أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الشاعر عدنان الصائغ في حوار

في روحي عطشٌ سرمديٌّ لا يمكن ارواؤه بأي شي

حاوره: باسم الأنصار
- كوبنهاكن -

"عدنان الصائغ شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب .." هذا ما رآه الشاعر الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي في مدونات الصائغ الشعرية.. تلك المدونات المخطوطة بريشة الروح التي تستمد مدادها من سويداء القلب ..
فمنذ صدور مجموعته البكر " انتظريني تحت نصب الحرية وانتهاء بـ "نشيد أوروك" التي تُعد أطول قصيدة في تأريخ الشعر العربي.. والصائغ يواصل غنائياته الشعرية المخلوطة بومضات تأويلية تسحب المتلقي من عنقه ليبحر في أعماقها اللذيذة.
بأختصار، الصائغ يُعد أحد الذين تأبطوا الوجع العراقي المستبد ومن ثم أخرجوه إلى الفضاء على هيئة عنقاء تتوهج بالحب والجمال.
لمناسبة زيارته مؤخراً إلى كوبنهاكن التقيناه في هذا الحوار:

  • في أحضان الوطن كانت حبيبتك تنتظرك تحت نصب الحرية .. فأين ستنتظرك حبيبتك في منفاك الجديد ؟

  • - في ليالي السويد والبرد والغربة،  أتطلع عبر نافذتي إلى النجوم الخبيئة تحت السحب العابرة فأجد في لمعان كل نجمة ذكريات عالقة وأمسيات وقصائد وأحلام لم أكملها بعد. تأخذني الحبيبة أو القصيدة إلى هناك، إلى سهوب الطفولة ومقاهي الذكريات وشوارع الصبا والأحلام والتأمل، حيث نعبر حديقة الأمة بعيداً عن عيون العسس، نلتقي باعة الفلافل وأكشاك الصحف، نجلس على إحدى المصطبات نرقب وجوه العابرين وما تخبئه من ذكريات وأحلام مسحوقة ثم نعرج إلى نصب الحرية حيث القضبان التي كسرها السجين السياسي قبل ثلاثين عاماً، لنرى كيف تم تصليحها وتثبيتها أكثر وأكثر بعيداً عن عيون جواد سليم الذي كان يحلم بوطن بلا قضبان. لكنهم ملأوا الوطن كله بالمزيد من القضبان والأسلاك والمقابر الجماعية، أما السجين السياسي فقد اختفى إلى الأبد في زنزانة منفردة أو هرب إلى المنفى.. أحس ثمة نقرات خفيفة على كتفي، التفتُ بذعر، فأجد أمامي شلة من الأصدقاء: عبد الرزاق الربيعي، فضل خلف جبر، كريم العامري، إسماعيل عيسى بكر، محمد الجوراني .. ننفجر ضحكاً وصخباً لهذه الصدفة الشعرية التي ستقودنا إلى رحلة غرائبية في شوارع بغداد عام 1986 ، بين حانة منزوية في شارع السعدون، وبين تدافع الجنود في كراج العلاوي، وبين مصعد فندق الشيراتون الذي سيقذفنا إلى الرصيف ثانية لنواصل رقصنا الهيستيري داخل دائرة البول التي رسمتها في لحظة سكر منفلتة، حتى تجف، لنغادرها ونغادر الوطن جميعاً: عبد الرزاق الربيعي الى عمان فصنعاء فمسقط، كريم العامري إلى المجهول، محمد الجوراني إلى منفاه الجديد، فضل إلى أمريكا، إسماعيل عيسى بكر إلى المقبرة، وأنا إلى جنوب القطب المنجمد الشمالي. استيقظ من حلمي على نقر حفيف على كتفي، التفت لأرى جارتي السويدية تسألني: إلى م ستبقى تجلس كل يوم لصق النافذة، رغم الصقيع، تتطلع إلى البعيد؟ .. أقول لها: حتى ينزل السجين السياسي من لوحة جواد سليم ويتمشى آمناً حراً في شوارع بلادي. تتلفت مذهولة لا تعرف أي معنى لما تسمعه, كأنني نص دأدائي … تقول: لكنك هنا، ونصب الحرية بعيد بعيد. أقول بشرود : النص هنا .. النص هناك، أنا هنا .. أنا هناك – لا فرق – ما دامت الروح هي التي تحدد مكان الإقامة وليس الجسد.
    نعم مازالت الحبيبة تنتظر هناك تحت نصب الحرية رغم انها معي الآن. ذلك انها تتعدد بتعدد الأمكنة والقصائد والألم.

