أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
حوار مع الشاعر عدنان الصائغ

حاوره د.إسماعيل نوري الربيعي
- عمان -

بإزميل من فضة وقلب من بلّور يعكف هذا الصائغ على صياغة الصور والتراتيل والنشيج،في بوح يعزّ على تحديد نقطة الابتداء،مفتوحاً على النهاية التي لا تعرف الوصول الى الانتهاء.إنه الكوفيّ الذي ضمرته المراثي وأذى القصائد التي تعشعش في حشاشةٍ تسع الدنيا من دون الخضوع لتراتب عدد أو توزيع مكان،ينسج كوفيته من خيوط الكلام المنتقى مجمل الأوجاع الشفيف.
هو الخارج من الموت والحرب سهواً،متأبطاً معجم الأوجاع المغمّس بتراب الأولياء وصلوات القديسين، المذبوحين على باحة ورد الفجر.من أقصى الضياء يطالع سرب طيور حلقت نحو جنوب، علّها تنتظره هناك تحت نصب الحرية.لكنه واثق أنها ما أن تبدأ هجرتها حتى تبدأ بتلاوة نشيد أوروك،عند مستوى الرصيف الذي توارثه المحبون،وهم يدلفون زقورة الارتقاء نحو الشمس التي تلملم الاتساع في حركات عيونهم.
على القلق الذي تفرده سنابك خيل الطغاة،يثبّت عدنان بصيرته صوب أشجار الصنوبر الناحل،يغمد بشارة تنّز أذى وارتحالات، ومرورا يتعقبّه المخلصون الذين هالوا التراب على رؤوسهم، من فرط أصقاع الظلال  التي خيّمت على دعاء المرمّلات والنائحات،المصطليات بنار الخفاء الذي يتغوّل العقول يروم تمزيق أوصالها.
حميم هذا النزف المشتهى،راعف كأنه بشارة المخلّص جاءت تستبيح جسد الخطيئة الذي ألف الرطوبة وتفسّخ الخطوات.من على أهداب ترنيمة الولوج الهادئ الشفيف،يستمطر عدنان حروفاً يُفردها على مساحة الكلام،يستنشق فيها عبير العطور التي توشحها نحاة الكوفة،وطلاب مرحلة السطوح في الحوزة وهم يستذكرون ألفية ابن مالك وأبيات الشنفرى والمتنبي ودعبل الخزاعي.مكوّن من حوار يقوده الشعر الى بواّبات الحفاوة وخزائن يقود إليها المسير الحثيث للنمل المجتهد والمقتصد.يدلفون جميعاً في الأقصى من نار التباريح واستباقات المعاني،حيث زهور النارنج تزدهي بها البساتين،تؤثل لحقول تكتوي بنار الشقاء وإشارات المستحيل،تصبوا من دون أن ينفطر قلبها لأسى الارتحال أو فراق العيون.  

  • خرجت من الموت سهوا، أين الشاعر من الإنسان والإنسان من الشاعر؟

  • - في جدلية الحياة والموت، الجمال والقبح، الحب والحرب، الحرية والقمع، يكمن فن الشعر القادر على مزج الواقعي بالحلمي، والإنسان بالشاعر، تدويناً نصياً له قوة السحر (أن من البيان لسحرا)، ووهجاً عصياً على التدجين، وصرخة احتجاج أبدية، لا توقفها مقصات الرقيب، عابرة الأزمنة والكتب والذائقات والمدارس النقدية باتجاه ربيع الانسان وروحه المغمورة بالينابيع،
    وفي هذا الإلتحام الجدلي: فنياً، وروحياً، وفلسفياً وتاريخياً يمكننا أن نتلمس هذا التماهي بين النص والحياة على مرِّ تأريخ الإبداع الإنساني، فليس بالمكان الفصل بين أصابع الشاعر وقصيدته، و بين احساس الفنان ولوحته، وبين روح الثائر وصرخته. وكلما ازداد هذا التماهي بينهما ازداد المنتج شفافية روحية وتوهجاً تعبيرياً وصلابة مبدئية في آن...
    ولك ان تأخذ من تشكك ناقة المتنبي مثلاً يغنيك عن الكثير في شرح هذا التماهي بين الفضاء وروح الشاعر. لنسمعه يقول:
    "شيم الليالي أن تشكك ناقتي
    صدري بها أفضى أم البيداءُ"
    واستبدل الفضاء بالورقة والناقة بالقلم، أو استبدل الورقة بالمخميلة والقلم بالحلم، أو استبدل المخيلة بالدهشة والحلم بالكلمات، تجد أن التماهي يصل إلى أقصاه وإنْ باشكال شتى، من نظرية الحلول الصوفي عند الحلاج، إلى اختلاط الحواس عند رامبو، إلى  حمل الكلمة خشبة للصلب عند دعبل، والخ، والخ..
    ومن هذه الثيمة، خرجتُ من الحرب سهواً، جندياً أمضى أكثر من 13 عاماً راكضاً بين السواتر والقنابل والاسلاك.. وشاعراً تسلل من بين مقصات الرقيب وتقارير بعض المخبرين بـ ستة دواوين حاولت أن تؤرخ لتلك السنوات المرة بصراخها الملتاع.

