أوقفني في الرحمانية، قال: اجلس في خرم الإبرة ولا تبرح وإن مر عليك الخيط لا تمسه، وأفرح فإني لا أحب إلا الفرحان.
- النفري -أني والله لأرى أبصاراً طامحةً وأعناقاً متطاولةً ورؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، كأني أنظر الى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى
– الحجاج -ما للفرات يسيل عذباً سائغاً عجباً وورد بني الفرات أجاجُ
النفط يجري في العراق وما لنا ليلاً سوى ضوء النجوم سراجُ
لا تحسب الحجاج مات ولم يعد فبكل عصر عندنا حجاجُ
- أحمد الصافي النجفي –"لو .. فقط ..
أحمل البحر بين يدي .. وأكون مرفأ
وأملأ الرشاشات بالقبل .. وأعلن الحرب
.. وأعشق أمرأة .. ليكون لموتي معنى ..
إذن .. مددت لساني للشعراء .. هكذا:
"…………"!"
- أحمد الشيخ علي "شتيمة.."-مدخل ثان:
ليس سهلاً لمدينة اكاديمية كالنجف تعيش على الفقه والجنائز والأصول ويمد الموروث ظلاله على الكثير من تفاصيلها اليومية من "مفاتيح الجنان" إلى شعر الغزل والأخوانيات، أن تتخلى عن هذا الأرث الضخم وتنزع إلى ركوب موجة الشعر الحديث، لتتفاعل مع حركة الحداثة التي عصفت بعموم العالم في بدايات قرننا الحديث.
هكذا يبدو الأمر.
لكن قراءة فاحصة لتأريخ النجف من جهة وللمشهد الشعري الآن يقلب المعادلة على قفاها ويتركنا جميعاً في تسائل وذهول أمام نصوصها المعلنة والخفية والمغيبة. هذا التساؤل الذي ساهمنا جميعاً إلى حد ما في تجنب الإجابة عليه، وكل له سببه، غير إن لا أحد يستطيع إلى الأبد تجاهل تلك الزهور اللامعة الشرسة التي تمد أعناقها الطرية الخضراء في الأرض المقفرة. يقول كونستانتا جيورجيو: "أن الأمل عشبة تنبت حتى بين القبور".
فالمدينة التي أنجبت واحداً من عمالقة الحداثة في الأدب العربي برمته على مر العصور ألا وهو محمد بن عبد الجبار بن النفّري (1) حرية بأن يبقى أشعاعها الفكري يتوالد إلى الأبد وأن لا تتوقف عن الخلق مهما طالت عليها عصور الظلام.
ناهيك عن مالئ الدنيا وشاغل الناس أبي الطيب المتنبي، وشيخ العربية الكسائي (2) …
حتى إذا انحدرنا إلى مطلع القرن العشرين فاجأتنا موشحة الحبوبي:
يا غزال الكرخ وا وجدي عليك كاد سري فيك أن يُنتهكا
هاتني كأساً وخذ كأساً إليك فلذيذ العيش أن نشتركا
وإذا جدت بها من شفتيك فاسقنيها وخذ الأولى لكا
وهو رجل فقه كان يؤوم المصلين في مساجد النجف، بالإضافة إلى كونه من أوائل من حمل السلاح لمقاومة الإنكليز.
وصولاً إلى مطبعة الغري التي شهدت في منتصف القرن ولادة ديوان السياب "أساطير".
حتى الحصيري وهو يترنح في أزقتها صارخاً:
ما زلت طفلاً غريراً كيف تقربني؟ أنا التشرد والحرمان والأرق
أنا الشريد لماذا الناس تذعر من وجهي؟ وتهرب من قدامي الطرق
وحتى آخر شاعرة تسعينية تتمشى بعبائتها النجفية الملفوفة تحت "مرزاب الذهب" وهي تردد:
"وأنا أصعد سلم داري
اسأله في كنه قراري
أكل هذا العلو
ويوجد من يدوس عليك".
– فليحة حسن – قصيدة "يوميات 1"
والى آخر ما ستنجب النجف من أجيال وأجيال ...
لقد شهدت النجف عبر تاريخها الطويل الكثير من الأحداث السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية أثرت على مجمل حياتها وحركاتها العلمية والفقهية بشكل عام وعلى حركتها الشعرية بشكل خاص لكونها واقعة بين تيارات سياسية ودينية كانت تتجاذب أطرافها من جهة وبين تيارين شعريين: سلفي يحمل إرث الماضي ويقدسه، وتجديدي يتطلع إلى الحداثة
وبين هذه الأقطاب المتصارعة انقسمت حركة الشعر مثلما انقسمت المدينة فهي من جانب جامعة العلوم الإنسانية والإسلامية وعلى أديمها نشأت أعظم مدارس الفقه، ومن جانب آخر فهي مرتع خصب للتمرد الروحي والشعري والثوري والاجتماعي والسياسي، وللتحرر الوطني وغير ذلك.
ترى كيف جمعت النجف كل هذه الأضداد:
الفقه.
الخمريات.
الثورة
القبور
الأدب المكشوف
المواكب الحسينية
شعر الأخوانيات
الحداثة
ومن جهة أمتزج التصوف والحركات الصوفية بالفقه والتشيع فقد تسربت اشعاعات الفيض الإلهي من رسائل أخوان الصفا وخلان الوفا على الكثير من النصوص، وشهدت الكوفة فيوضات ربيع بن خيثم وعبدك الصوفي وجابر بن حيان والكندي والخ. وكذلك مواقف النفري ومخاطباته التي تركت بصماتها واضحة على حركة الحداثة العربية ورموزها ومنهم أدونيس والبياتي وأنسي الحاج وغيرهم وما تلاهم من أجيال، في العراق وفي الوطن العربي.
ومن جهة أخرى كان السلاطين والولاة يتعقبون علماءها ومجتهديها قتلاً ونفياً لكنهم كانوا يطلبون منهم التدخل لحل النزاعات بين العشائر حين تعجز عن إيقافها لما يعرفونه عن مكانتهم الكبيرة وتأثيرهم الروحي على المجتمع. هذا التناقض الغريب الذي ظل سمة الحكم في العراق على مر العصور.
فهذا سليمان القانوني يترجل من فرسه وسط حاشيته وجنوده حين يلمح قبة ضريح الإمام علي على بعد أربع فراسخ من النجف تهيبا واجلالاً وتقديساً وفرائصه ترتعد كما قال لخلصائه وهو يمشي على قدميه باتجاه الضريح.
وذلك أبوه سليم الأول الذي أوجد نمطاً من الشرطة السرية – كما يذكر حسن العلوي – تتقفى آثار الشيعة وأمرهم بإلقاء القبض عليهم في وقت محدد ليقتل منهم أربعين ألفاً ويودع الباقين في غياهب السجون.
يمتزج هذا بالخذلان الذي لقيه مسلم بن عقيل حين لم يجد له في الليل من مأوى غير بيت امرأة من أحياء الكوفة تدعى "طوعة" بعد أن كان قد صلى الظهر في جامع الكوفة وخلفه آلاف المصلين. ثم ما حدث من مصرع الحسين غريباً وسط جماهيره التي تكالبت عليه وداسته بحوافر خيولها، لتخرج بعد ذاك تلطم عليه وتضرب رؤوسها بالسيوف وظهورها بالزناجيل حزناً وندماً (3).
وما تلا ذلك من ثورات وحركات فكرية معارضة أربكت الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية و..و..
من انتفاضات التوابين
وابن الأشعث،
وزيد بن علي (4)
والقرامطة
وهوس أبي الفضل الكوفي (5) والخ والخ
ليبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه لكل الحركات والصراعات والأفكار والأختلاف والقتل والتشريد والذبح (6).
لكنني لن أفصل هذه النقاط عن بعضها فهذا التضاد – يا للمفارقة المرة والمدهشة معاً – هو واحد من أهم خصائص المدينة وتكوينها الفكري والتأريخي والسوسيولوجي والشعري، فتبدو فيها المتناقضات متداخلة ومنسجمة إلى حد كبير لا يمكن الفصل بينها، فمسجد الكوفة الذي شهد خطبة الحجاج الشهيرة عام 75 هـ متكئاعلى سيفه، شهد ايضاً خطب الصدر الأخيرة عام 1999 مرتدياً كفنه. والحصيري صاحب القصائد الخمرية الرقيقة لا يمكنك فصله عن بحر العلوم والبرقعاوي وجمال الدين (7) وفرج الله وغيرهم. وفسيفساء قصر الإمارة (8) تحاذي زهد بيت الإمام علي. وديوان "قصائد عارية" لحسين مردان قرأته في مكتبة الأمام محسن الحكيم في صباي وعلى مقربة منه في الرف المقابل قرأت شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد.
ولكي لا يأخذنا البحث في تشعباته – وما أكثرها – ويبعدنا عن المتن لا بد من المرور سريعاً بأهم محطات المدينة حتى يتسنى لنا رؤية المشهد عن قرب وتلمس جمرات النص المشتعلة الآن في أحشاء شعرائها.
سأترك لـ باستروف أن يختصر الرحلة على جسر المثيولوجيا ويوصلنا إلى حقيقة "أن طقوس العبادة وزيارة الأضرحة المقدسة والتراتيل الدينية الحزينة التي كان الكهان يقومون بها في بابل القديمة تشبه إلى حد بعيد ما يجري في احتفالات عاشوراء التي تقوم على نفس فكرة الشفاعة والإنقاذ".
ومن هذا المدخل سنصل إلى فهم هذه التراجيديا الدائمة التي تغلف المدينة وتخيم على أجوائها بشكل ملحوظ، يمكن أن نستشفه من أنين النواعير حتى أغاني الأعراس ومن القصائد حتى أجواء المقاهي. ثمة دم عبيط تحت كل حجر وفي كل غروب شمس – هكذا تقول المثيولوجيا – كنا نراه ينسرب عبر سعفات النخيل إلى النهر متراقصاً مع أمواجه التي حُرم السبط الشهيد من شربها، أو فارشاً لونه الأرجواني على سطوح منازلنا.
هل كان ذلك الشفق دم الشهيد كما يقول السيوطي وأبن سيرين والقندوسي وابن حجر الهيثمي والطبراني وأبي مخنف والخ (9).
أم هو جمرات أرواحنا التي تلوب خلف النصوص الخبيئة.
* * *
الفصل الأول:
أن كثيراً من النصوص تخفي وراءها نصوصاً أخرى
- المفكر الفرنسي جيرار جينه -إننا بحاجة الى الخيال كي نواجه تلك الفضاعات التي تفرضها علينا الأشياء.
– بورخس -بعد مخاض طويل أكتشفت القابلة أن الأم عاقر وأن مايملأ جوفها محض فراغ؟
سيدتي إمسحي عن جبينكِ عرق الولادة فليس في جوفكِ غير جنين لم تكتمل أعضاؤه بيد إنه يرفض أن يغادر جسدك فإنتظري أياماً أخرى قد تلدين طفلكِ وربما يلدك. لا يهم فلدى القابلة أكثر من عمر فائض عن حاجة الإنتظار.
– جنان المظفر -لقد فتح الشاعر في الجنوب العراقي عينيه على تراجيديا مستمرة منذ قرون وكان على مقربة من زقاق طفولته تمر مواكب اللطم والسبايا وقصائد الفجيعة فيأخذه عاملان: ديني، وآخر سياسي. يمتزجان أحياناً ويفترقان عله يجد فيهما أو في أحدهما متنفساً له عن القهر الذي مارسته الحكومات المتعاقبة على هذه الأرض. فقد انتقلت في المخيال الشعبي تراجيديا واقعة الطف على مر الأجيال رمزاً للثورة والخذلان معاً، وأبتكر الشعراء طرائق فنية جديدة للتعبير عن مفاهيم الثورة والرفض.
لقد درس عالم الاجتماع الأمريكي المعروف جيمس سكوت أشكال المقاومة الفردية والجماعية لقوى السلطة في كتابه "المقاومة بالحيلة" والتي يمكن أن نسقطها على واقعنا المعاصر لنرى من خلالها كيف أبتكر الشاعر العراقي وسائل المقاومة المتعددة، فازدياد قسوة السلطة وسّع من مساحة الثقافة التحتانية. هناك مثل أثيوبي يقول "حين يمر السيد العظيم ينحني الفلاح الحكيم انحناءه عميقة بدهاء، ثم يذهب بصمت" ويذكر الروائي الفرنسي بلزاك في روايته "الفلاحون" حكمة شعبية على لسان فلاح فرنسي عجوز يوصي أبناءه قائلاً: "يا أبنائي، لا تقتحموا الأشياء مباشرةً، أنتم ضعفاء جداً، خذوها مني، أقتحموها جانبياً، تظاهروا بأنكم أموات، العبوا دور الكلب النائم". وحيث يبتكر الضعيف آلاف الأساليب في حضرة القوي، فأنها ليست استسلاماً أو استكانة وأنما نوع من التحدي عبر الخطاب المستتر أو الصمت أو الحيلة والخ. وتذكر لنا كتب التأريخ أن أهل الكوفة تظلموا من واليهم فشكوه الى المأمون فقال لهم : ماعلمت من عمالي أعدل ولا أقول بأمر الرعية وأعود بالرفق عليهم منه فقال رجل منهم:
– يا أمير المؤمنين، ما أجد أولى بالعدل والإنصاف منك. فإن كان بهذه الصفة فعلى أمير المؤمنين أن يوليه بلداً بلداً. حتى يلحق كل بلد من عدله مثل الذي لحقنا ويأخذ بقسطه منه كما أخذنا وإذا فعل ذلك لم يصبنا منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك المؤمون من قوله وعزله عنهم.