  • الغربة حطمت الرقيب الخارجي الذي كان يؤرقك في الوطن .. فهل أدى إلى تحطيم الرقيب الداخلي لديك أيضاً ؟ ثم هل ثمة رقيب خارجي في الغربة يؤرقك الآن؟

  • - كم كنت مغفلاً إذ كنتُ أتصور أن مشكلة الكتابة في الوطن هي الرقيب الرسمي فقط. لأكتشف بعد عشرين عاماً أن هناك عشرات الرقباء بأزياء مخلفة، وألوان مختلفة، يجلسون وينامون ويأكلون ويتنفسون معك وفيك.. لم أكن أعرف هذه الحقيقة بشكلها السافر عندما كنتُ هناك محاصراً بين فكي الدكتاتور ومقص الرقيب الرسمي ودخان الحروب الذي كان يحجب كل شيء. لم أكن أعرف تلك الازدواجية المقيتة لمفهوم الرقابة لدى المثقف نفسه والأحزاب الثورية نفسها إلا حينما خرجتُ لاستنشق هواء الحرية المعقم - كما كتبتُ ذات مرة من بيروت للكاتبة فاطمة المحسن -  لأجد أمامي عشرات الأنياب الماضغة، كل فك يريد اقتطاع شيئاً  من النص لكي يتلاءم مع ديكور إيديولوجيته وسلطته المطلقة على الحياة والإنسان والله والفكر والنص.
    في الوطن كتبتُ نصاً قصيراً لم استطع نشره سبب الرقابة:
    " في وطني
    يجمعني الخوفُ ويقسمني:
    رجلاً يكتبُ
    والآخرَ خلفَ ستائرِ نافذتي، يرقبني.."
    وفي بداية المنفى، في الأردن عقب خروجي من الوطن كتبتُ قصيدة " رقيب داخلي"  عن شاعر، مازال الرقيب يسكن رأسه خوفاً على من ظلوا هناك، فهو يجلس أمام أوراقه، يكتب ويمزق ليكتشف في الصباح كم كانت سلة مهملاته مملوءة وورقته فارغة بيضاء .. وقد جاءت هذه القصيدة تسجيلاً واقعياً لما جرى لي في صحيفة "آخر خبر" الأردنية التي عملت فيها محرراً ثقافياً، كنت جالساً إلى طاولتي في غرفة التحرير، أكتب وأمزق دون أن أدري حتى امتلأت سلة المهملات، لتدخل عليّ صدفةً إحدى الزميلات المحررات وتنبهني إلى ما أنا عليه.
    أما "نشيد أوروك" قصيدتي الطويلة التي بدأت الكتابة قيها داخل اسطبل مهجور في قرية شيخ اوصال في السليمانية عام 1984 وانتهيت منها قي بيروت عام 1996 فهي صرخة شرسة مجروحة مجنونة حادة، خارجة عن قاموسي، حمل عنوانها الفرعي " هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها"، ومع ذلك قلبت الدنيا على رأسي، ونزحت بي إلى هنا.
    الآن، هنا في جنوب القطب، أجدني في النص الجديد الذي سميته " نرد النص" خارجاً على سلطة كل الرقابات السياسية والدينية والآيديولوجية والإجتماعية، باستثناء رقابة الضمير والفن التي هي بإعتقادي الأصدق والأعمق والأسمى. أما بقية الرقابات فهي أسلاك شائكة وكلاب بوليسية وبنادق حراسة تسيج النص وتحاول منعه من الافلات خارج سلطتها ودوائرها الفكرية ومصالحها.
    لم تعد هذه الرقابات تخيفني أو تقلقني، فقد اكتشفت ان النشيد الذي منع في أغلب البلدان العربية وليس في العراق فحسب، قد وصل إلى ما لم أكن أحلم به من مكتبات وأناس ومثقفين من خلال الكتابات والرسائل والأحاديث التي تصلني باستمرار.  
    الرقيب في الوطن كان يمكنه أن يمنعني عن الكتابة أو عن الحياة، بمقصاته ووسائله المعروفه، أما هنا فلا يستطيع أن يفعل لي شيئاً سوى المنع والتهديد والتشويه والتهريج، وهذا الأمر تعودت عليه كثيراً ولم يعد يهمني أو يقلقني وأنا ماضٍ في رحلة الكتابة..