  • كأنك تمارس الحياة من خلال الشعر، تصطف هكذا مع حزمة الضوء من دون كلل، تحث الروح نحو الاستغراق في الشعر.

  • - لم يكن لي خيار سوى هذا، ففي أزمنة الموت والطغيان والطوفان، لابد لك من طوق نجاة.. وهكذا وجدتُ في الشعر نجاتي، وملاذي وسلواي..
    البعض اتجه إلى الابديولوجيا أو الدين أو الصمت.. غير أني وجدتُ في الشعر تسامياً روحياً يرقى إلى أكثر الطقوس والمثل الانسانية شفافيةً وصفاءً، كما وجدتُ فيه تحدياً يوازي أكثر أسلحة الرفض قوةً وتأثيراً، فتلبسني وتلبستهُ - على الكفاف - أعيش حياتي به سلوكاً ووعياً، ويعيش بي تعبيراً وتذوقاً وتمرداً وتمايزاً..
    فمنذ أن تفتح قلبي ووعيي على الدنيا، كنتُ أراه ملاصقاً لي، يسندني ويمدنّي بالكثير..
    في طفولتي كان هو الحقل السرمدي، أركضُ فيه بلا كلل، خلف فراشاته الضوئية.. وفي صباي كان ملعبي وحلمي وسامري في الطريق... وفي شبابي كان مرآتي وصرختي وصلاتي في معركة الوجود.. وأجده الآن – في بدايات كهولتي - المصباح الأبهى في تلك الحلكة..

  • تنشد بحرقة، هكذا أنت في ((نشيد أوروك))، تستحضر كل شيء الأماكن والتواريخ والأسماء والتراب، إلى أين يسعى عدنان ((الشاعر)) الصائغ؟

  • - حاولت في النشيد أن أؤرخ كل ما مرّ في وطني من حروب وطغاة وحضارات وأغانٍ وأحلام وملوك وشهداء وصعاليك، لوّنوا تاريخنا بأغانيهم وخطبهم وطبولهم وأنينهم فكانت حياتنا - وكان الوطن - مسرحاً كبيراً لهم.. ونحن - المتفرجين - لا نملك غير التصفيق أو الصفير أو الصراخ أو الإنفجار أو النواح.
    كنتُ أريد أن أقرأ في وجه "عبود" بطل النشيد كل هذه التلاوين وأفجّر في مساماته، مسامات الورقة، ذلك الغضب الخفي، والحكايات المسكوت عنها..
    بدأتُ في كتابة النشيد عام 1984 في اسطبل مهجور للحيوانات في قرية شيخ اوصال في السليمانية، عندما كنتُ جندياً.. بقيتُ فيه قرابة العام والنصف مع رائحة البول والبارود والعناكب، وانتهيتُ منه عام 1996 في بيروت.. وكان يعيش معي، تحت جلدي، خلال تلك السنوات الاثنتي عشرة، في حلي وترحالي وخيباتي وأحلامي وأندفاعاتي وانكساراتي.. أدوّنُ وأدوّنُ في كل يوم بعضاً من صفحاته، دون أن أدري أنه سيكون على شكل قصيدة طويلة واحدة تربو على حوالي 500 صفحة..
    وكان لتشجيع الناقد جبرا ابراهيم جبرا وخالي الشاعر والناقد د. عبد الاله الصائغ والشاعر عبد الرزاق الربيعي وبعض الأصدقاء، أثر كبير في مواصلة هذا المشروع المجنون...
    ترى هل وصلتُ إلى ما كنتُ أسعى إليه؟
    ولكن إلى أين أردت أن أصل!؟
    وهل يبتغي الشعرُ الوصولَ!؟.. الوصول إلى أين!! كما ذهب الصديق الشاعر سركون بولص في عنوان إحدى مجموعاته الشعرية..