وتذكر جورج إليوت في كتابها "دانيال دوروند": "وما الكراهية الأشد صلابة سوى تلك التي نجد جذورها في الخوف والتي تتكشف عبر الصمت، الصمت الطويل". هذا القناع الذي عرفه الإنسان منذ أن عرف أشكال السلطة ويتجلى ذلك في حوارية السيد والعبد في الأدب البابلي والأساليب المواربة للفلاحين وحيلهم المتعددة في العهد الفرعوني. وقد ابتكر المثقفون في زماننا هذا آلاف الوسائل للتنفيس ومقاومة القهر ويشكل النص واحدة من أهم وأخطر تلك الوسائل.
ويرسم عبد الغني الخليلي" صورة نجفية" عن تلك الحالة في كتابه "سلاماً يا غريب" لها أكثر من مغزى. يقول: "وأذكر مرة كان الشاعر ابراهيم الوائلي يلقي قصيدة في حفل زفاف صديق له وقد بدأها – كما هو مألوف – بالعتاب على الحبيبة التي هاله هجرها له ولما انتهى من قراءة قصيدته قام أحد البقالين، وكان حاضراً ذلك الحفل قائلاً له: أحسنت يا شيخ إبراهيم، شتائمك على الإنكليز وعلى نوري السعيد قوية. فأجابه الوائلي: أنني لم أشتم الإنكليز ولا نوري السعيد. فرد عليه البقال وهو يبتسم: تحسبني جاسوساً عليك وتنكرها أمامي؟
إذن كان كلا اللونين في الشعر – الحسيني والسياسي – يعبران عن هموم النجفيين الأجتماعية والأقتصادية والوطنية وتنفيساً لهم".
لقد سبق السؤال التأويلي لبقال عبد الغني الخليلي أطروحة جيمس سكوت بعقود وهو قراءة ذكية لما تحت سطور القصيدة المبطنة، مثلما سبقه بقرون وقرون تعقيب ذلك الرجل الكوفي الحكيم أمام المأمون.
يقول سكوت: "لدى الضعيف أسباب بديهية ومبررة تجعله يسعى للعثور على ملجأ له خلف القناع حين يكون في حضرة السلطة".
ويذهب الدكتور إبراهيم الحريري معه في كتابه "تراجيديا كربلاء": "إن خطاب العزاء الحسيني أداة من أدوات النقل والتوصيل المثالية للمقاومة الشعبية – الثقافية وهو خطاب يمكن أن ندعوه بايديولوجيا معاكسة أو تمرد آيديولوجي مناهض يكون له خطاب علني يقال في وجه السلطة وآخر مستتر يقال من وراء ظهرها" ثم يمضي إلى القول: "لقد طبع الخوف والقمع والأضطهاد تاريخ العراق بالحزن ولونه بالأسى الذي ما زال يجد تعبيره في مراسيم العزاء الحسيني باعتبارها وسيلة من وسائل الرفض والمقاومة الخفية وجسراً للتعبير عن الذات والدفاع عنها وحمايتها".
وكثيراً ما كنت أسمع في مجالس النجف من يردد حديث الرسول:" أفضل الجهاد عند الله كلمة حق في وجه سلطان جائر" .
وقد انتبهت السلطة لتأثير مفاهيم الحق والثورة فوصفتها بالأفكار الهدامة وحاولت الرقابة الرسمية الصارمة منع تسربها وانتشارها فصادرت بعض الكتب والمجلات وفرضت رقابة سرية حتى على الرسائل الداخلة والخارجة والهواتف والنوادي والتجمعات لمنع وصول وتواصل الثقافات غير الرسمية، فكان هذا " الضغط - حسب "باختين" - عاملاً مشجعاً على ظهور أنماط عديدة من الخطاب المستتر يأخذ أشكالاً متنوعة". يمكن تلمسها في السخرية والنكتة السوداء وعبارات الأبتذال أو الكفر وقلب كلمات الأناشيد والخطب كنوع من تحدي الخطاب الرسمي المنظم. وبهذا يصبح الخطاب المستتر والثقافة الشفهية اللذان لا تستطيع السلطة مصادرتهما أكثر صدقاً في التعبير عن آلام الجماهير وأحاسيسها.
ويصور الرئيس والكاتب فاتسلاف هافل المجتمع الإنساني بأنه "حيوان غامض جداً مكتنف بالأسرار له وجوه وامكانات مخفية عديدة ومن قصر النظر البالغ أن تعتقد أن الوجه الصحيح الذي يعرضه المجتمع في لحظة من اللحظات هو الوجه الصحيح فلا أحد منا يعرف جميع الإمكانات التي تكمن نائمة في روح السكان".
أن الظلم يقود المضطهد إلى البحث عن وسائل عديدة وطرق للتعبير فإذ اتخذ الكاتب وسيلته عبر الكتابة، اتجهت الجماهير إلى اللطم وجلد الذات تعبيراً عما أصابها والعراق من محن (لكن هذا لا يلغي من جانب آخر الكثيرَ من المآخذ على بعض تلك الوسائل)، واتجه البعض الآخر الى وسائل أخرى. وهذه الوسائل كلها تشكل تنفيساً لجوانيات المضطهد وتخفف من الضغط اليومي الذي يمارسه الحاكم. ويرى عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن القناعات أو الطقوس الدينية تعكس احتجاج المضطهدين.
لذا فرضت السلطة نفسها على كل شيء في حياتنا بدءاً من الشرطي الذي يرقب الشارع إلى الشرطي الذي يراقب النص.
وأمام شعارات الحاكم التي تحاول فرض هيمنتها على العقل/ النص / الحياة، تتبلور حاجتنا باستمرار إلى خطاب أذكى وهذا يتطلب تبلور وتطوير ثقافة تحدٍ خارج مسرح السلطة، تنمو داخل الأوساط المتكاتفة ثقافياً وأجتماعياً والواثقة من بعضها البعض، والعمل من الداخل والخارج لمساندتها ودعمها، لمجابهة مشهد القمع والبؤس والحرمان اليومي.
"أليست الأعمال - يقول باشلار- خلاصاً لمن عاش حياة بائسة؟
نعم.
فمنذ أن فتح جيلنا عيونه، و"رادودنا" حمزة الصغير يصيح:
"جابر يا جابر ما دريت بكربلا اشصار/من شبو النار/ نار اليوجرها القلب منهو اليطفيها"
وظلت النار مشتعلة بين جوانح العراقيين تبحث عمن يطفؤها.
* * *
الفصل الثاني:
يقال أن الشعوب السعيدة ليس لها تاريخ.
- أراغون -التاريخ ديوان العبر.
- أبن خلدون -.. وكان هناك أرشيف لرؤوس القتلى الخارجين على الخلافة العباسية يسمى بـ "خزانة الرؤوس" تحفظ فيه رؤوسهم بعد أن تُقطع وتُنظف
- د. محمد حسين الأعرجي -من كتاب جهاز المخابرات نقلاً عن الكامل في التاريخ
أن الشقي من حُرم ما أوتي من العقل والتجربة.
– علي بن أبي طالب -من كتاب له الى أبي موسى الأشعري
لم يكن هذا القهر وليد الحاضر فقط وإن كان يشهد أعنف مظاهره اليوم غير إن له امتداداته منذ أن تأسست الكوفة عام 17 هـ / 638 م في زمن الخليفة عمر بن الخطاب ومن ثم نشأت النجف بعد دفن رفاة الإمام علي بن أبي طالب سنة 40 هـ وإقامة العمارة عليها من قبل عضد الدولة البويهي عام 371 هـ، حتى يومنا هذا، وما مر خلال ذلك من نكبات وبناء وأهتمام ومشاريع ري وقطع ماء وتهديم وحروب وتنكيل.
وإذ أصبحت النجف ملاذاً للعلويين الهاربين من قهر الخلفاء قام العباسيون بهدم ضريح الإمام علي خوفاً من نمو النجف ونفوذها المضاد.
وإذ أصبحت مقابرها بعد أكثر من ألف عام ملاذاً لرجال الانتفاضة عام 1991 م، زحفت الدبابات إلى باب الضريح وواصلت مع البلدوزرات طريقها لإزالة الكثير من القبور في وادي الغري، بحثاً عن الهاربين.
ولا يختلف تاريخ الاضطهاد قليلاً أو كثيراً لكنه ولتنوع وسائل القتل وتطورها تكنولوجياً بدأ أكثر شراسة.
فحين ترى الطوسي (385 – 460 هـ) الذي فر من بغداد إلى النجف هرباً من طغرل بيك السلجوقي بعد أن أحرق كتبه، يترآى أمام عينيك مشهد اغتيال محمد صادق الصدر ( - 1999 م) وقد أردته طلقات سلطة الجهل والقمع والظلام على بعد أمتار ودقائق من سجادة صلاته للجماعة في ضريح الأمام علي وخطبه الملتهبة في مسجد الكوفة.
ورغم هذا التاريخ الطويل من التنكيل، فقد ظلت النجف تمارس دورها العلمي والثقافي والفقهي عبر جامعتها المعروفة ومدارسها التي وصلت في بدايات قرننا الحالي إلى أكثر من عشرين مدرسة جاذبةً إليها طلاب العلوم والفقه والآداب من كل أرجاء العالم العربي والإسلامي حتى وصل عدد الطلبة في العلوم الدينية عام 1918 م إلى 10000 طالب كما يذكر جعفر الخليلي في "موسوعة العتبات المقدسة"
وكان الفقه وشرحه يحتاج الى اللغة وآدابها فبرع العلماء فيها وكذلك العامة حتى قال العلامة د. مصطفى جواد: "حتى بقاقيلها هم شيوخ في النحو والأدب".
وقد عُرف عن المدارس اشتمالها أيضاً على جميع فروع المعرفة كعلم الكلام والتفسير والمنطق وآداب اللغة العربية وعلوم الرياضيات والفلك والاجتماع والنفس، وتفتحها على الفرق والمذاهب الإسلامية بعد أن تركت أبوابها مفتوحة للاجتهاد الذي أغلقته الكثير من المدارس الفقهية الأخرى.
(أذكر إننا كنا مجموعة الطلاب ندرس تحت الجسر استعداداً للبكلوريا حين استعصت علينا نظرية فيثاغورس في الهندسة وعلا جدالنا وكان على مقربة منا رجل دين معمم فما كان منه إلا أن تقدم منا مبتسماً وبدأ يشرحها لنا بلغة رشيقة محببة وسهلة حتى استوعبناها).
كما اشتهرت النجف منذ القدم بفنونها الجميلة المختلفة وطرازها المعماري الذي تجلى في قصري الخورنق والسدير وفي أديرتها ومساجدها لينتشر في مدن العراق الأخرى (10)
وفي العصر الحديث كانت الأستعدادات جارية لإنشاء جامعة الكوفة التي خطط لها المهندس المعروف محمد مكية لتكون صرحاً معرفياً على غرار كبرى جامعات العالم مثل هارفرد واكسفورد غير أن السلطات أوقفت المشروع – كما يذكر الأستاذ محمد سعيد الطريحي في مجلة الكوفة عدد 2 تشرين الأول 1996 – واستولت على جميع الأموال الخيرية التي رصدت لها. وكان أحمد أمين وكيل وزارة الداخلية آنذاك قد صرح لعدد من الصحفيين المحليين قائلاً: "قررت وزارة الداخلية في وقت سابق حل الجمعية المؤسسة لجامعة الكوفة. أن التعليم يجب أن يكون تحت أشراف الدولة".
وتنوعت الجمعيات والمراكز الثقافية مثل الرابطة العلمية الأدبية التي ضمت اليعقوبي والجعفري ومحمود الحبوبي ومرتضى فرج الله وعبد المنعم الفرطوسي ومحمد جمال الهاشمي وعلي الصغير ومحمد علي البلاغي وعبد الوهاب الصافي وآخرين. وكذلك منتدى النشر وندوة الأدب المعاصر التي كنت من بين أصغر أعضائها.
بالإضافة إلى ما كانت تعج به النجف من مكتبات ودور نشر وصحف ومجلات عديدة استطاع جيلنا الشعري أن يلحق بأواخرها مثل مجلة العدل قبل أن يتم إغلاقها.
وقد شهدت يوماً بأم عيني بين حشد من الناس تطويق رجال الأمن لأحدى المكتبات في شارع الصادق وختمها بالشمع الأحمر ومن ثم أفراغها بعد أيام لتتحول إلى محل لبيع البقلاوة.