  • ثمة ارتواء يفضي إلى الغناء والموت .. فكيف تحمي ذاتك من هذا الارتواء النهائي؟

  • في روحي عطش سرمدي لانهائي، لا يمكن ارواءه بأي شيء: لا بالمرأة ولا الكتب ولا النجاحات ولا السفر ولا الأصدقاء ولا.. ولا... هذا العطش هو سر الديمومة ربما. وهو البحث اللائب عن عشبة النص ( الحياة في ملحمة كلكامش ) .. البعض حصل على شقة وترك الكتابة لأن هذا هو أقصى طموحه، وآخر تزوج وأنجب أطفالاً وكفى، وآخر حصل على جائزة شعر أو يانصيب وانشغل بها، وآخر صار مسؤولاً لصفحة ثقافية وغرق فيها وآخر وآخر ، هذه الارتواءات تكشف عن حقيقة هذا الكاتب وطموحه الذي يلخصه المتنبي العضيم في بيت ونصف من قصيدتين متباعدتين.
    البيت هو : أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
    ونصف البيت هو : على قدر أهل العزم تأتي العزائم
    ومع هذا لم يجن المتنبي إلا الخيبة غير أن قصائده ظلت أكثر دوياً وإبهاراً وتجاوزاً.. وامضِ معي إلى أبي حيان التوحيدي والنفري واليوت وتولستوي وهنري ميلر ومحمد شكري وعبد الرزاق الربيعي ومحمد خضير وجليل القيسي وكزار حنتوش ولطفية الدليمي ومحمد مبارك ومحمد الجزائري وطالب عبد العزيز والقائمة تطول في كل زمانٍ ومكان. لكن أجمل ما قرأتُ تلخيصاً لمبدأ الشبع والإبداع قصة سقراط التي حفظتها منذ الصغر، فقد كان يتجول في شوارع أثينا بمخازنها العامرة وبضائعها وهو يهتف: "شكراً أيتها الآلهة، فما أكثر الأشياء التي لا يحتاجها سقراط" وظل كأس السم الذي شربه ، واثقاً قانعاً ومدحوراً صورة أخرى للارتواء الذي أختاره ، تاركاً لنا تراثاً ضخماً لن نرتوي منه أبداً....هذه اللذة،  لذة العطش الدائم للمعرفة والإبداع هي التي منحني شهوة الاستمرار في الكتابة والعيش من أجلها، إلى الحد الذي جعلني لا ألتفت للكثير من الأشياء العابرة حولي من تكالب سلعي وخصومات سلعية. لقد بدأتُ منذ الطفولة بالتهام الكتب والحياة معاً فكانتا هما الداينمو الأول الذي ظل يشحنني في سنوات الجدب والحروب والمقصات والأسلاك بالمزيد . كنت أدخل المكتبات العامة ولا أخرج منها إلا بعد طردي من قبل الموظف الذي كان يريد أن يغلق المكتبة ويذهب إلى بيته ليرتاح، حد أن أطلق عليّ أصحابي تندراً : "دودة الكتب" . كنتُ لا اشبع من الكتاب، أغلق الباب عليّ أياماً ولا أخرج مادام معي كتاب جديد أو نص جديد اشتغل عليه ..

  • كيف ومتى يقبض عدنان الصائغ على جمرة اللحظة الإبداعية ؟

  • - لا أدري. ولا أعتقد أن كاتباً أو فناناً في العالم يمكنه أن يعرف توقيت ساعة الوهج والخلق الإبداعي، أو يتكهن بموعد قدوم شيطان الإلهام رغم كل الاختراعات واستكشافات علم النفس الحديث و حسابات الكومبيوتر الدقيقية. إذ لا حدود للإبداع ولا مناخ ولا جغرافيا ولا أرقام ولا مواعيد، لكن هذا القول لا يضع عملية الخلق الإبداعي في الزمن الصفر، أو يتركها للمزاج أو للموهبة وحدها أو للقضاء والقدر، هناك تمهيدات واشتراطات وعوامل تفجر أو تقرب الحالة والموعد و..و.. فليس من باب العبث أن يلبس ماركيز بدلة عمله وهو يصعد إلى مكتبه ليكتب.. أنه يعيش الكتابة واقعاً وحياةً ومهنة وروحا وتلبساً وتكوينا، فهو بهذا يحثها ، يوهجها، يدغدغها باصابعه، وهي في أحيان كثيرة تستجيب.. أن العملية الإبداعية أو الكتابة الشعرية بالتحديد - كالحب – ضرب من الجنون اللذيذ والمرير معاً، فهي لا تملك حسابات ثابتة. هناك من ظل ينتظر لحظة الإبداع عمراً كاملاً ولم تأته. هناك من انقطع  عشرين عاماً كما حصل لسان جون بيرس وهناك من سكت فمات.. هناك أيضاً من هدّه وأضناه الظمأ فاقتحم بئر الإبداع لكنه لم يجد شيطان الشعر ولم يرَ إلا الحشائش والطحالب وهناك من تمدد على الرمل غير عابيء بشيء فوجد حوله المزيد من اللؤلؤ والمرجان. بالنسبة لي لم أجبر نفسي على كتابة نص، كنت  أترك للشعر الخيار الذي يريده، قد أتحايل عليه أحياناً ، أغريه، أستدرجه لكنني ليس دائماً أنجح . أما هو فيمكنه أن ينتزعني من صخب الأصدقاء لينزوي بي مع ورقة صغيرة لساعات، وأحياناً – ياللؤمه – يتركني هكذا معلقاً ويمضي ساخراً من لهفتي وتوقي وجديتي.  يكتبني أحياناً على أية قصاصة أو ظهر طابع بريد أو فاتورة كهرباء وأحياناً يرى أمامه أكداس من الورق الصقيل اللاهث، فينزع سرواله الداخلي ليبول عليها ساخراً ويمضي..

