أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الشاعر عدنان الصائغ

أجرى الحوار: ابراهيم عبد الملك
استوكهولم

  • عدنان الصائغ .. أريد أن أشي بفرح ألمحه بين عينيك منذ وصلتَ إلى ستوكهولم، قبل أن نتحدث عن الزيارة والأمسيتين اللتين تألقتَ فيهما، ما انطباعاتك ؟ وما سر هذا الفرح ؟

  • لقد أصبح الفرح طائراً نادراً قلما يحط على أغصان حياتنا التي جردتها الحروب من الخضرة والأزهار. نعم كان ثمة فرح خفي وخجول لحظة لقائي بأصدقائي بعد غياب وترحال ومرارات. هذا الفرح حلّق بي بجناحين من كريستال ودمع وقصائد إلى أقاصي بعيدة، وأعادني إلى تلك السنوات الغضة التي كنا نلتقي بها على ضفاف نهر الكوفة أو في مقاهي شارع أبي نواس أو في مكتبات سوق السراي في بغداد الحبيبة، نتحاور ونتشاجر ونحلم بالشعر، خلاصنا الجميل، وعالمنا الأوسع .. ها أنا الآن ملقىً في جنوب القطب بعيداً عن كل ذلك الثراء والدفء والذكريات أحاول أن أقتنص في ذاكرتي تلك الصور الشاردة كالغزلان البرية فلا ألمس إلا ظلالها وآثار خطاها... فجأة، وجدتني أمام سمفوفية من الأصدقاء والشعراء في ملتقى تينستا الشعري في ستوكهولم: صديق شاعر من بلدي غيبّة السجن ثمانية أعوام وجدته فجأة أمامي كما عهدته مسشاكساً دافقاً ودافقاً، يشرد بي وسط صخب الأصدقاء إلى أحاديثنا التي تركناها هناك مقصوصة منذ عشرين عاماً ليكملها بذلك الدفق الساحر..
    قارئان كانا قد شاهدا مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقظاً" عام 1993 في بغداد وجاءا للأمسية ليستكملا معي رحلة "عبود" بطل المسرحية، الذي خرج من الحرب سهواً. ويسمعا آخر ما كتبته عن تجربة المنفى في هذه الصقيع النائي ..أنا الذي لم أتخيلني أغادر الوطن والأصدقاء في يوم ما، أبداً.
    لهذا فجميل إذن أن يستكشف سؤالك يا صديقي للوهلة الأولى هذه المشاعر التي انفجرت في داخلي كنافورة من الآلوان والكركرات والفرح وسط عالم من الخراب والنأي والرماد لأجد معك أن الحياة رغم قتامة ليلها إلا أن ثمة أكثر من بصيص ضوء يعلن ولادة فجرٍ وأغنية وقصيدة...

  • أنت عموماً شاعر نشط في التواصل المباشر مع الآخر عبر الأمسيات الشعرية الكثيرة والمهرجانات وحتى التواصل عبر المطبوعات – الصحافة – وغيرها، وهنا لدي سؤال من شقينِ: أولهما عن رؤياك الخاصة للعلاقة بين المبدع، والشاعر خصوصاً، وبين متلقي الإبداع أو "الآخر" عموماً. كيف ترى هذه العلاقة ؟ والشق الثاني متعلق بالأول وبما عرف عنك كشاعر دؤوب ونشط: ما الفرق بين التواصل المطلوب – لا المشروع فقط – إعلامياً، وبين الترويج الذاتي الذي يقوم به البعض كي لا تغيب أسماؤهم عن وسائل الإعلام على اختلافها ؟