بالإضافة إلى المخطوطات النادرة التي بلغت في مكتبة الأمام علي لوحدها أكثر من عشرين ألف مخطوطة ومثلها أقل أو أكثر في مكتبة الحكيم والمكتبات الأخرى وقد روى لي نقيب شرطة في النجف يوماً وهو يحدثني عن هجوم الحرس الجمهوري على أحد المكتبات في نهاية شارع زين العابدين أن هناك بعض الكتب ذات ورق متهرئ وخط يدوي وأغلفة قديمة كانت تتمزق بين أسنان الرافعات وأيدي الجنود وهم ينقلونها على سطح الزيلات العسكرية فكدت ألطم على رأسي وأنا أكتم صرخة مدوية:
أنها مخطوطات.
…..(11)
………..
وظل يؤمها المفكرون والباحثون من كل أقطار الدنيا، فقد زارها مفتي الديار الفلسطينية السيد أمين الحسيني وأمين الريحاني وكان أهاليها يستقبلونهم بالأهازيج والقصائد ضد الإستعمار والطغاة. كما زارها الكثير من الشعراء والأدباء في المهرجانات التي كانت تقام فيها. فقد زارها الشاعر احمد رامي والدكتورة بنت الشاطئ وآخرون أثناء انعقاد مهرجان مؤتمر الأدباء العرب عام 1965 والذي شهدت قاعة قصر الملك فيصل الثاني على ضفاف نهر الفرات جانباً من مهرجان الشعر فيه، وكان الكاتب محمد كاظم الطريحي قد قدم فيها كلمة ترحيب أهالي الكوفة بضيوف المهرجان، وقدم بعض الشعراء النجفيين قصائدهم، منهم الشاعر د.محمود البستاني والشاعر الشيخ عبد الزهراء العاتي الذي أنشد:
ترنمْ فما أشجاك يا طير منشدا وغردْ فما أحلى الهوى أن تغردا
وردد على زهو الربيع قصائداً من الشعر تهتز القلوب لها صدى
ودرس فيها العلامة جمال الدين الأفغاني والمفكر الشهيد حسين مروة الذي كان ينشر بعض آرائه ومقالاته في صحيفة "الهاتف" لصاحبها جعفر الخليلي. وعُرف عنه تفاعله وعلاقاته الثقافية مع عدد من أدباء النجف، وقد قدم لديوان حسين القسام "سنجاف الكلام" واصفاً أياه بالشاعر العبقري
وشهدت النجف معارضات شعرية بين شعرائها، وبينهم وبين الشعراء العراقيين والعرب مثل مصطفى جمال الدين وعبد الغني الخليلي وعبد الكريم الدجيلي وحسين الصافي ومحمد الهجري. وأنتشر فيها "شعر الأخوانيات" الذي لو قدر أن ينشر ويدرس لرأينا صورة كاملة عن جميع أنماط الحياة الإجتماعية (12)
وكانت تجري على الدوام المناظرات والمجالس الدينية والأدبية وكان مما هو متبع في الدواوين أن يدون المرء ما يقع بين يديه من جديد الشعر وجيده. وتجري المساجلات الشعرية المرتجلة والتقفية والتشطير وغيرها. وقد عُرف عن أدبائها وعلمائها حسن البديهية وسرعة النظم فكثرت القصائد المرتجلة في المناسبات وتفاخروا بها. ولم يقتصر النظم على الشعراء بل نظمه غيرهم من علماء وفقهاء ومثقفين وعامة الناس.
ويروي الخليلي عن شاعر كان يمر على القبور ويدون أبيات من الشعر حتى أصبح شاعراً، كانوا يطلقون عليه شاعر القبور.
وبعيداً عن هذا الشعر المصنوع، تميزت القصيدة النجفية العمودية والحرة برهافتها وحداثتها وسلاسة طبعها وخلوها من الصنعة رغم كثرة مدارس الصنعة. فقد عرف أدباؤها الحركات التجديدية وتأثر البعض بها مثل شعراء المدرسة المهجرية كأيليا أبو ماضي وسليم رشيد الخوري وفوزي معلوف.
وإذا كان العقاد الذي رأس لجنة الشعر في المجلس الأعلى للآداب والفنون قد أحال الكثير من دواوين الشعر إلى (لجنة النثر للاختصاص) بتعمد أقرب إلى السخرية، نجد أن النجف قد احتضنت ديوان السياب "أساطير" في الخمسينات وطبعته في مطابعها التي كانت تحتضن كل جديد. وشهدت مجلة الكلمة التي أسسها حميد المطبعي بواكير تيارات الحداثة الشعرية لجيل الستينات في العراق والوطن العربي وصدرت عن دار الكلمة العديد من النتاجات الحداثوية منها ديوان "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة " عام 1969 وغيرها.
ويذكر الشاعرمصطفى جمال الدين في الديوان: "إن الأسرة الأدبية التي عشناها في النجف كانت أقرب الى التطور من الأجيال التي عاصرناها وعللتُ ذلك بأنها كانت أكثر متابعة لما يجدّ في الساحة العربية من تطلعات أدبية، لذلك لم يكن موقفها من الشعر الحر في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات موقفَ غيرها من نقاد الشعر ومتذوقيه، بل أن بعض جماعتنا أخذ يكتب بعض تجاربه بطريقة الشعر الحر كالسيد بحر العلوم والسيد فضل الله ولا يزال الأخ الهجري محمد العلي يكتب فيه حتى اليوم"
فقد كان تفاعل المدينة وشعرائها مع تيارات الحداثة المختلفة على صعيد العراق والوطن العربي والعالم واضحاً من خلال تلك الأسهامات الحيوية في حركة الشعر الجديد ودراسته، وحين زار جمال الدين الشاعرَ السيابَ في الأعظمية أطلعه - كما يروي - على مسودات المحاضرة التي كان قد أعدها لموسم المجمع الثقافي لمنتدى النشر في النجف "عن الشعر الحر: تاريخه وتطوره" مدافعاً عن شعرية الشعر الحر، كما كتب مرة لجمعية الرابطة في النجف محاضرة عن "ظاهرة التدوير في القصيدة المعاصرة" نشرت في مجلة الرابطة، رأى فيها إن قصيدة "هذا هو أسمي" لأدونيس كان من الممكن أن تكون "معلقة الشعر الحديث" لو كانت العلاقات اللغوية بينها وبين قرائها على مستوى ما إعتادته الإذن العربية من علائق.
وكانت لدراسة عبد الكريم الدجيلي عن البند الأثر في التعريف بهذا النمط الشعري الذي وجد في أواسط القرن الحادي عشر في الفترة المظلمة وكان إبن دريد 321 هـ أول من كتب به ممهداً لكسر موسيقى العمود الشعري وتجديدها.
ولم تخل المدارس النجفية من الأدب المكشوف رغم مكانتها الدينية، وذلك أمر قل أن تجده في مدن أخرى
وإذا كان هربرت ريد قد رأى بان هناك تحالف بين الكاتب الجيد مع القارئ الجيد والرديء مع الأردأ فإن إقبال الجمهور النجفي كان لافتاً للنظر على المكتبات العامة والخاصة وفي معارض الكتب التي كانت تقام في المناسبات .
كما إن تنوع الثقافات ساهم في إثراء الشاعر ويتجلى ذلك في كثرة الوفود والشخصيات الأدبية من مختلف أرجاء العالم وكثرة المكتبات(13) وأصدار المجلات وإقامة الندوات الفكرية والمجالس الخاصة للأدباء وللبيوتات الأدبية المعروفة(14) ولعلماء الدين(15). ومما لا شك فيه إن التراث بما يحمله من معان ودلالات قد لعب دوراً مهماً بشقيه النصي والثوري والتحامهما معاً فثورة الحسين مثلاً هي ثورة على السلفية الدينية والفكرية والتي شجعت على الثورات الجمالية والروحية والشعرية. من جانب آخر عمل الشاعر على توظيف المناسبات للفكر والمفاهيم السياسية والاجتماعية والجمالية التي يحملها ويدعو اليها.
وانظر إلى العقلية المتفتحة لرجال الدين فحين هاج العامة على الشيخ الشاعر صالح الجعفري بسبب قصيدة نظمها عن ثورة الهند على السلطات البريطانية ومقالات نشرها في صحيفة "الفجر الصادق" وبعض الصحف النجفية قام رجال الدين بتكفيره وهاج عليه العوام فقام الأمام أبو الحسن الموسوي بالدفاع عنه فابتعد عنه المحرضون واليك بعض أبياتها:
قف في "منى" واهتف بمزدحم القبائل والوفودِ
حجوا فلستم بالغين بحجكم شرف الهنودِ
حجوا الى استقلالهم وحججتم خوف الوعيدِ
فعبادة الأحرار أشرف من إطاعات العبيدِ
..الخ القصيدة، التي لو قال مثلها أو أقل منها أي شاعر معاصر في هذه الأيام لما استطاع ضمان حياته.
وانظر كذلك الى الشاعر باقر الشبيبي في نقده اللاذع للحكومة العراقية:
المستشار هو الذي شرب الطلى فعلام ياهذا الوزير تعربدُ
والى الشاعر علي الشرقي:
قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل
والى الشاعر عبد الأمير الحصيري:
أنا الأله وجلاسي ملائكة وحانتي الكون والندمان من خلقوا
وفي قصيدته "هجرة القرار":
وليكن لي الطوفان مأوى يوقيني بذخ السجود للأصنام
سفري في مجاهل النبض أسمى من رحيلي بفسحة الأرغام
وليعاقر تمتعي في الأباطيل ضلالاً موائد الإلهام
إنني أسمع أرتطامي في القاع خلوداً .. فأين منك إرتطامي ؟!
تهرم الخمر في قشور العناقيد .. وتفنى الورود في الأكمام !!!
وتبقى من المفارقات المريرة أن هذه "البحبوحة" القليلة من الحرية التي لم تقتنع بها الأجيال الشعرية التي سبقتنا وهي محقة في ما كانت تشكو منه ومن حقها هذا، وجد جيلنا نفسه يحلم ولو بأقل منها تحت كابوس سلطة لا تسمح بأقل نأمة حرية أو هسيس صوت مخالف.
وقارن ما مر عليك من تلك الأبيات مثلاً بقصائد علي الرماحي التي يناجي بها ثورة الحسين والتي أدت به إلى الاعتقال والتصفية:
نور عيني كيف تمضي اليوم عني ولقد حام الردى بالقرب مني
ولقد هد الأسى والضيم ركني ولقد صار لدى الطغيان شأني
أنت طود شامخ رغم الطغاةِ أنت وصل بين ماضينا وآتِ
أنت فصل أنت زهد في الحياة أنت عرش للهدى والمكرمات
أنت ما مت ستحيى في الخلود سوف تبقى صرخة ضد الجحود
وستبقى كاسراً حتى القيود وستعطي درس عزم وصمود
سوف ترقى الخافقين
نور عيني يا حسين
* * *
الفصل الثالث:
لا لن نحفر القبور تعالوا نحفر مكاناً للزهرة.
- أوكتافيوباث -هل انتهت رحلة كلكامش التي جسدها الإنسان الأول على أرض الرافدين في طوافه بحثاً عن عشبة الخلود، وهرباً من الطوفانات والآلهة والطغاة والنفي والموت. هذا الموت الذي فاجأ الإنسان أول ما فاجأه على سطح الأرض والذي تركه حائراً مذهولاً لايعرف ماذا يفعل وأين يمضي بجثة أخيه حتى هداه الطير - حسب ما ترويه السورة القرآنية - الى حفر الأرض فنشأت القبور قبل أن تنشأ الحضارات.
وإذا كان الشعر "يعمل على تنسيق أحزان العالم" حسب قول هاوسمان لكنه كثيراً ما يرتبك أمام الموت وقد يخرس، ذلك إن الفناء هو أكثر المواضيع إيلاماً للشاعر وأكثرها صعوبةً في التناول فعلى إمتداد تاريخ الشعر لم ينتج الموت سوى قصائد مبدعة قليلة جداً، ولاعليك بصناعة قصائد الرثاء المدفوعة الأجر كالمديح والتي ملأت ثلاثة أرباع دواوين الشعراء فهي تشبه الى حد كبير وظيفة النادبات في الأحياء الشعبية. لكن هاجس الموت كفعل وجودي ترك بصماته واضحة على تجربة جيلنا بالأخص، نحن الذين عشنا نصف أعمارنا بين القذائف والجثث والفئران وأناشيد المعارك.