  • أنت من جيل عاش لوثة الخراب والحروب والانقطاعات، جيل عاش الحروب، حتى لتقترب من توصيف الشيخ محمد رضا الشبيبي:
    بكرت عليك تريك هول الموعد    
                              حرب تروح بنا وأخرى تغتدي

  • - سلسلة حروب أو حلقات كوارث أو تقاسيم فواجع، لدكتاتور واحد، كان متوزعاً بصور وأشكال شتى..
    ما أن فتحتُ عيني على الدنيا ذات يوم من عام 1955 حتى وجدتُ الفقر أمامي مكشّراً أنيابه، ثم تلتهُ الانقلابات السياسية الدموبة، وصولاً إلى مطحنة الحرب التي لم تبقِ لنا شيئاً ولم تذر..
    انها إذن، سنوات طاعنة في الخيبات، ألقت بظلالها الكابية على جبيلنا وتجاربنا وحياتنا.. وحملتنا – ذات هروب شبه جماعي بعد حرب الخليج الثانية – إلى أصقاع المنافي البعيدة..
    نعم، انها حروب وفواجع تروح بنا وتغتدي، ولذلك ما أن تفتح ديوان أي شاعر من جيلنا حتى تقفز عليك فئران الحرب وشظايا الروح وطفح الخيبات..
    وهذه المفردات أصبحت السمة المميزة لجيلنا.. افترشت أغلب تفاصيل كتاباتنا حتى في الحب والمرأة والأصدقاء والذكريات والمدن والموضوعات الأخرى...
    وليس غريباً ذلك وقد عاشت معنا وفينا وحولنا أكثر من نصف أعمارنا..

  • تجليات الواقع، حيث الخروج من الوصف إلى الممارسة، أين بتقديرك تكمن قدرات الشاعر؟

  • - لم يعد الوصف من مهمات الشعر الرئيسة، كما كان في عصور الشعر القديمة، ولم يعد أيضاً مقياساً لقدرات الشاعر ومهارته.
    لقد تخطى الشعر في مسيرته الحداثوية تلك المساحات المكررة إلى طرقٍ أكثر عشباً وضوءاً..
    قد حفل الشعر العربي طيلة عقوده المنصرمة بأطنان الوصف والمديح اللذين أثقلا كاهل القصيدة إلى حد كبير فلم تعد تقوى على السير إلى أبعد من لسان المنشد أو أذن السامع...
    كأن الوصف يشيد جدراناً أمام حقول القصيدة...
    كأنه يكممها، مختزلاً لسانها وصورها ورؤاها...
    كأنه يسعى أن يكون بديلاً..
    لكن الشاعر الخلاق هو الذي يخترق هذه الجدران، ليدخل بنا في اللهب.
    والقصيدة الحية هي التي تكسر أو تقفز تلك الحواجز، وتحفر عميقاً في بواطن الأرض والتاريخ والانسان لتستكشف طرقاً بكراً غير مأهولة..
    ولا يتآتي ذلك بالجاهزية والوصف، بل في تلبس الحالة، في الامتزاج بها، في تعريتها، في الإصغاء إلى هسيسها الخفي..
    وهنا تكمن موهبة الشاعر المتفرد وقدرته على الإختراق..

  • عامرة بلادنا بالأحزان، كأنها النقيع الذي تستحم فيه الاحتدامات والاشكالات،الحزن والشعر، أم أن هناك معادلا آخر لهذه العلاقة؟