  • بالنسبة لشق سؤالك الأول، أرى أن مثل
    العلاقة بين الشاعر والمتلقي هي علاقة جدلية جمالية منذ أول نص حفره الشاعر الأول على الحجر ليقرأه الآخر.. وحتى آخر نص يكتبه الشاعر المعاصر أو يلقيه أو ينشره أو يبثه في فضاء الأنترنيت ليصل الآخرين. هذه العلاقات هي الجسر الضوئي الذي يصل بين ضفتين رائعتين لا معنى لأي منهما بدون الآخر. فلا نهر بضفة واحدة. وهذه الضفة الأخرى هي حلم للوصول عالق في تأريخ أي نص وبشر وقضية. وهي مبتغىً مفتوح على كافة الاحتمالات والاتجاهات،... وما هذا إلا تأكيد طبيعي على سعي طرفي معادلة الإبداع أي منتج النص ومتلقيه للتواصل الذي هو جوهر الإبداع والتماثل والتحاور والذي هو سر الديمومة في هذه العجلة الضوئية التي مازالت تدور منذ الأزل على طريق البشرية وعبثاً حاول البعض عرقلتها أو التقليل منها، بدعوى "موت المؤلف" تارة أو غياب المتلقي في ذهان المؤلف والخ... ومهما صح ذلك إلا أن المتلقي موجود جدلياً ونصياً لا يمكن ازاحته بمجرد انك تغظ الطرف عنه لحظة الكتابة أو فيما بعد... فهو الذي سيستقبل النص رفضاً أو قبولاً وليس هذا بالمقياس الفيصل والأخير، لكنه تأكيد على وجود الآخر – شئنا أم أبينا – وعندما أقول أن الآخر ليس هو المقياس الثابت دائماً ففي ذهني الكثير من الإبداعات التي استقبلها المتلقي بفتور أو بالرفض القاطع بل والتهجم والشتائم، لسبب أو لآخر لكنه سرعان ما عاد ليلتفت إليها بانبهار ودهشة مثل حصل مع رواية يوليسيس التي أشاح عنها الجمهور أنظاره ووصفها بعض النقاد بأنها "أدب مراحيض" ثم عادوا لتلقفها، ووضعها في مصاف " أهم روايات القرن العشرين". ومثلما حصل لديوان " أزهار الشر " لبودلير و "قصائد عارية" لحسين مروان ومثلما حصل لقصائد الرواد في الخمسينات ، وثلما يحدث ذلك الآن وسيحدث فيما بعد. وهذا أمر طبيعي في علم السيسيولوجيا والابداع باختلاف الأذواق والأزمان والأمم.
    أما شق سؤالك الثاني فهو يقودني إلى حالة اللهاث الإعلامي التي وجدنا البعض من الكتاب والشعراء غارقين فيه، متوهمين أن الأضواء الاعلامية يمكن أن تخلق شاعراً وتثبته في ذاكرة القاريء أو تأريخ الأدب..
    هذا التوهم فرضته بعض الحالات الناشزة التي انتفخت بالوناتها بهواء الاعلام لكنها ما أن حلقت بعض الشيء ولامست سعاع شمس الحياة حتى انفجرت وغابت الى الأبد .. واقرأ معي المئات من الأسماء التي كانت تراحم السياب أو صلاح عبد الصبور بضجيجها الإعلامي في الصحف والمجلات وعلى المنابر.. أين هي الآن؟..
    في مكتبات النجف وقع بين يدي ذات يوم ديوان قديم للسياب مطبوع في مطبعة الغري بطبعة بائسة جداً والى جانبه ديوان فاخر الطباعة لشاعر عراقي نسيت أسمه – تصوّر – رغم أن أسمه كان مثار سنابك خيول الاعلام. ترى أين انتهى هذا الشاعر الذي ضاع أسمه في تلافيف النسيان، وأين انتهى السياب ؟
    والأمثلة كثيرة، أخلص منها الى أن الإبداع وحده لا الترويج ولا التهريج هو الذي يخلق الشاعر.. وان الجهد والمثابرة والقراءة والبحث والاستكشاف والتجريب والمعاناة والرؤى والتحليق هو من يؤجج شعلة الشاعر وليس أضواء المنابر التي ستنطفيء ما أن ينزل الشاعر من منصته..
    لذلك فالتواصل بالنسبة لي ومنذ البدايات هو الدأب والتجريب والقراءة بجنون والانفتاح على كافة الاتجاهات والحفر في جبل الإبداع. هذا هو ما اعتبره عملي اليومي، وأتذكر أن غابريل غارسيا ماركيز كان يصعد الى غرفته، مرتدياً بدلة العمل، ليبدأ بالكتابة.. وما هذا إلا تأكيد على الاشتغال والمثابرة كعامل أساسي للابداع والتواصل، وكان الشاعر لوركا يرى ان الموهبة تشكل 1% أما الباقي فهو المهارة والاشتغال..  ولماركيز كلمة أحببتها كثيراً وكنتُ أعلقها على جدار مكتبتي في بغداد، يقول فيها: " في اليوم الذي لا أقرأ فيه ولا أكتب، لا استحق وجبة الطعام".