كانت الأحداث متسارعة يصعب حتى تسجيلها وأحياناً حتى روايتها، فكنا نقفز بين الموضوعات الشعرية كأننا نقفز بين القبور نقرأ ألواح الشواهد المرمرية التي ضمت خلف سطورها حياة كاملة هي خلاصة ما يتركه المرء وراءه، وكل ما نفعله هو إضافة بعض السطور المغايرة. وإذا كان الشاعر السوريالي بيير ريفيردي 1889-1960 قد كتب سيرة حياته هكذا: " ولد في.. توفى.. ليس هناك من أحداث ليس هناك من تواريخ لا شيء وهذا أمر رائع". والشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا قد كتب سيرة موته بهذه الصورة:
"حينما ينبت العشب فوق قبري
فليكن ذلك علامة على نسياني بالكامل
الطبيعة لا تتذكر، ولهذا هي جميلة
فإن شعرنا بالرغبة المرضية في تفسير
معنى العشب الأخضر فوق قبري
فلنقل بأني كائن طبيعي
ما فتئت أواصل الاخضرار
وإذا أراد أحد أن يكتب..
إذا أراد أحد أن يكتب سيرة حياتي
فلا أسهل من ذلك
ليس ثمة سوى تاريخين: تاريخ ولادتي وتاريخ وفاتي
وما بينهما يخصني وحدي"
فما الذي سيكتبه جيلنا وقد عاش ومات أسير المخاوف والهواجس والتقارير الأمنية والقصف والحصار والموت المجاني منذ أن فتح عينيه على الدنيا.
كان الموت مرادفاً للكثير من أحلامي وغالباً ما كنت أراه ساطعاً في النص بديلاً أو تأويلاً وكيف لا وعلى مقربة من طفولتي تترامى أكبر مقبرة في العالم هي مقبرة وادي السلام، ففي الليالي الصافية تهيم تلك الأرواح المعذبة في سماء المدينة وتقترب من الشاعر تهدهده وتسامره..
وأذكر في طفولتي أن أبي كان يصحبني إلى شاطئ الكوفة لنجلس في أحدى المقاهي وأظل مشدوداً إلى الجسر أحصي عدد الجنائز العابرة، وأعود منهكاً بالأرقام.
ثم صارت اللافتات السود والنعوش والتوابيت المغطاة بالأعلام العراقية منظراً يومياً ومألوفاً في حياة العراق بشكل عام والنجف بشكل خاص أثناء الحرب العراقية الإيرانية ومن ثم خلال عاصفة الصحراء وما بعدها من فصول ومشاهد لم تترك لجيلنا أن يلتقط أنفاسه وأن يلتفت للحياة والتفاصيل الشعرية الأخرى وأذكر أن الشاعر الكبير سعدي يوسف حين التقيته أول مرة في مهرجان جرش عام 1993 (بعد أن القيت قصيدتي "خرجت من الحرب سهواً " وأمام عيني صورة مقبرة جماعية، هناك، لم أستطع نسيانها) نبهني إلى ضرورة إزاحة هذا الركام لأنطلق إلى رؤية الحياة من جانبها الآخر، أن أنظر إلى الزهرة في ارتعاشتها الأولى، في تفتحها الخلاب، أن أكتب عن طائر أو نجمة أو ..
" في كل ليلة
يرفع الموتى غطاء قبورهم
ويتحسسون برؤوس أصابعهم
ما إذا كان أحد
قد مسح الاسم من الشاهدة"
– فيجيسلاف كرينانوف –
لكن صوت الناعي المولول " أبي أصيبع " لم يترك لي أي فسحة بين جنازتين، كان يتقدمني حتى وأنا سائر بقصيدتي هناك بين صفوف قاعة شومان المحتشدة الى المنصة أو الى المقبرة - لا أدري - . بينما الشاعر فاضل العزاوي يسخر مني في نصه: "هذه الجنازة الصامتة التي تتبعها هي جنازتك أيها الغافل". وغوته يلوّح بما كتبه بخط يده أسفل إحدى لوحاته: " ما دام الموت هو النهاية المحتومة
لكل كائن حي
فما أنت سوى ظل عابر
فوق هذه الأرض المعتمة"
لقد كان الموت في مواجهة الشاعر دائماً مهما حاول الأفلات منه، كان ينط عليه من شاشة التلفزيون أو يندلق إليه من صنبور الماء أو يتسلل اليه من شوارع المدينة بقناع مخبر أو أستمارة معلومات أو تقرير صديق أو علبة بقول فاسدة، ليفسد مناخ الحياة ويتركها مثل اسفنجة مشبعة بالماء الآسن. فبدا نصنا مسربلاً بالفجيعة وأن حاولت معطيات الحداثة أن تنعطف به بعيداً أو قريباً عن مجرى البكائيات التي طبعت القصيدة العربية على امتداد تأريخها. كان الشاعر يهيم في الشوارع مفتوناً بفورة الحياة والحب بينما طبول الحرب وأعلامها تدق على بعد أمتار من طاولته. فلم يكن باستطاعته أن يتخلص من هذا الأرث الضاغط من جهة ولا من موار اللحم والشظايا الذي وجده يغطي مساحات حياته، فلم يكن الشعر بمعزل عن الحرب الطويلة ولا عن الحصار والجوع والكبت والاضطهاد لكن له رؤيته الخاصة في تناول المشهد من زوايا مختلفة كما يلاحظ في نصوص جيلنا التي اكتنزت مفاهيم عدة منها ما كان يراه سارتر: " إن مهمة الكاتب الوحيدة اليوم هي أن يكون نوعاً من الشهادة الموجزة عن موت الإنسان" او في ما يعتقده آراغون: " إن الكتابة أثناء الحرب كانت نوعاً من التحدي للحرب " أو ما ذهبت اليه المدارس الجمالية والصوفية والثورية والواقعية والرمزية والسريالية والخ والخ بعيداً عن اعلام الحرب الذي أرادوا فرضه بشتى الوسائل.
أمشي في مقبرة النجف قبل ان أغادر الوطن لزيارة قبر أبي وأنا أتذكر مقولة الكاتب الروسي سولجنستين: "يا أخوتي أرجوكم ألا تموتوا أبقوا فوق هذه الأرض لان موتانا كثيرون"
……………
حدثني الكاتب حميد المطبعي الذي أسس مجلة الكلمة في النجف في الستينات إنه قاد أدونيس إلى مقابر النجف ومخابئها وعاد به مذهولاً. وكان قد مر بهذا الوادي المدهش رحالة وعلماء وصعاليك وملوك وبغايا وزوار من كل أرجاء الأرض والخ والخ، وكان لو جُمع ما كتبوه فيها لكان موسوعة فريدة ليس لها مثيل.
وكانت الواردات الدينية من الزيارات للمدينة عامل أزدهار يمكن أن يتطور ويطورها أكثر لو أحسنت الحكومات إستثماره كما يحدث في كل بلدان العالم. فقد جاء في أحد التقارير البريطانية عن النجف عام 1918 أن " ما دخل النجف وحدها من حقوق شرعية وأموال خيرية ووقفية وغيرها من إيران فقط يقدر بحوالي مليون جنيه استرليني" وكانت الموارد الخيرية التي وردت من مؤسسة أوذة الهندية إلى العتباب المقدسة وبخاصةً كربلاء والنجف قد بلغت عشرة آلاف جنيه استرليني سنوياً وبدأ منذ عام 1852 واستمر حتى 1953 وكان دفن الجنائز يدر أموالاً فقد بلغت مطلع القرن الحالي 20 ألف جنازة " وهي عادة اتبعها أهالي المتوفي تبركاً بالدفن جوار ضريح الأمام علي وقد لاحظ المستشرق الألماني كارستن نيبور هذه الظاهرة عند زيارته لمدينة النجف عام 1765 وليدي درور عام 1922.
وكان لهذا التدفق البشري والمادي والعلمي والأدبي أثره على مدينة النجف التي قفزت على سلم التطور السريع من 500 شخص بداية القرن السابع عشر إلى مدينة مترامية الأطراف يقارب تعدادها المليون.
………..
[ "ميسون حسن كمونة..
من أفزعكِ حتى عدتِ رماداً
- فليحة حسن - من قصيدتها "مرثية لمرزاب الذهب " ]
…….
و….
"اهذا هو منزلي
الحياة بأكملها
خمسة أقدام من الثلج"
شاعر الهايكو الياباني الكبير ايسا الذي دفن عام 1827 م في جبل كومارو قريباً من أهله وعلى قبره كتبت تلك القصيدة
……………
و….
"حتى بين النيران المضطرمة يمكن لزهرة اللوتس أن تنبت"
هذا ما كتبه الشاعر هيوز على قبر زوجته المنتحرة الشاعرة سليفيا بلاث وهي عبارة سنسكريتية اعتاد هيوز أن يرددها أمامها لحظة حزنها.
فما الذي سنكتب على قبورنا ؟
هذا أذا كان يمكن أن يكون لنا ثمة قبور في الوطن.
سلاماً على قبر الشاعر الجواهري الكبير في مقبرة الغرباء في دمشق وهو ينشد:
حييتُ سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين
سلاماً على قبر البياتي وبلند الحيدري وغائب طعمة فرمان ومصطفى جمال الدين وهادي العلوي و..و
سلاماً على قبر علي الرماحي الذي لا يعرف أهله وأصدقاؤه أين مكانه الآن.
سلاماً على قبور مبدعينا وأهلنا في شتات الأرض وأصقاع المنافي ……..
* * *
الفصل الرابع:
لقد تعرفت على فرنسا من خلال روايات بلزاك أكثر مما عرفته عن طريق كتب التاريخ
- لينين -شرف ما بعده شرف أن يكن بيتك النجف
- عبد الرزاق عبد الواحد -ولولا الشعر بالعلماء يُزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
- قائل -أترك لأستاذنا عبد الغني الخليلي عبر كتابه "سلاماً يا غريب" أن يقدم النجف هكذا:
"مدينتي هي منزل المغني القائل: "أنا حنين (16) ومنزلي النجف" وهي مرعى القطا ومنبت الشيح والعوسج ومنجم الحصى اللماع ووادي الخزامى والشقيق الممتد حتى كثبان نجد وشواطئ الفرات وحدائق الخورنق وبساتين السدير هناك حيث يقيم "النعمان" وشاعره نابغة بني ذبيان وحيث ترعى "هند الكبرى" (17) أديرتها المبتلة بماء الياسمين وبدنان الخمر ودخان المجامر وحيث يُنعم الرهبان النظر من فوق العلالي (18) إلى أشجار الكرم تتسلق أسوار تلك الأديرة وحيث يغني "أبو نؤاس الكوفة" (19) محمد الثرواني بشعره أيام "الأكيراح" (20) وريحان الجنائن وأباريق الندامى كطيور الماء تشرق بها عتمة الخمارات في زوايا الكوفة ومدينتي هذه تنطق بالشعر حتى أحجارها ومنذ الجاهلية وللآن لم يتوقف عن العطاء ينبوع الشعر الذي تفجر في صحرائها عذباً سائغاً. ومدينتي هذه ذات الألف مدرسة يلتقي في أروقتها منذ ألف عام وحتى اليوم طرفة بن العبد والغفاري أبو ذر والجاحظ أبو عثمان وبشار بن برد وابن الرومي وأبن المقفع والخزاعي دعبل وإخوان الصفا وعلي بن محمد "قائد الزنج" والحلاج والمعري والخيام عمر وداروين وماركس والأفغاني والكواكبي ومحمد عبدة والسيد محسن الأمين العاملي وكاشف الغطاء محمد حسين وأخيراً الجواهري".
وأستمع إلى صوته المتعب المتكسر عبر الهاتف محملاً بالشجن الحار كأنه قد عبر للتو تلك السهول المقفرة المخيفة مهجراً من وطنه وتأريخه إلى إيران - بحجة التبعية - ومدرسة الخليلي الشهيرة ما زالت شاخصة في قلب النجف بمكتبتها العامرة وتاريخها العريق – يا لمرارة المفارقة – مرة أخرى.
وتصرخ في ذاكرته العتيقة صورة قريبه الذي حمل زوجته العاجزة على ظهره عبر الحدود وحين أنزلها ليستريح هجمت عليها الذئاب وقطعتها أمام عينيه لتموت في أرض الغربة بلا قبر ولا وطن.
لقد صادروا منها بيتها ووطنها،
وأصبح قبرها بطون الذئاب.
كان وهو يحدثني عن تلك الرحلة المذلة كأنه يختصر ما عاناه ملايين العراقيين عبر الهجرات المتعاقبة.