  • هل أن القصيدة الحلم مازالت مخبوءة في قريحتك أم أنها حلقت منها؟

  • - يظل الشاعر يكتب ويكتب وفي ذهنه قصيدته الحلمية التي لن يصلها أبداً. فالوصول هو الموت. انها ايثاكا في قصيدة كافافي، أو هي اليوتوبيا التي يسعى لها كل شعراء الأرض منذ بدء الخليقة وحتى الآن .. ان مجرد الوصول الى أي من هذه الأرخبيلات يعني نهاية الحلم.. والنهاية وإن بدت مريحة ومقنعة للبعض في رحلة طوافهم، لكنها الموت بالنسبة للمبدع إذ تظل أجمل الطرق في عينيه تلك الطريق التي ليس فيها نهاية محددة أبداً، وتظل أجمل القصائد تلك التي لم يكتبها، مقترباً في هذا من قصيدة ناظم حكمت الشهيرة التي يرى فيها أن أجمل البحار تلك التي لم نرها بعد، وأجمل الأطفال الذين لم يولدوا بعد ..والخ، وهذا المفهوم القديم الجديد هو محور هلامي تدور حوله كل أفلاك النصوص والفنون والحضارات، منذ عصر البردي حتى عصر الأنترنيت..

  • هل تسعى إلى التعالي على التقاليد الشعرية المطروحة الأن ؟

  • - لا أتعالى عليها، فليس من طبيعتي التعالي على أحد أو فكرة  أو نص، وإنما أحاول دائماً أن أقفز فوق سياج تلك التقاليد الشعرية والحياتية والآيديولوجية الى براري النص المفتوح هرباً من صمغها وثبوتيتها وتكرارها الممل .. التعالي هو قتل متعمد للحوار وعدم اعتراف بالآخر وهو عماء، بينما القفز الواعي هو التجاوز الذي هو محاورة الواقع أو النص واستيعابه وفهمه ومن ثم الخروج عليه لاستشراف آفاق أكثر رحابةً. فما دامت السماء والأرض والبحار بهذه الرحابة فلماذا الجمود في قالب فكري ثابت ولماذا الاستكانة لنمط شكلي واحد ومحدد في الحياة والمعرفة والكتابة ، أن حديقة صغيرة واحدة فيها من التنوع المدهش والغريب والمثير ما يلهب الخيال ويثري المعرفة ويشحذ الأفكار ويغني الذائقة، من أزهار وثمار وأغصان وورق وطيور وحشرات وفراشات والخ .. والخ. ألا ترى معي هذا فلماذا الجمود إذن عند نمط معين من الكتابة شكلاَ ومضموناً ما دام العالم بهذا التنوع والجمال والإختلاف.