  • وليدك الآخر حتى الآن "تأبط منفى" .. ما الذي يميزه عما سبقه؟

  • قد أقول لك على طريقة البعض: الجواب متروك للنقاد وللقراء. وهذا ليس تخلصاً.. فأنا أرى أن الشاعر لا يستطيع الحكم بشكل دقيق على مسيرته الشعرية وتمييز مراحله لأنه داخل هذه المسيرة أي داخل النص.. لذا يأتي حديثه عن نصه ملامساً له أو تسليطاً لبعض الضوء عليه، وليس لكشف أغواره أو معرفة مفاتيحه..
    لكنني ومن باب تسليط الضوء – ليس إلا – أقول أن هناك ثلاث محطات مررت بها وهي، أولاً: البدايات، ثانياً: تجربة الحرب، وثالثا: المنفى.. وهذه المحطات ليست ثابتة أو نهائية. وقد تبدو الآن متداخلة وهي كذلك إلا أن ثمة فواصل يمكن للناقد تلمسها بسهولة ففي البدايات كنتُ مساقاً مع غنائية القصيدة تائهاً بين مراياها وصفيرها وأحلامها.. وعندما دقت طبول الحرب عام 1980 وجدتني أخوض في برك الوحل والرصاص أفتش عن براءة حلمي في هذا العالم نصاً أو جزيرة أو يوتوبيا تبعدني عن الموت والهلع والكوابيس. لهذا أخذت لغتي صوتاً خاصاً وسط ودي القنابل والصراخ والموت المجاني.. وحينما خرجتُ من الحرب سهواً وألقت بي الرياح خارج الوطن وجدتني في المنفى، مفتوح العينين والروح والأحزان على دروب شتى، كل درب يفضي بي إلى آخر.. ومن هنا تأبطتُ منفاي ووطني وشعري ورحتُ أجوب أرصفة العالم متسكعاً، بحثاً عن وطن يؤويني، وطن بمساحة القصيدة وقصيدة بمساحة الوطن. وقد جاء ديواني الأخير حاملاً هذه الهموم والأحلام وكما تعرف فأن عنوانه منحوت من أسم الشاعر الجاهلي، تأكيداً على موضوعة التراث والمعاصرة من جانب، وعلى الامتداد التأريخي لمفهوم النفي لكل ما هو خارج سياق المألوف...

  • أين يقف عدنان الصائغ من دوامة الجدل حول أدب الداخل وأدب الخارج و"أزمة الثقافة العراقية" حالياً بشكل عام ؟ ما هي طبيعة الأزمة كما تراها؟

  • أزمة الثقافة العراقية ليست بسبب الداخل والخارج، فلا داخل ولا خارج في مفهوم الثقافة أبداً وأنما هي مصطلحات تجارية أو سياسية  بائرة ربما يطلقها البعض بحسن نية كمصطلح شائع أو يتداولها بعض الفارغين لتسطيح الأزمة.. فأنا لا أرى فرقاً أو تقاطعاً بين ما يكتبه سعدي يوسف وفاضل العزاوي في المنفى وبين ما يكتبه محمد خضير وعبد الخالق الركابي في الداخل إلا بمقدار ما يمنعه الرقيب هناك أو يتيحه المنفى هنا..
    إذن لنعود إلى جذور أو جوهر أزمة الثقافة العراقية بشكل عام وهي الحرية أولاً والشتات ثانياً.. ومن هذين يمكن أن تتفرع عشرات الأزمات والأسئلة والأشكال والاشكاليات.. لكنهما يبقيان قطبي الأزمة..
    فكون سكون بولص وغيره من المبدعين في الخارج لم يمنحه امتيازاً إلا بقدر ما يمنحه ابداعه. وإلا كم عدد الشعراء الذين في الخارج ولا يشكلون شيئاً..
    وكذلك الأمر بالنسبة لجليل القيسي إذ لم يمنحه مكوثه في الداخل امتيازا إلا بمقدار ما يمنحه ابداعه .. وإلا كم عدد القصاصين المتواجدين في الداخل، ينشرون عشرات الكتب ولا يضيفون شيئاً..
    القضية وما فيها، هو ما أعطيت من نتاج شكلاً ومضموناً. وفي نوعية هذا العطاء الابداعي وجوهره.. لذا علينا أن ننظر الى هذا النتاج الخالص بعين مفتوحة على الابداع والمعنى الانساني ولا غير ذلك. ومن هذا الباب ( وبعد اسقاط الأدب السلطوي والحزب والاعلامي منه)  نستطيع ان نرى المشهد الثقافي العراقي بشكل واضح ودقيق ونتلمس مقوماته واتجاهاته في خضم المرحلة التي نعيشها - في الداخل والخارج – لنحكم عليه بصدق ومسؤلية بعيداً عن الطبول والتهريجات والخلط، لنرى ونسأل ذلك السؤال الجوهري والمغيب: هل استطاع هذا النص أن يعبر عن مكنوناتنا كأناس نعيش على هذه البقعة الساخنة من الأرض.
    وفي هذا المشهد ارى أن هناك في الداخل ووسط ركام من المطبوعات الهشة والدعائية، نصوصاً غاية في الجمال والإبداع والروعة، مثلما أجد الأمر نفسه في الخارج. لكن البعض لا يلتفت إلى هذه المعادلة لسبب أو لآخر. وهنا يكمن جانب خطير من هذه الأزمة منها، فتلك النصوص الرائعة المستقلة تبقى معلقة في الهواء ، في انتظار الصدفة. تبقى بلا رعاية ولا اهتمام ولا أحد يلتفت إليها .. فالسلطة مهتمة بأدبائها. وأحزاب المعارضة تفعل الشيء نفسه. ليبقى المبدعون المستقلون خارج حلبة الصراع، وحدهم، يشقون من أجل إيصال نصوصهم ويصارعون الظلمة من أجل ربيع الإنسان.