وتروح ذاكرتي تسرح معه في هذا المنفى الجليدي قريباً من جنوب القطب المنجمد الشمالي حيث نقيم هناك، لتجوب بي أزقة الكوفة ومكتبة الحكيم وقصر الملك وضفاف شط الكوفة هناك حيث كنا نسبح قريباً من السفينة الأنكليزية فاير فلاي التي أغرقها الثوار عام 1920 كنا نتمسك ببقايا أخشابها المتهرئة أمام مقام النبي يونس وفي بعض الأحيان كنا نتصايح حين نرى بعض الكتب الطافية فنسبح باتجاهها ونجمعها على الجرف فنكتشف عوالم مذهلة لم يكن من السهل لطفولتنا أن تستوعبها. أنواع من الكتب والأحبار السائلة تركت حيرة وسؤالاً كبيراً لم نجد له جواباً. من رماها في النهر؟ ولماذا؟ غير أنها قادتني إلى مكتبات الكوفة والنجف لألتهمها ومن خلالها تعرفت على أصدقاء يهوون الكتب مثلي ومن ثم اكتشفت أن بعضهم يمارس الكتابة. وفيما بعد تعرفت على أجيال وأصدقاء آخرين وشعراء رائعين:
أين هم الآن:
عبد الحي النفاخ جن من القراءة والتعذيب وقد رأيته قبل أن أغادر الوطن عام 1993 يتمشى وحيداً بدشداشته الممزقة على ضفاف شط الكوفة ويهمهم بكلمات غير مفهومة، حميد الزيدي الساخر أبداً أعدم بالرصاص لمحاولته الهرب عبر الحدود(21)، علي الرماحي صديق الصبا والشعر والأرصفة أعدم وهو في أول تفتح زهرة عطائه الشعري، محمد حسن الطريحي الشاعر الشفاف أقتيد من جامعة بغداد ليعدم أيضاً ( 22)، البرقعاوي الفقر والضياع والموت(23)، غياث البحراني الكآبة الأبدية والهجرة أخيراً، مشتاق شيرعلي الخمرة والجنون والنسيان، كاظم الخطيب المواهب المتعددة والموت المبكر، موسى كريدي السخرية من الموت والحياة أيضاَ، مكي زبيبة الرحيل تأففاً، منعم القريشي، قيس الوالي، كامل سلمان الجبوري، د.حسن ناظم، زهير غازي زاهد، د. عبد الاله الصائغ، د. محمد حسين الصغير، د.الوائلي، ، الاعرجي، العاتي، المحتصر، الجابري، مؤيد الشيباني، والخ ..والخ، وآخرون شتتتهم المنافي، وآخرون ضاعوا في تلافيف الذاكرة، و..و...
وقائمة الوجع تطول.
ويعيدني حديث الذكريات مع الصديق الشاعر والباحث محمد سعيد الطريحي المقيم في هولندا، عبر أسلاك منافينا، الى مجلة العدل في النجف حيث كان يعمل وحيث نشر للرماحي ولي أولى قصائدنا نهاية السبعينات، وحيث أروح مع أخيه الشاعر محمد حسين الطريحي الى حيّنا في طرف السراي، أتشمم رائحة الكتب العتيقة ومئات المخطوطات النادرة في مكتبتهم التي أسسها الجد الأعلى الشيخ فخري الدين الطريحي (979 – 1085 هـ) صاحب المعجم اللغوي المعروف بـ "مجمع البحرين" والتي اخترقتها رصاصة "خارق حارق" لجنود الحرس الجمهوري بعد انتفاضة 1991 فاشتعلت فيها النيران التي تلونت بتلون الأحبار واختلطت بدموع الأغلفة المذهبة وقهقهات الحرس كما روى الجيران وشاهدتها أنا بعد أسابيع وقد تحولت الى كومة من الرماد، فارتد بحسرتي صوب أمواج النهر، هذا النهر الذي رآى كل شيء، شاهداً صامتاً على تأريخ المذابح والتواطئات والثورات (24).
* * *
الفصل الخامس:
إن الشيء الافضع من الجهل هو الفهم السيء للنصوص
- مارسيل بروست -وكيف يسمع صوت الحق في وطن
للأفكِ والزور فيه ألف مزمار
-الجواهري -قد يبدو المشهد قاتماً.
وهو كذلك.
لكن وكما هي الحياة والطبيعة نفسها: الليل والنهار – الصيف والشتاء
ثمة آلاف النجوم تخدش بلمعانها تلك الظلمة.
ثمة انساغ وبراعم تنمو في سبات الشتاءات القارصة.
وهكذا هو الأبداع ينمو ويتجدد ويكبر رغم كل الظروف، ذلك أن رحم الأبداع لن يتوقف مهما حاول وفعل أعداء الحياة.
ففي الفترة المظلمة نشأ أبن خلدون وكتب مقدمته الخطيرة في علم التاريخ والاجتماع، وجمع أبن منظور لسان العرب، وطاف أبن بطوطة في عجائب الأمصار وغرائب الاقطار.
وفي دكتاتوريات أمريكيا اللاتينية ولد بورخس وماركيز واستورياس وغيرهم وفي ظلام دكتاتورية تشيلي ولد بابلو نيرودا. وفي دكتاتورية البطش الذي مر في العراق ولد ويولد آلاف المبدعين.
وانظر لكواكب الشعراء والمبدعين في سموات الوطن والمنفى تجد ألف برهان على ما أقول.
لقد تساءل الشاعر نزار قباني بلغته الشعرية المعروفة في مهرجان الأمة الشعري عام 1984 أمام حشد الشعراء العرب والعراقيين: "لماذا تمطر سماء النجف 500 شاعر في الدقيقة ولا تمطر سماء جنيف سوى ساعات أوميغا وحليب نيدو سريع الذوبان".
أن تأمل هذا الكلام ودراسته جدير ان يكشف عن الأمكانيات الفنية العالية التي تختمر في روح الأجيال الجديدة لتأكيد خصوصيتها داخل إطار التجربة العراقية بشكل خاص والعربية بشكل عام، رغم ما تعانيه من تغييب مقصود من قبل السلطة ومن تجهيل ونكران وتشكك في أحيان كثيرة من قبل بعض الأدباء أنفسهم الذين فروا بجلودهم من قسوة المشهد ثم وقفوا على التل يتفرجون على من بقي في الداخل مجبراً أو مضطراً، وبدلاً من أن يمدوا أيديهم لمساعدتهم أو إنقاذهم، أو يكونوا سنداً ومتنفساً ونافذة لهم، راحوا يكيلون الشتائم ويلقون بالأحجار في بئر إبداعهم الخالص. كأنهم نسوا بسرعة طبيعة ما يحدث هناك.
أضع هذه الإشارة لكل من يريد استبطان تلك النصوص النظيفة المغايرة التي تعيش في الظل بعيداً عن ضجيج الطبول الإعلامية الرسمية هناك(25) ويقرؤها بأمانة وعلمية وضمير ومسؤولية، بعيداً عن الآراء المسبقة أو تصفية حساب أو عقدة نقص.
إن هذا الموقف المتخاذل والتشكيكي الذي انجر إليه البعض لقصور وعي أو أفرازات عقدة أو تصفية حسابات بائسة ساهم إلى حد كبير في الخذلان الذي وصلنا إليه والى تطاول يد السلطة إلى من تشاء بأساليبها التسقيطية والقمعية ومن ثم التصفية. وآخر الضحايا كان هو المفكر الشهيد محمد صادق الصدر الذي ساهمت مثل تلك العقليات المغفّلة في اتهامه حين لم تحسن قراءة خطابه المستتر واكتفت بالنظر إلى السطح، حتى إذا انتبهت السلطة قبلهم إلى خطورة ما تحت سطوره وأردته قتيلاً استيقظت تلك العقول من سباتها التاريخي وراحت تبكي عليه وتلطم وتقيم احتفالات التأبين.
يرى كارل مانهايم إن "الشعور الخاطئ يتجلى في مشكلة الذهن المضلل الذي يحرف كل شيء فما من شيء يقع في متناوله إلا تولاه بالتحريف".
هذا الذهن المضلل العقيم لم يستطع أن يستوعب المشهد خارج اطار تخيله، مثلما لم يستطيع أن يرى أبعد من حدود ما يُطلب منه أن يرى، لهذا لم ير في جرأة ما يكتب في الداخل إلا أنه أمر عادي، أو إن كاتبه قد حصل على الضوء الأخضر من قبل الدولة حسب ما تصور الكاتب يوسف أبو الفوز في جريدة المجرشة مثلاً.
لهذا فبدلاً من دعم هذه الأصوات والافتخار بها نرى بعض الكتبة وبعض الأحزاب راحت تشكك وتطعن بها بل وتحاربها في أحيان كثيرة. لقد أشرت مرة في حوار أجرته معي مجلة عشتار في أستراليا إلى أن أدب المقاومة في الداخل – هكذا سميت النصوص النظيفة المبدعة التي تكتب هناك – يمكن أن تفوق من حيث الجرأة والطرح أدب المقاومة الفرنسي في أحيان كثيرة وإننا يجب أن نفخر به مثلما تفعل الأمم التي تحترم نفسها وأدبها، فاغتاظ البعض ليس لغيرتهم على الأدب الفرنسي بل لانهم لا يستطيعون مجرد التخيل بان هناك أدباً حقيقياً يمكن أن يظهر بعد خروجهم من الوطن.
إن مثقف الداخل يعيش محنتين كبيرتين: قمع السلطة وتشكيك البعض، وتلك لعمري واحدة من أخطر ما يواجهه المثقف الحقيقي في الداخل والذي أرى إنه بتحديه لهاتين العقليتين بالاضافة الى الظروف المعاشية القاهرة دليل على صموده وابداعه وتحديه. هذا بالإضافة إلى الحصار الداخلي والخارجي عربياً ودولياً الذي يعانيه المثقفون حد ان يطوقنا الجميع بلا رحمة كأن لم يكف طوق السلطة الحديدي لأعناقنا، يقول برهان شاوي في صحيفة الاتحاد الاماراتية: " حزنا حقاً ونحن نقرأ ما جاء في برنامج معرض أبو ظبي الدولي التاسع للكتاب وقائمة ضيوفه وبرامج اتحاد كتاب وأدباء الإمارات المقامة على هامشه فلم نجد إسماً عراقياً واحداً وكأن ليس هناك بلد أسمه العراق على هذه الكرة الأرضية بل وكأنما أرض الرافدين لم تقدم للبشرية خمس حضارات".
هذا ويقف ناقد بوزن جابر عصفور مندهشاً على صفحات جريدة "الأهرام" يتحث بأعجاب عما قرأه أخيراً من نصوص عراقية رغم الظروف القاسية التي يعيشها مبدعوها. ويؤكد الشاعر العراقي هاشم شفيق في لقاء معه لصحيفة "الزمان" 1/4/1999: "سيبقى العراق كما عهدناه على مر العصور التربة الخصبة لإنبات الشعر" ثم يشير إلى الجيل الثمانيني والتسعيني قائلاً: "بين هذين الجيلين ثمة أسماء شعرية لامعة هي ما نعول عليها ضمن خارطة مستقبل الشعر العراقي". ويتحدث يوسف الصايغ في لقاء معه لمجلة أسفار ع 13/1992 عن جيل الثمانينيات قائلاً:" أتذوق بمحبة نكهة الرغبة في أن يكون الشعر متطابقاً مع ما في الروح من تمرد حميم وصبوة صادقة".
وحول ما يجري في الساحة العراقية من شتائم وبيانات من قبل بعض الصغار والعاطلين أعرب الناقد حاتم الصكر في صحيفة الزمان 16/3/1999 عن ألمه قائلاً: "وقد أحسست بالأسف حين سرت عدوى الإدعاء والمحو وإلغاء الآخر إلى بعض أصوات هذا الجيل وسارت الأمور ببعضهم لكي يقوم بالتنظير المضاد وأعني: أن يستهلك جهده كله لا لبيان فضائل قصيدة جيله بل لهدم جهود الآخرين واشاعة روح "الجحود" لمن وضع شعراء الجيل في عمق المشهد الثقافي سواء في الكتابة أو بالعمل الصحفي"..والخ ، والخ
لنتذكر دائماً حسرة غيلان أبن الشاعر بدر شاكر السياب في الكلمة التي ألقاها 20/21 كانون الثاني 1995 في المعهد العربي العالمي في باريس في الذكرى الثلاثين لرحيل والده (ألقاها نيابة الشاعر بلند الحيدري): رسالتي الثانية أن يكون تذكركم لأبي، لبدر شاكر السياب، ذكرى أن لا نسمح لأنفسنا أن يضيع شاعر أو أديب أو أي صاحب رسالة خير وجمال كما ضاع أبي (…) في منافي الداخل والخارج .."
* * *
الفصل السادس:
النص الآن
فعل الكتابة ومسارها
كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة
– النفري -إنني الظل الهائل لدموعي
– لوركا - القصائد ليست عواطف بل تجارب
– ريلكة -كل مرحلة شعرية لا يمكن أن تكون هي المرحلة الأخيرة في الشعر
- حسب الشيخ جعفر -إياكم أن تبيعوا شعر الطفولة بنثر النضج
- طاغور -"عند انفجار القنابل
أصنع من رأسي ترساً وألوذ به".
- فليحة حسن- ..لابد من التنويه:
أولاً هذه القراءة لا تدعي إنها كافية مهما امتدت لإيفاء حق المشهد لكنها تحاول تسليط بعض الضوء..
ثانياً إن محاولة رسم صورة متكاملة عن المشهد الشعري في النجف يبدو صعباً للغاية أولاً لأتساعه، وثانياً لعدم انتشار النصوص نتيجة الإهمال والتهميش، وثالثاً للشتات والهجرة التي عاشتها أجياله، ورابعاً للحصار الداخلي والخارجي معاً، وخامساً وعاشراً و.. و..الخ
ثالثاً سأسمح لنفسي أن أستشهد ببعض النصوص الجديدة – مخطوطة أو منشورة في الصحف العراقية والعربية – دون أذن أصحابها كي لا أحملهم مسؤولية ما ذهبت إليه، تاركاً للقارئ أن يرى فيها ما يرى أو يسقط عليها تأويله المختلف.