  • - لم يكن الحزن وحده سر هذا التفجر والثورات الذي عرفته أرض الرافدين على مختلف الأصعدة: الفنية، والأدبية، والسياسية، والإجتماعية، والإقتصادية، والخ، منذ فجر حظاراتها حتى اليوم..
    فنهراها الخالدان اللذان اصطبغا بالدم والرماد والكتب، تلوّنا أيضاًُ بشموع النذورات وأغاني المحبين وطمي الحضارات. وسماؤها المشمسة التي حجبتها أدخنة الحرائق وذرق الطائرات، أضاءتها أيضاً ابتهالات الصوفيين وقباب الذهب وأعذاق النخيل.
    ربما بين طياتي هذه المفارقة أو بين طيات التاريخ والأرض، يكمن السر الذي توقف عنده المؤرخون ملياً، كالطبري في تاريخه، وابن خلدون في مقدمته والخ..
    وشد إليه الملوك والفاتحون والغزاة رحالهم واطماعهم وجيوشهم.
    وندبته آله سومر، وفرشته أخيلة الشعراء والمغنين على مر تاريخه بأكاليل الغزل وأطواق الورود والأغنيات كما لم يغن ويندب لبلد.
    ودكته صواريخ التوماهوك كما لم يدك بلد في الأرض.. والخ.
    وهذه الإحتدامات والفيوضات التي جرت في عروق أبنائه، هي المعادل الموضوعي لكل ذلك الموروث الضخم والمذهل والفاجع الذي قرأناه في التاريخ وعاصرناه في الحاضر، والذي حمل في نفوس أهله - وشعرائه بالأخص - الكثير من التوتر والاحتدام من جانب والشفافية والطيبة من جانب آخر، فطفحت في أغانيه ومواويله نبرة الحزن والشجن منذ أغاني اينانا السومرية وحتى انشودة المطر لبدر شاكر السياب، وإلى آخر شاعر تسعيني يسطر – اليوم - نصه الجديد.
    لقد عبرتُ عن تلك المعادلة أو المفارقة، في قصيدة لي بعنوان "العراق" ضمها ديواني الأخير "تأبط منفى"، أقول فيها:

    "العراقُ الذي يبتعدْ
    كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
    والعراقُ الذي يتئدْ
    كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..
    قلتُ: آهْ
    والعراقُ الذي يرتعدْ
    كلما مرَّ ظلٌّ
    تخيلّتُ فوّهةً تترصدني،
           أو متاهْ
    والعراقُ الذي نفتقدْ
          نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..
    ونصفٌ طغاهْ"
    .......

  • هل اكتفيت من تأبطك المنفى، هذا الجليد الاسكندنافي الكثيف، حدثنا كيف يطبق على الروح؟

  • - أفتح نافذتي على مدار أغلب شهور العام فلا أجد أمامي سوى قطوف الثلج تملأ شوارع الروح بالغياب والغربة..
    الجليد بمد لي لسانه الأبيض، وكذلك الورقة البيضاء التي أمامي. ثم يطبقان علي.. كأنني مسجون أبدي بالبياض أو الغياب.
    "أيهذا الغريبُ الذي لمْ يجدْ لحظةً مبهجهْ
    كيف تغدو المنافي سجوناً بلا أسيجةْ"
    حين تأبطت منفاي صيف 1993، وألقى بي وبحقائبي في غرفة صغيرة قرب الساحة الهاشمية في عمان، لم أكن أفكر أو أحلم أن رحلتي هذه، ستعبر بي مدناً، وصحارى، وبحاراً، ومقاهٍ، وأصدقاء، وساحات، لم تكن تخطر لي على بال، وصولاً إلى جنوب القطب الشمالي.
    حيث تصل درجة الحرارة الى 36 تحت الصفر، ودرجة الحرية إلى أقصى مدى يتخيله المرء، أنا القادم من بلد الهجير والحروب والقمع حيث تصل درجة الحرارة إلى فوق 50 مؤوية، وتصل درجة قمعك إلى حد أنك لا تستطيع أن تفتح فمك من وقع سياطهم وجزماتهم لتصرخ: آه..
    هنا وضعتني هذه المفارقة، صافناً، ومندهشاً، على ضفاف نص جديد مفتوح، أسميته "نرد النص" يبتعد إلى حد كبير، ايقاعاً وشكلاً ولغةً وجرأة، عن كل تجربتي الشعرية..

  • مسالة الأجيال تؤرق البعض من الشعراء والنقاد، حتى لترى المزيد منهم يسفحون الكثير من الجهد في التوزيعات والتقسيمات.

