.

  • تصلنا من وراء أسلاك الحصار ابداعات رائعة لشباب يعيشون ظروفاً صعبة ويكتبون قصائد يهتز لها الكيان الشعري: سلمان دواد محمد / علي حبش / عبد الزهرة زكي / منذر عبد الحر، كيف ترى مستقبل هؤلاء بعد رفع الحصار؟

  • - تنحو القصيدة الحديثة في العراق منحىً مغايراً في شكلها وبالتالي في مضامينها، مستفيدة من  الموروث الذي تركه جيل الرواد والستينيين والسبعينيين من جانب، وانجازات الشعر العربي والعالمي من جانب آخر، بالإضافة إلى ما تجده أمامها من ركام هائل من الموضوعات والأفكار والأشكال والمضامين الغرائبية نتيجة غرائبية واقعنا الذي عشناه ويعيشه هؤلاء الأصدقاء وغيرهم من الأجيال الجديدة التي انبثقت من بثور الكارثة.

  • كلمة أخير ؟

  • - على الشاعر أن يضحي بالكثير من أجل حريته. أي إلى أي مدى يمكننا أن نكون حقيقيين أمام ذواتنا في مواجهة المغريات خارج المتن الشعري، والتضحية بأشياء كثيرة في الحياة من أجل الحرية والشعر وتحقيق الذات.. وهذا المطلب هو جوهر الوجود الإنساني للشاعر الحقيقي في مسيرته نحو تخوم الأبدية رغم ما قد يتعرض له من تشرد وسجن وفقر ونفي وحاجة. لكن رهانه على هذا الجوهر هو ما يخفف عنه عبء المسير. ويقوي من صلابته وهو يرى الآخرين يتراكضون إلى الموائد والمناصب فيزداد رسوخاً وتحدياً.
    إن لكل شاعر قيمته، وتتجلى هذه القيمة بأبهى وأعمق أشكالها حين يتلاحم الموقف الإنساني والشرط الإبداعي لدى الشاعر، لتأخذ نصوصه بعدها الإبداعي والإنساني وتترك تأثيرها في الوجدان والفكر والعصر والتأريخ والذائقة.
    إن على المبدع أن يكون دائماً شاهداً صادقاً على عصره.



    (*) نشر في صحيفة "الزمان" - لندن 22-23/6/2002

     
    البحث Google Custom Search