فللنص أي نص تأويلاته المتعددة.
…..
من كل هذا الفيوضات التي وجد الشاعر نفسه غارقاً في لجتها جاءت قصيدته متشربة بها – بقصد أو بدونه – لتنعطف بالحداثة إلى أفق جديد مغاير - إلى حد ما - لما حوله من تجارب.
الكلمات هنا – كما يرى الروائي البرتغالي ساراماغو الحائز على نوبل 1998 – " ليست تامة الوضوح إنها قادرة على التصغير وعلى التكبير" وفقاً للمشهد والتجربة والرؤية والثقافة والتأويل والمقص والخ والخ، وهي من خلال كل ذلك تحاول أن تطرح رؤيتها الوجودية للحياة وتكشف عن هواجس الإنسان في عالم متغير، وتوقه للحرية.
والشاعر إذ يواجه قدره تحدياً للحياة ورغبة بالتغيير فأنه يؤسس مشروعه باللغة مفجّراً فيها جدله المحتدم، أنه التماهي عبر النص والتأسيس لوجود على أنقاض حياة آيلة للزوال.
وأزاء متناقضات الحياة وخذلانها يلوذ الشاعر بذاته ليواجه تصدع العالم واضعاً متراس النص أمام تلك الأنهيارات والأنزياحات غير أن النص أي نص هو انزياح آخر.
أنظرْ لقصيدة الشاعر أحمد الشيخ علي:
" .. وما أعياها البكاء
هي خلاصة يومنا وموسيقاها
نذرع الجنون جيئة وذهاباً
ونلمس – في الظلمة – حيواناته
فتقشعر أصواتها
هكذا نحن
منبوذون
ومنسيون
ولا جلود لنا تتقي السياط ..
بلا أسفل نتقرا هسيس الماء
ونمضغ رواح الغبار
وجيئته علينا
مغمضين لعابنا .. وحليب أصابعنا
وغرائزنا المفجوعة في الفراغ
أنها فوضى طفولاتنا
تتشكل
ونختبر – رويداً – نياسم أكفنا
ولآلئ أعيننا المرنة في الريح .."
- من ديوانه "طائر الآن".
وأقتربْ بهدوء من الشاعر ماجد الشرع (مواليد 1974) وهو يكشف عن مكنونات روحه في قصيدة " كنوز" هكذا:
" في صدري:
مناجم / طيور / صباحات / أغانٍ
بلاد
معاول
وقبائل تستحم بالعويل"
هذه الترانيم الحزينة التي صبغتها المدينة بألوانها الكابية تمد جذورها عميقاً في هذه الأرض، أرض السواد والثورات والمواويل والمقاتل وقد تشبعت روح الشاعر منها وفاضت. فشكل هذا الهاجس المريع إضافة إلى هاجس الموت ملمحاً في شعر الشباب وأن حاولوا تظليله بالغموض في أحيان كثيرة تجنباً للتأويل، لكنه فتق أمامهم من جانب آخر طرقاً عديدة وأساليب مغايرة للكتابة مالت إلى الترميز والأساطير والأشكال الحداثوية إلا أنك سرعان ما تجد تحت سطحها عوالم تمور بالحياة والرفض والجنون والتحدي.
يقول الشاعرعباس الظالمي في قصيدة " البئر":
"النوم ينساب إلى الحبر
ينساب الحبر بعيداً
حد تساقط أعمدة الحكمة
الرأس المجنون يستيقظ"
ويقول الشاعر فارس حرام (مواليد 1969):
"أسهرْ بدلاً مني
أنام بدلاً منك"
ثم:
"هكذا دائماً أنتِ الزمن
وانا مدينة تخرج لتوها من الحرب"
من قصيدته "عبر الهواء"/مجلة واحد ع 2-3/1997-1998هولندا
وإذ نجد كيف خرجت القصيدة عن المطولات والمحسنات البلاغية التي تعج بها المدينة نحو لغة مقتصدة حارة بعيداً عن الترهل والمفردات المستهلكة، فأننا ندرك أن الشاعر قد انتبه الى أن الواقع المتغير والأحداث المتسارعة لم تعد تتسع لهذه الإسستطرادات المصطنعة، كما أنه من جانب آخر يحاول تخفيف لظى الواقع والتنفيس عنه بالأقتراب منه شعرياً ولكن بشكل مغاير، فمال النص إلى قصر الجملة، وأحتدام الصور. وهو يمس الخراب ويكشف عنه تلميحاً لا تصريحاً فراحت القصيدة الجديدة تنحو منحى مغايراً في مضامينها وبالتالي في شكلها. ويتناول د. محمد صابر عبيد في دراسته عن قصيدة النثر الحديثة في العراق نصاً للشاعر أحمد الشيخ قائلاً: "وتسعى قصيدة النثر إلى التمادي في فضاء السرد والنهل من معطياته إذ تقدم صراعاً منتجاً لحبكة تؤلف شعرية الخطاب في قصيدة أحمد الشيخ علي:[ الريح ذاتها التي زحزحت صباح الشمعة/ ألقت طينها في كراريسها] فهو يستخدم مكونين أساسيين يعملان بتضادهما الميداني على شد السرد وتعزيز قيمه الحكائية".
وإذ شكى الجيل من قلة النقد تساءل الناقد ياسين النصير: "حسناً إذا كانت معايير النقد لم تستوعب هذا الذي يقولون ترى بإي المعايير نقيس وبأي طرق ندخل الى غابة التداخلات المضطربة" (أسفار 11–12 )
فيما يشخص الشاعر عباس بيضون في مقاله تجديد الحادثة (أسفار ع13 1992 ) مشكلة الحداثة لدى بعض الأصوات بذلك الإستلاب والتقليد المطلق قائلاً:" لا أجد من واجبنا عبادة الحداثة فأنا أترك ذلك لمتعبديها الكثر. بل أدعو الى نقدها "
ان المكبوت يجعل الإلتجاء إلى الصوفية مثلاً أوالسريالية أوالأيهام أو التأريخ أمراً له أكثر من دلالة، مستفيداً مما تفتحه أمامه من آفاق. لكنها ليست آفاقاً عمياء لاتفضي الى شيء. وقد يترك الشاعر كل هذا ويميل الى المباشرة والاستطرادات التي هي إحدى أمراض القصيدة الحديثة أيضاً.
يقول الشاعر عبد نور داود في قصيدته" قم معنا لله يا علي" بمناسبة ذكرى ميلاد الحق والنور للأمام علي (ع):
" أدور بالشباك
.……..
جئناك في ميلادك الميمون
قلوبنا عيون
تشرب من نحيبها الأخبار
ليرتوي الحصار
هاهم على لقمتنا سلاحهم قرار
يشعل فينا لا علينا النار "
وقد يمضي النص الى استقراء التأريخ كما في قصيدة "شبكة البحر الراحل" للشاعر تومان غازي ولكن بصورة أكثر مغايرة واستشرافاً:
" منذ ندين
وأنا غامض
وراء (جنكيز) ابتسامتك الأحمر
يصطلي (أبن جني) بنار الله
النار: مجررة بالباب
الله: ..
نمد جسوراً من التبغ
في معركة الجسر المثنى والمثلث
يذكران نوحاً بخير
يا طائر البندق
اطلقني
لعبور ملونة الأنهار"
……..
" تموت الدروب بخط الشروع
وتبقى القصيدة
بين الشروع وبين الوصول
هي البوصلة "
- الشاعرسعد صائب من قصيدة "شاعر .. بوصلة" -
"هل تأتي قوارب من أسى الغفاري؟/ وهل يجيء صوت/ يماني
ويصبح موجاً بينها؟ /من يراني مانحاً جسدي/
كآبة الطرقات؟ من يراني
- حمودي السلامي .من قصيدة "وردة جدارية"
وقد مضى جيلنا إلى النزوح المبكر بحثاً عن مساحة للحرية أو الترميز، ليصبح النص ملاذاً أو إعادة توازن مع العالم.
" استفاقت السبايا
على رفيف كؤوس أبينا السلطان
الذي واصل اصغاءه اللذيذ
لحشرجة المفاتيح في الأقفال
- من قصيدة "أقفال" لهادي الشيخ طه -
…….
"كان لا بد أن يموت ليجد مكاناً شاغراً لجسده
الحرب أوزار
ولكن التيبس في صناديق المخاوف
يقتل العشاق بين الأضرحة
ولان سألت الأرض
كيفك يا ..
ستقول أحلم بالصهيل
ويخيفني معنى التصحّر
في رؤوس الأوردة ".
- فليحة حسن من ديوانها "زيارة لمتحف الظل" -
……..
"أدور.. أدور.. ألفُّ.. أبحث عن نجمة في اقاصي الجنوب
ترتقي اليك فلا أجد سوى طفولتي تعلك ما تبقى من ذبول المدينة
أروّض روحي
أرافق برائتي
وأنتمي لهذا الجدار"
- عماد الحيدري من قصيدته "نقوش فوق جدار الكبرياء" –
………….……………
"الموج تشاجر في وجهي
من يعتق هذا العالم من قبل خطيئته؟
من يلقف دمع الغفران؟
أنادي التاريخ
أقربه
فيضطجع على صدري تعباً
أغرز أوتاده
لكن الصدر ينث برمل الأسرار
يا أنا .. يا ..
– هذا العالم
نصفه وجه أمرأة
والبحر يمشط موجته في النصف الثاني .."
- قصيدة الشاعرة ناهضة ستار المشهدي "نبوءة" -
…………………
"بين جمجمتك والإنتصار: عشب
نسي أن ينبت حين أمتدت إليه يد الفجر
خيوط المساء تجر عربة الليالي
فيرتطم الجدار بالجدار!."
من قصيدة الشاعرة بتول فاروق محمد علي "التشرذم في النهارات"أسفار العدد 13
…………….
بعد أحداث عام 1991 وهجرة الكثير من الأدباء سواء إلى بغداد أو إلى خارج القطر فرغت الساحة من الكثير من الأصوات فغابت أسماء وظهرت أسماء جديدة لم تزل تحبو لكنها راحت تستكشف أراض بكر، وتنزع بمحاولاتها التجريبية نحو الدهشة والمغامرة.
…………
* * *
الفصل السابع
ما لم يقله النص …
… مالم يقله النقد
إن الرغبات الحبيسة، مصحوبة بالخذلان، والإحساس بالحصار والموت. هذا الثالوث يمكن أن يشكل مقترحاً أولياً لقراءة هذه النصوص رغم تماهيها مع خيط الحياة السري وتفجراتها غير المعلنة، وإذ يغرينا هذا المقترح ونتوغل في غابة النصوص المتشابكة نكتشف أن الرحلة مخادعة، فالشاعر – ونتيجة لعمليات الجرد والوشايات والقمع التي يعيشها يومياً – تماهى في الغموض حتى لم يعد يسمح بأي بارقة يمكن تأويلها، مغلفاً ومحصناً نصه ضد أي قراءة أو تأويل، تاركاً للغته الشعرية أن تكتفي بحالها كنص شعري قائم بذاته قوامه الكلمات وأفقه الإيهام والترميز وصوره المفارقات. وما الحياة خارج اللغة إلا معبراً لا ينبغي التوقف فيه تماماً كمرورك أمام مديرية أمن أو مركز شرطة في العراق. غير إن هذا المرور نفسه – وإن بدا من الخارج عابراً لا مبالياً – إلا أنه يضج ويعني ويصارع ويختزل ويصرخ ويعبر عما يدور خلف تلك الجدران المغلقة.
ستكتفي أذن ظواهر النصوص بذلك المرور، بالشكل، باللغة، بالتلصص الخاطف.
ويبقى لنا في مضامينها الجوانية تلك اللذعة..
لذعة حارقة مرة خفية مميزة يمكنها أن تختصر الكثير الكثير، تجدها في النصوص.. كما تجدها في حركة الشارع والأغاني والحياة نفسها.
فأن بدت وجوهنا أمام الشاشة أو على أعمدة الصحف هادئة مسالمة متطامنة تماماً فهي تشبه الى حد كبير ما أرادوا لبطل "الساعة الخامسة والعشرون" أن يقف مبتسماً أمام كاميرات التصوير في معسكرات الاعتقال.
………..
لقد ازدادت الحالة الإجتماعية والسياسية سوءً في السنوات الأخيرة بازدياد تدهور الأوضاع فاتجه الشاعر للهجرة إلى الداخل "الذات" أو الى الخارج "المنفى" كأنها ردة فعل معاكسة. هذا بالإضافة إلى الحروب والحصارات والأضطهاد فأن الأهمال الذي لقاه ويلقاه المثقف في وطنه هو منفى آخر.