  • - مصطلح "الجيل الشعري" وليد اصطراع أدبي، هو أقرب إلى لغة الصحافة وصراعاتها الهامشية منه إلى متن النقد الأدبي الجاد.. وقد وجد من يصفق ويهلل له، وخاصة ممن فاتهم قطار الإبداع، فتمسك بعربات هذا المصطلح المتوقفة على السكة منذ زمن، ظناً منه أنهم في قلب الحركة أو القطار..
    وسايرهم أيضاً بعض النقاد ممن لم يستطع غور سبر التجربة، فتعكز على هذا المصطلح، يقلبه ذات اليمين وذات اليسار، مثيراً ما وجد تحته أو فوقه من غبار، ظاناً أنه يقود معركة في النقد بينما هو لم يتجاوز حدود عجاج المسطلح..
    ولا أدري - لعمري - ما علاقة طالب عبد العزيز برعد بندر مثلاً وهما من جيل ثمانيني واحد. أو علاقة رعد عبد القادر بغزاي درع الطائي مثلاً وهما من جيل سبعيني واحد. أو علاقة فاضل العزاوي بحميد سعيد مثلاً وهما من جيل ستيني واحد. أو علاقة سعدي يوسف براضي مهدي السعيد... مثلاً وهما من جيل خمسيني واحد، والخ، والخ.. وصولاً إلى علاقة أبي تمام والبحتري بـ "الخمسمئة شاعر" الذين طووهما تحت إبطيهما، كما يروي أبن رشيق القيرواني، في كتابه "العمدة".
    وإلى علاقة شكسبير بشعراء جيله الذين لم يذكرهم أحد إلا لماماً في الوقت الذي يصدر عنه يومياً من الكتب ما معدله - وفقاً لما تقول إحدى الاحصائيات البريطانيبة - كتابٌ واحدٌ في كل يوم..
    وتعال مرة أخرى وقل لي من أي جيل هو شكسبير والمتنبي.
    إنهما كل الأجيال وكل العصور وكل الثقافات وكل الأوطان، لا يحد إبداعهما حد، ولا يحصر تجربتهما جيل أو مذهب أدبي.
    لهذا لا أرى من ضرورة لسفح الحبر والجهد على توزيعات وتقسيمات آنية لن تصمد أمام رياح السنين .
    فلن يبقى من معمعة المصطلح الجيلي سوى النص المبدع المتوهج بتفرده.

  • حالم بالحياة لافظ للموت، بطريقة لا تقبل الالتباس، هذا ما تقوله قصيدتك، هل يتمكن الشاعر من صنع الدهشة فقط؟

  • - الشاعر الرائي – كما تسميه ملحمة كلكامش – والصانع الأمهر - كما يصفه ت. س. اليوت - وسارق النار - كما يجسده بروميثيوس - والحلم المكتوب كما يذهب إليه باشلار، وسمير وادي عبقر - كما يراه نقاد العرب القدامى -..  
    وهو سيد الدهشة، بإمتياز، ماضياً بنا إلى تلك الأرخبيلات أو اليوتوبيا ليرينا عوالمها ويقف بنا على أسرارها وأطيافها، أو صاعداً بنا إلى الجلجلة، منشداً لربيع الإنسان القادم من مخاضات عذابه، إلى شواطيء الحرية والحب والجمال..
    وتلك – برأيي – أولى رسالات الشاعر وأبهاها منذ أن سرق بروميثيوس النار حتى آخر شاعر يحمل كبريته في غابات اللغة.

  • بارع في صنع المعادلات، لنتأمل قصيدة ((ثقب)) على سبيل المثال، من مجموعة ((تحت سماء غريبة))، تعمد إلى اختزال العالم في ثقب نوم، الإحالة إلى اقتطاع العلاقة بين القاتل والمقتول في تجريد ملفت.

  • - القصيدة تقول:
    "طلقةٌ عابرةْ
    ثقبتْ نومَهُ
    فتدفقَ
    - فوق وسادتهِ -
    لزجاً
    دمُ أحلامهِ الخاسرةْ"
    حياتنا التي ظلت عرضة للرصاص على مدار تاريخ الوطن.
    وحين كنا نخبئها من عيون الرصاص والمخبرين في الخنادق أو الدواليب، تاركين أحلامنا، تتسكع لوحدها على الأرصفة مع المطر والحبيبة والكلمات والأمل، وكان في هذا زهونا وتحدينا ونصنا.
    ولم يكن يخطر على بالنا أن الجلاد سيطلق الرصاص على أحلامنا ليرديها، على أسرتنا، مسربلة بقطرات خساراتنا ودمائنا.. هكذا تذهب القصيدة في مدياتها إلى آخر المرارت.
    وهكذا تذهب معادلة الكلمة والرصاصة إلى آخر مديات إصطراعهما، لترينا أنه كلما تفتق القلم عن فنون الإبداع والجمال والحب والتفرد، كلما ازدادت الرصاصة تفنناً في شراسة القتل.
    وتلك - لعمري - معادلة أزلية أرقت الوجود الإنساني برمته منذ مقتل هابيل، وحتى تفجيرات الطف، تنويعاً وترويعاً في وسائل القتل وتلويناً في الأهداف الآيديولوجية..

     
    البحث Google Custom Search