  • واقع الشعر العربي اليوم ؟؟ هل يحتضر الشعر فعلاً كما يُرَوَّجُ البعض، خاصة بعد رحيل عدد كبير من عمالقة العربي في السنوات الأخيرة ؟ وذلك السحر في الشعر كيف خبت ناره واختفت هالته ؟

  • لم يخفت نار الشعر رغم ما يشاع، فمازال لهيبه متوقداً في فضاء الأبدية يحج إليها المبدعون والتأريخ والأمم.. يؤرخون احلامهم ويلونون أيامهم ويسمعون عبره نجوى البشرية منذ الاف السنين.. ويتركون نجواهم مبثوثة في ناياته المسافرة في الريح ..
    الذي حدث يا صديقي أن كثرة الاضواء وضجيج العصر جعل صوته يبدو للوهلة الأولى شاحباً ومكسوراً.. وما هو بشاحب ولا مكسور.. بل هو اليوم أكثر التصاقاً بشرايين الانسان في وحدته وتغربه في هذا العصر الذي ما من عصر أكثر تغرباً وترملاً منه .. لهذا يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى دفئ الشعر وناره الخلاقة ليرى فيها ما لم تقله الكتب والمنابر والشاشات. ويبقى الشعر بسحره الخاص ووجوده الأثير، عصياً على تقلبات الوجود.

  • "العراق الذي نفتقد" .. هل يعود ؟ أم .. ؟

  • نعم سنعود إليه ويعود لنا أكثر دفئاً وعناقاً وألقاً برغم الشتات والحروب والسياسات والتقلبات ..
    فكم مرّت بأرضه من قوافل وغزاة وطغاة.. لكنهم سرعان ما اندحروا وظل هو، وظل ربيعة عامراً بالخصب والحضارات والقصائد والألق ..
    أقرأ معي هذا المقطع من "مرثية أور" قبل 4000 عام
    "ويحك يا ننار لقد هوت مقدسات أور وذبح البرابرة شعبك. لقد تشرد القوم وأصبحت أور خراباً "
    وصولاً الى مراثينا الجديدة في قصائد الجيل التسعيني التي تصلنا من هناك. ستجد أن الحروب والمراثي تكرر نفسها والطغاة أيضاً والمنفى يكرر أشكاله.. ويبقى الشاعر في كل زمان ومكان حاملاً صلبانه أبداً..

  • وماذا عن جيلكم الثمانيني؟

  • أنا ضد تقسيم الأجيال بوصفها خانات زمنية يركن اليها أو يُصف بها المبدعون حسب قوائم أعمارهم أو تجانيدهم أو مذاهبهم. الجيل يمكن أن يطلق على حركة فنية أو اتجاه مغاير ابتدعه مجوعة منفلته عن المشهد  السائد .. أو ابتدعها شخص وانظم اليها الآخرون.. مثلما حدث في جيل القصيدة الحرة أو في جيل قصيدة النثر وفي الفن التشكيلي نرى الانطباعيين وجماعة البعد الواحد .. والخ. هنا يصبح المصطلح أكثر علمية وانسجاماً من اطلاقه العشوائي على العقود.. ومن هذا فأنا أتحفظ على دلق مصطلح الجيل فوق كل رأس كل عقد من عمر الشعراء..
    لكنني يمكن أني أرى في بعض شعراء ما بين الحربين، وأقصد بهم الجيل الثمانيني والتسعيني الذين ولدوا بين اعصارين مدويين وتفتفت مواهبهم في هذا المناخ الساخن، أرى قيهم  وأجد لهم ملامح واضحة ومؤشرات متميزة لتكوين جيل، مستثنين الموجة الغامضة التي جاءت امتداداً للفراغ أو للجيل السبعيني وبعض الستينيين في طريقة الكتابة ومناخاتها ،ولا تمايز لديهم ولا اختلاف، لكي نطلق عليهم جيلاً جديداً رغم انهم عاشوا المخاض والزلزال نفسه الذي عاشه أقرانهم.

     
    البحث Google Custom Search