يكتب الشاعر محمد حسين الطريحي من منفاه في عمق الصحراء الليبية:
من للغريب إذا ما حنَّ للوطن
وأشتاق للأهل.. للأحبابِ .. للسَّكنِ
أماه .. أبكي العراقيين ليس لهم
مأوى سوى الموت ينجيهم من الفتن
مشردون وفي أضلاعهم وطن
ما كانوا يوماً ليرضوا الذل في الوطن
صار العراقي .. يخشى أن يُقال له:
من أين أنت ؟! وغص السمع بالأذن
يموت في صبره عزاً بمحنته
ولا يمد بكفيه لمرتهن
………….
وأنظر لهذا النص للشاعر الشهيد علي الرماحي:
يا هدير الحق في كل مكان
يامنار الجيل يانهج اليقين يامعيناً ملهماً للثلئرين
قد وقعتم وسط اسقام الحياة هكذا ما بين أفعال الطغاة
وإذا كانت القصيدة "انتحار مؤجل" كما يقول سيوران فأن الشاعر علي الرماحي لم يؤجل موته. لقد رحل مبكراً وتركنا نعيش موتنا مراراً وتكراراً.
لقد أتخذ الرماحي من رمز ثورة الحسين متراساً ضد أنهيار القيم ومحاربة الظلم، وحاول أن يبطن خطابه الثوري بقصائد العزاء الديني الحسيني المكتنزة على الرفض للولاة العتاة الذين نواجههم اليوم بلبوس شتى. فكان يتنتقل متماهياً من مكانه وزمانه الحالي إلى زمان ومكان الحسين أو بالعكس لتنفتح قراءة خطابه على وجهين: مباشر ورمزي. فقصائده وهي تخفي تحتها ثقافة وثورة ورفضاً تحاول اختراق الخطاب السلطوي وتأجيج الحماس الجماعي بأستذكار ثورة الحسين طموحاً بحلم الثورة الآن لتغيير الواقع. وقد أصبحت تلك القصائد في المواكب الحسينية مسيرة خفية واحتجاجاً بالكلام المؤول ضد آيدلوجية القمع وهي تتخذ من فلسفة استشهاد الحسين رمزاً للصراع الأزلي بين قوى الشر ووقوى الحق، اللذين ما زالا يصطرعان للآن على أرض الواقع. ولم يغب الجانب الجمالي في قصيدته لإبراز الصورة الشعرية الأكثر تأثيراً في المتلقي على الرغم مما كان يعمد إلى المفردات البسيطة التي تنسجم مع الفهم العام والتي غالباً ما تكون مباشرة حادة ذات تأثير سريع ليتجاوب معها الحاضرون.
وقد قدم الأستاذ ابراهيم الحيدري جهداً عملاقاً في جمع شتات الأرث الحسيني حيث لم يترك شاردةً أو واردةً أو أسماً إلا وذكره في كتابه الذي يربو على 520 صفحة إلا أنني فوجئت بعدم أي ذكر للشاعر علي الرماحي الذي كان له سبق التجديد والحداثة و"التفصيح" في النص الحسيني، بالإضافة الى أنه مزج نصه بدمه فقدم روحه قرباناً على معبد الثورة والحق والحرية.
وهذا الأمر ينطبق أيضاً بشكل أو بآخر على عموم تجربة الجيل من قبل النقاد والدراسات والصحف العراقية والعربية وصولاً الى المؤسسات الرسمية في الداخل والمؤسسات والصحف والندوات لقوى المعارضة في الخارج على حد سواء.
وقد أطلق الناقد حاتم الصكر على جيلنا مصطلح "شعراء الظل" في دراسته عن "إيقاعات الظل المتحول/ مدخل آخر لقراءة شعر الثمانينيات"، يقول: "سأدخل الى تجارب شعراء الظل من مقترب دراسي آخر هو الإيقاعات التي تقترحها قصائدهم بعد أن وقفت إزاء المنجز الفني المغاير وأختيار الكتابة بالنثر شكلاً أساسياً عندهم(..) في مجال النص الشعري يتم الإختراق عادة بإلغاء المزايا المكرسة وسيادة مزايا جديدة. إن السيادة هنا تعني (هيمنة) تقاليد جديدة لا تلبث أن تصبح بحاجة إلى إزاحتها بسبب تقليديتها لصالح تقاليد نابتة منها. وهذا المنطق الجدلي في النصوص الشعرية واضح عبر تاريخ تلك النصوص. حتى لنستطيع – في مجال نظرية الأدب – أن نزعم بأن تاريخ النصوص لم يكن إلا تاريخ الإزاحات المستمرة بضرب من (القطيعة) التي لا بد منها للإتصال بجوهر النوع الشعري(..) إنني أتحدث دوماً عن نصوص لا عن كائنات حقيقية. وما تقوله النصوص عن نفسها إنما تبوح به في بناها العميقة التي لا تقال مباشرة في العادة. وهذا كامن في لغتها وموضوعاتها وأشكالها. في خطابها خاصة. وإذا كان ثمة سبب غير نصي لتكريس أصوات الظل الشعرية فهو لا يتعدى الظهور بعد الإنجاز (كالفوز بمسابقة أو الإصدار الإستفزازي الصادم) أما الظهور القبلي (كالبيانات والنوايا والتصريحات والمزايا المسرحية الأخرى) فلا أثر فاعل له في حالة هؤلاء الشعراء [مجلة أسفار/ بغداد ع 13 – 1992]
ويتوغل الناقد محمد الجزائري في كتابه "احتلال العقل" الذي صدر حديثاً، لتفصيل مشهد الظل على طاولة النقد الشعري في تجربة الجيل مشيراً إلى الأختلافات النصية:".. والقصيدة ليست (وحدة مغلقة)، ولا يقبل جسم المعذبين في العراق القسمة على أثنين أو أكثر.. لأن القصيدة (الآن) مخالفة، ومختلفة، مفارقة، وأفتراقية، تخرج عنقاء من رماد جسدها ذاته، هي منطقها الخاص، رؤاها، أيقاع حدسها، انفتاحها الدلالي، معنى معناها، استقلالها في الأيجاز وفي الوهج، أو.. امتدادها في التداخل النصي، أو "تنافذها الإجناسي" بين الشعري والسردي، بين الصرخة والبوح، بين البياض والتأويل، المحذوف والظاهر، الحضور والغياب، المباشر والمرموز، الساخر والنادب، المسكوت عنه وصياغة المعروف. لذا فالنصوص الشعرية (الآن) لا تعرف الضحك الأبيض، وأن هي تسخر بمرارة! لا تعرف التلفيق، تلفيق الرضا، ولا مديح الوهم، لأنها تدون أوجاعنا وأمانينا المحاصرة المقموعة، فلا تموت في الكلام، بل تحيا في الكتابة، لأنها إلى أمد أبعد تقول وتكتب، وهي ليست لذة عابرة، ليست (لذة) تكرار الأسى، لكنها، في آنها أيضاً، استحالة المرور عليه وتحيته بسلام عابر، أو باستهانة! أنها التعبير الحر عن صنوف القهر، من الجسم إلى الروح، من العقل إلى القلب، من الفكرة إلى النشر،.. أنها نظام، نسق يعتمد الإستعارة والكنايات، لكنها لا تمجد المديح الكاذب والإعلان". ثم ينبري الجزائري في دراسة العوامل الضاغطة على نصوص الجيل فيقول: " إذاً فالنصوص المخالفة / الحرة.. شهادات تزوبع كوننا المقهور وتدفع به إلى تدفق ثر مثير! النصوص – الآن – محمولات آلام، لكنها لا تتجمد في الكارثة وان هي بين النار والنار، تصنع شعلة ضد ظلام المحنة (..)
ويشير الى محنة الطباعة والنشر "حيث انتشرت أيضاً، ظاهرة (المطبوع / المخطوط) أو (المستنسخ) الصغير جداً، جداً (بحجم الكف !) مكتوب على ورق أسمر، أو قصاصات الصحف أو دفاتر المسودات.. أنها – أنه – اختزال محنة النشر (...) وإذ عجزت (المؤسسة) الرسمية في ظل الحصار عن تلبية متطلبات النشر واستيعاب العطاء الشعري للشباب بسبب مشاكلها وندرة الورق والحبر وقلة الموارد المالية، وعدم إدامة الآلات وتحديثها، أو بسبب (توجهات) النصوص الشبابية، فقد صدرت – خارج المؤسسة – سلاسل محددة من بينها "سلسلة ضد الحصار الثقافي" التي أفادت أيضاً، من قصاصات الورق الفائضة أو ورق الصحف الأسمر واجهزة الرونيو (الأستنساخ) اليدوي أو الدفلوب/ أو الطبع زهيد الكلفة، متواضع الأخراج وعدد الصفحات وأبرز ما صدر عنها: "حداداً على ما تبقى" لعبد الرزاق الربيعي الذي هاجر لاحقاً للعمل في اليمن. و"غيمة الصمغ" لعدنان الصائغ، الذي هاجر لاحقاً إلى اوربا. و"مزامير الغياب" لدنيا ميخائيل التي هاجرت إلى امريكا. ويدان تشيران لفكرة الألم" لعلي عبد الأمير الذي هاجر أيضاً، تالياً، إلى الأردن ويعمل في صحافتها حتى العام 1997 و"سهول في قفص" لوسام هاشم الذي هاجر لاحقاً إلى الأردن ويعمل في صحافتها.. حتى كتابة هذا المبحث (1997).. حيث ينتظر البعض، فرصهم للهجرة إلى (دول الغرب) بعد أن يتخذوا الأردن محطة انتظار، وهذا يشمل الأدباء الشباب كما عديد المثقفين واساتذة الجامعة، وبسبب عدم منحهم حق الأقامة وصعوبة العمل والعيش في ظل بطالة واضحة في صفوف الخريجين والخريجات.
في زمن الحصار، شاعت، أيضاً ظاهرة استنساخ الأدباء الشباب لأعمالهم الإبداعية أو كتابتها بخط اليد على وجه ورق مستعمل، وتبادلها فيما بينهم وبين النقاد، بنسخ محدودة".
وللشعراء الذين تركناهم هناك رؤيتهم الخاصة النابعة من جحيم ما عانوه طيلة تلك السنوات المرة فهم أكثر قدرة على تشخيص أبعاد المشهد ووضع الأصبع على موضع الجرح ولو بالأشارة فبعد أن أعلن الثمانيون بيانهم الأول (26) "انتبهوا رجاءً. الثمانيون قادمون / بيان أول للحرب بيان أول للجيل" 1987، ها هو الجيل التسعيني يعلن بيانه (27) "الرؤيا الآن/ كشف في سمات الشعرية الأحدث" 1997 ومما جاء فيه: "والآن فإننا أمام تجربة جديدة لا يمكننا عزلها إطلاقاً من المناخ الذي ولدت فيه. فإذا كانت التجربة الشعرية العراقية السابقة (الثمانينية) قد ولدت في فضاء الحرب فإن التجربة الجديدة ولدت أثناء وبعد حربين كبيرتين، كانت الأخيرة منهما، من أحدث الحروب وأكثرها ضراوة. فبعد أجتيازنا لكابوس الحرب الأولى، ها نحن نعيش في ظل ما أفرزته الحرب الثانية من حطام يملأ كل شيء. ها هي الذاكرة القديمة تتحطم، وعلاقاتنا العاطفية مع الأشياء تأخذ بعداً آخر.. الشوارع، الجسور، البنايات، الأصدقاء .. ها هي ذكريات الأمس، تفصلنا عنها آلاف السنين الضوئية، كل شيء يتحول الى لا شيء .. ولذا نحتاج الى بوصلة ومراع كي نفرش عليها ذهولنا(..) نحتاج إلى أدوات ومجسات جديدة نتحسس بها هذا العالم. ما ورثناه أصبح مخرباً وعاطلاً عن التوصيل وإذن فإننا بحاجة إلى بناء شعري يتم بمعزل عن الذاكرة. كل الأشياء تساعدنا على خلق كتابة جديدة، على خلق منظومة مغايرة من وسائل الإتصال مع الآخر".
وفي المختارات الجديدة "الشعر العراقي الآن" بغداد 1998 التي ضم نصوصاً لـ 28 شاعراً، أعدها وقدمها الشاعران عباس اليوسفي وفرج الحطاب. يقولان في مقدمتها: "ليسوا شعراء فقط بل محاربون أيضاً. شعراء يقفون في خنادق الشعر يواجهون سيولاً لا تنتهي من الغزاة.. الحصار وإفرازته.. الذهول.. التحديات.. اللاجدوى.. الإغتراب.. الجوع.. الإنقطاع.. الغياب.. البطالة.. الخ ..
ماذا فعلوا في حروبهم وكيف سلكوا في مواجهاتهم ..؟ ثم من يهمه فيما بعد أن يعرف شيئاً عنهم.. من هذا الذي يهمه أمرهم الى حد البحث عن التفاصيل.. لقد خاضوا التفاصيل ولا يمكن مطلقاً لإحد غيرهم أن يعي مدياتها..