  • أشم نتانة العالم كل يوم وفي كل مكان بالرغم من وجود بعض الأمكنة البراقة فيه .. ولكن كيف يتم تطهير العالم من هذه النتانة الخانقة ؟

  • - لقد قالت فتاة الحانة لجلجامش في اللوح التاسع- العمود الأول: "إلى أين تسعى ياجلجامش/ ان الحياة التي تبغي لن تجد / حينما خلقت الآلهة العظام البشر /  قدرت الموت على البشرية / واستأثرت هي بالحياة " لقد أدركت ملحمة جلجامش قبل حوالي 4000 سنة لعبة الحياة وصراع الطبقات وثنائية الحاكم والشعب المريرة، ورأت كيف تتجلى ذروة الطموح الدكتاتوري في هذه القسمة الضيرى حينما استأثر الحكام والآلهة والملوك والتجار بالحياة والسلطة وتركوا للشعوب الفقر والطاعة والمهانة والموت. هكذا أدرك الشعر قبل غيره شراسة قانون الحياة الظالم. ويمضي النص الى أبعد في ادراكه لواقع العلة الوجودية منذ الأزل حتى اليوم ، فيقدم بعض الوصفات الآنوية حلاً أو علاجاً لمشكلة الحياة برمتها: "أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مملوءاً على الدوام / وأقمِ الأفراح، وارقصْ والعبْ واغسلْ رأسك واستحم في الماء ودلل الصغير الذي يمسك بيديك وافرح الزوجة التي بين أحضانك " ليستلخص بأن "هذا هو نصيب البشرية". لكن الأنسان لم يكتف بهذا فامتلأت الأرض بالحروب والنتانات والأحقاد. أنه صراع أزلي، ثقافي واجتماعي وديني واقتصادي واجتماعي نعيشه اليوم مثلما عاشته البشرية قبلنا بآلاف السنين، لكنه - نتيجة لتطور العصر - أخذ شكلاً أكثر حداثة وقسوة وتنوعاًً. وانظر، فالحلاج الذي صلبوه قبل حوالي ألف عام يصلب اليوم بأشكال شتى ، والكتب التي لونت نهر دجلة في زمن المغول، تلونه اليوم بألوان شتى، والفاشلون الذي رموا بيت الطبري بالحجارة حتى غطوه وشردوا التوحيدي واحرقوا أبن المقفع وقتلوا المتنبي. هم أنفسهم اليوم يفعلون ما يفعلون بالمبدعين وبأكثر الطرق قسوة ولؤماً وشراسة تبعاً لتطور وسائل القتل والتشويه. لذلك لا غرابة أن يواجه المثقف اليوم كل هذه التصفيات والنتانات لكن الغرابة أن يجد بني جلدته ينحازون الى النتانة ضد فكره وقيمه بسب المصالح والغيرة والإختلاف. والأغرب انهم يتكاثرون بشكل عجيب ويجدون لهم في كل مكان وزمان مؤسسات وأبواقاً وأذرعاً ووسائل إعلام .. وهنا تكمن الخطورة التي نعيشها اليوم وهي باستمرار تشغل المبدعين وتهددهم كما يحدث الأن في ساحتنا الثقافية.

  • كيف تنظر إلى عدنان الصائغ الآن ؟

  • - أنظر إليه بكثير من الحسرة والشفقة على ما أضاع من عمرٍ وأحلام وشوارع ونساء وحانات  من أجل كتابة نص، لم يجنِ منه سوى التشرد والغربة والقهر ، بعيداً عن مكتبته وأصدقائه وأهله ووطنه، منفياً في أقصى الأرض. لكن لو قدر له أن يحيا من جديد – ياللعنة - لما اختار غير الشعر.

  • آخر نتاجاتك النثرية والشعرية ؟

  • - في النثر لي كتابان هما "اشتراطات النص الجديد" و"القراءة والتوماهوك" جاهزان للطبع. وأما في الشعر فقد اكملتُ قبل أيام ديواني الجديد "تأبط منفى" وهو قيد الصدور.

  • وماذا تختار لنا منه ؟

  • - قصيدة سميتها "أبواب ":
    أطرقُ باباً
    أفتحهُ
    لا أبصر إلا نفسي باباً
    أفتحهُ
    أدخلُ
    لا شيء سوى بابٍ آخر
    يا ربي
    كمْ باباً يفصلني عني

  • كيف عبر تأبط منفى أي عدنان الصائع عن حنينه لبلاده البعيدة – القريبة:

  • - لي بظلِ النخيل بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
    كيف الوصولُ إليها
    وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
    وكيف أرى الصحبَ
    مَنْ غُيّبوا في الزنازين
    أو كرّشوا في الموازين
    أو سُلّموا للترابْ
    إنها محنةٌ - بعد عشرين -
    أن تبصرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
    السماواتِ غيرَ السماواتِ
    والناسَ مسكونةً بالغيابْ


    (*) نشر في صحيفة "القدس العربي" – لندن ع 3489 س12 29-30 /7/ 2000 ص10 أدب وفن / ونشر في جريدة الوطن – السعودية / العدد 79 – 17 ديسمبر 2000

     
    البحث Google Custom Search