"إن تجربة هؤلاء الشعراء في سنوات التسعينيات .. كانت تجربة جديدة في مجمل مدياتها.. بدءاً من الكتابة وإنتهاء بإصدار معظمهم لدواوين صغيرة الحجم وذات محدودية في التوزيع وبإمكانيات طباعة بسيطة جداً.. لم يمارسها أحد غيرهم وفي أي وقت مضى.. لقد كانت محاولة لممارسة الحرية.. غير إنها كانت أشبه بعملية (التنفس الاصطناعي) وعلى الرغم من آلام هذه التجربة.. إلا أن هؤلاء الشعراء مقتنعون بها كبديل مؤقت عن الطباعة.. ولكي يعذروا أنفسهم فيما بعد.. بل ولكي يعذرهم الآخرون، حين يسألونهم عن (ماذا فعلتم لانفسكم بدوننا؟) عندها سيكون الجواب حاضراً ..".
لقد كانت الكتابة الشعرية لدى الأجيال الجديدة – كما عبروا عنها في بياناتهم العديدة – أشبه بكاسحة ألغام لمرور الحياة التي يحلمون بها. أنها مهمة شاقة وخطيرة في آن واحد، ومع ذلك استمروا في حرث الأرض لزرع بذورهم في انتظار أن يكبر حقل الأزهار داخل حقل الألغام.
يقول أراغون: "في إعتقادي أن الكتابة أثناء الحرب كانت نوعاً من التحدي للحرب". وهذا ما كان يحسه جيلنا وهو يواصل مساره الإبداعي غير عابئ لتهميش السلطة وأحابيلها وقمعها من جهة وشتائم وشكوك الواقفين على التل من جهة أخرى.
وبعيداً عن هذا، فأن الإختلاف الفني في الكتابة بين الأجيال أمر طبيعي تفرضه طبيعة الحياة نفسها والتجربة والرؤيا. يقول د. عبد العزيز المقالح في كتابه "الشعر بين الرؤيا والتشكيل": ".. وقد استطاع كل عصر أن يتميز بإيقاعه وأن يستخدم وسائل التعبير الفنية الخاصة به، والمعبرة عنه – إنحطاطاً وارتفاعاً – ومن هذا التميز ينبع الوعي الفني في أختيار التشكيل والإيقاع سواء في القصيدة أو المعمار، أو الموسيقى، أو .. الخ. وهما – أي التشكيل والإيقاع – يكتسبان ملامحهما من الإحساس بالزمن المتغير ومن إستيعاب أبعاد الواقع ومضامينه". فالفارق الزمني من جهة وقسوة التجربة من جهة أخرى جعل الإختلاف واضحاً حد التنافر ليس بين الأجيال المتباعدة فحسب بل حتى داخل الجيل الواحد نفسه نتيجة لابتعاده أو اقترابه من مرمى القذيفة ورؤيته لها. يذكر أحمد سعداوي في مقالته "الشعر العراقي الآن الدخول في الوضعية الكونية" المنشورة في مجلة ألواح ع5 1998: "إن الفجوة الزمنية التي تفصلنا عن أثر الحرب المباشر، تؤهلنا الآن أن نكتب عن الموت الذي نموته (الذي متناه) بصيغ الإختراق، لا بصيغ الإنعكاس".
…………………
عدنان الصائغ
شاعر عراقي مقيم في السويد
* * *
هوامش:
(1) النفري عبد الله محمد بن عبد الجبار بن الحسن توفي عام 965 م نسبته الى بلدة النِفّر بالكوفة
(2) الكِسائي: أبو الحسن تـ 805 من كبار نحات الكوفة وأحد القراء السبعة. مؤدب الأمين والمأمون. له "رسالة في ما يلحن فيه العامة"
(3) "… فقد استطاع الحجاج مثلاً أقامة حكمه القوي أكثر من عشرين عاماً رغم السخط الجماهيري الواسع في حين خذلت الجماهير علياً بن أبي طالب رغم ولائها له" ثم يستخلص قائلاً: "فعمر العدل على الأرض قصيرٌ جداً قياساً الى عمر الظلم الطويل الأمد .. أن السلطة سريعة الجنوح للعزلة عن الجماهير لأنها تتكتل حول نفسها بما تملكه من الثروة ووسائل القوة والمهمات والأعمال، وتزداد السلطة عزلة كلما ازدادت طبقيةً وطغيانيةً" - عزيز السيد جاسم في كتابه "علي ابن طالب سلطة الحق" دار الآداب/ بيروت 88 ط1 - وهذا الكتاب حصلت عليه من الكاتب نفسه بعد أن مُنع في العراق وكان السبب في أعتقاله وإجباره على التنكر لكتابه في المقدمة التي دبجها لكتاب جديد يحمل العنوان نفسه مع أربعة كتب أخرى طُلب منه تأليفها وطبعت في مطابع دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد. وكنت أثناء عملي موظفاً في نادي الكتاب وترددي على مكتبة الدار أرى الكتب والمجلدات تحمل إلى معتقله في سيارة خاصة وعرفت من موظفة المكتبة فيما بعد أن هذه الكتب كانت تحمل إليه، هناك – بأمر خاص - لتأليف تلك الكتب. وقبل اعتقاله أذكر لقاءاتنا المتكررة نهاية الثمانينات: الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي والكاتب وأنا، في المقهى البغدادي على شارع أبي نؤاس صيف 1990 (أنظر الحوار الطويل الذي أجريته مع البياتي والذي صدر في كتاب "ما تبقى من الطوفان" لندن 1996 وديوان "كتاب المراثي" للبياتي وفيه قصيدتان أهداهما لعزيز السيد جاسم، ولي من وحي تلك الأيام)..
(4) زيد بن علي: "الإمام من شهر سيفه وليس الإمام منا من أرخى عليه ستره ". وكان يتمثل وهو في طريقه الى الكوفة:
"شرده الخوف وأزرى به كذاك من يكره حر الجلاد" الخ القصيدة.
(5) يذكر أدونيس في ديوانه "أمس المكان الآن" أن أبا الفضل الكوفي "شخصية غامضة خصه المتنبي بقصيدة بعد عودته من بادية السماوة وكان فيلسوفاً وقيل هو الذي أضل المتنبي وهوّسه وعرّفه بالفلسفة اليونانية يقول المتنبي يخاطبه:
نور تظاهر فيك لاهوتيّهُ فتكاد تعلم علم ما لن يعُلما"
(6) أنظر الى خطبة والي الكوفة خالد القسري يوم الأضحى وهو يذبح الجعد بن درهم في الجامع سنة 124 هـ قائلاً: "أيها الناس ضحّوا، فإني سأضحي بجعد". وانظر الى حكم الحجاج على ابراهيم بن يزيد التميمي الكوفي بأن يأكل الجمر حتى يموت. وانظر الى ما حدث للزاهد الكوفي ابراهيم التميمي الذي يروى أنه "كان الطير يرف على كتفيه حين يصلي" قتله الحجاج في سجنه.
(7) بل ان الشاعر مصطفى جمال الدين نفسه كان يواجه مستغرباً من يرى فيه جمع الضدين ، يقول:" صادفت أكثر من واحد يسألني كيف أجمع بين كوني رجل دين وشاعراً غزلاً فأتعجب كيف يرد مثل هذا السؤال في أذهان البعض".
(8 ) وانظر أيضاً لقول القاضي الديار بكري المالكي المتوفى 966 هـ: "في سنة 71 هـ هدم عبد الملك بن مروان قصر الأمارة في الكوفه وسببه أنه جلس ووضع رأس مصعب بين يديه فقال له عبد الملك بن عمير: يا أمير المؤمنين جلست أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس ورأس الحسين بن علي بين يديه ثم جلست أنا والمختار بن أبي عبيدة فأذا رأس عبيد الله بن زياد بين يديه ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه ثم جلستُ مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه وأنا أعيذ أمير المؤمنين من شر هذا المجلس، فارتعد عبد الملك بن مروان وقام من فوره وأمر بهدم القصر" ومن زاوية ثانية أنظر الى قول الحسين بن علي بن زياد الوشاء البجلي نقلاً عن أبن عيسى القمي: "أني أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد"
(9) قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: "لما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة والكواكب يضرب بعضها بعضاً، واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، وقيل لم يقلب يومئذ حجر في البيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط". ويذكر الخوارزمي في مقتل الحسين بأنه حين سؤل أبن سيرين: أتعلم هذه الحمرة في الأفق مم هي؟ قال: "عُرفت من يوم مقتل الحسين بن علي". وغيرها من الروايات المذكورة في ينابيع المودة للقندوسي الذي يذكر نقلاً عن ابن عباس: "أن يوم مقتل الحسين قطرت السماء دماً وأن الحمرة التي ترى في السماء ظهرت يوم مقتله ولم تر قبله" وكذلك في الصواعق المحرقة لأبن حجر الهيثمي والمعجم الكبير للطبراني ومقتل الحسين لأبي مخنف وغيرها.
من جانب آخر لاحظ مقالة الناقد د. حسن ناظم "ترميز المطر في انشودة المطر للسياب": "إن تحول المطر الى دم يستهدف تحريك الرغبة في التغيير، وإن هذه الرغبة أو هذا التغيير كان يستلزم مثل هذا التحول في الوظيفة الأصلية للمطر على الرغم من أن النظرة العميقة تبين إن الوظيفة بقيت هي هي، وأن مماهاة الدم بالمطر إنما كان من أجل إضفاء طابع العنف على عملية التغيير فالدم والمطر يغيران الحياة ويحققان الإنبعاث، بيد أن المماهاة بينهما تضفي على التغيير طابعاً قسرياً فهو تغيير غير طبيعي، بل تغيير هو ثمرة للكفاح والثورة. (الحركة الشعرية/ ع 7)
لقد ورث الشاعر المعاصر إرثاً ضخماً من النكبات والمراثي والحروب وإذا كان الإنسان المقهور يقوده قهره إلى الأيمان بالغيب كما نلحظ ذلك في المثيولوجيا الشيعية في غيبة المهدي، لكن الشاعر قد يثور على هذا الإستسلام، يقول د. عبد الله الصائغ:
"حججت أربعين أربعاء في مسجد السهلة كي أراك لم أرك سمرني القاع وغصت لا قرار"
فقد استغلت بعض الحركات السياسية هذا المخيال واسثمرته لصالحها. لاحظ محمد الجويلي "الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي/ بين المقدس والمدنس" سراس للنشر 1992 تونس" ففي ليلة المعراج رأى الرسول "ص" دم الشهداء "علي بن أبي طالب والحسين .. الخ" فزفر زفرة ألم سيخلق الله منها بعد ذلك الحديد الذي سيصنع منه سيف أبي مسلم الخراساني كما إن دمعة الرسول "ص" التي إنسابت لوعة على الشهداء ستتحول الى شجرة ستصنع منها يد هذا السيف.
كما استلهم بعض المبدعين هذا المخيال أيضاً ووظفه داخل سياقات النص. لاحظ استخدام ماركيز لطيران احدى مطلاته في مائة عام من العزلة مثلاً
(10) أنظر د. رؤوف محمد علي الأنصاري في دراسته عن"المدارس العلمية الإسلامية في كربلاء" : " والمدارس الإسلامية في كربلاء تحمل صفات وخصائص معمارية متميزة تتناسب مع الهدف الذي انشئت من أجله. ويمثل تخطيطها طرازاً معمارياً معروفاً في العراق يعرف بالطراز الحيري نسبة الى مدينة الحيرة قرب الكوفة والذي يتمثل باحلال الصحن (الفناء المكشوف) المكان الأول في التخطيط، وتأتي الأروقة المسقوفة المكشوفة والقاعات والغرف والمصلى والممرات والمداخل لتحتل مكانها حول تلك الساحة التي تتجه إليها كل مرافق البناء. إن هذا التنسيق الذي اتبع في بناء المدارس الإسلامية يشير الى النظام المتبع في المباني الإسلامية والى اسلوب التخطيط المعماري الذي أكدته البيئة ومتطلبات الحياة الإجتماعية".
(11) " عندما وقفوا وجهاً لوجه أمام مكتبة الروضة الحسينية المطهرة التي تضم 100 ألف مجلد لا يقدر بثمن صار الحد الفاصل بين تفكيرهم والتاريخ عود ثقاب" . من كتاب "الانتفاضة" لم أستطع للأسف تذكر أسم المؤلف، مكتفياً بهذه السطور التي وجدتها بين أوراقي ودفاتري التي ضاع منها الكثير في الوطن والمنفى.
ويذكر وفيق السامرائي"هزائم صدام /الحلقة الاولى والثانية. صحيفة المؤتمر آذار1997" : "وبعد أن تمت السيطرة على مدينتي كربلاء والحلة اندفعت قوات المحورين باتجاه النجف وجرى رشقها بعدة مئات من الصواريخ التعبوية (ولونا) روسية الصنع وانواع أخرى برازيلية وأبرق طه الجزراوي الى صدام قائلاً "إننا نطبق على النجف وإنها فرصة التاريخ لسحق رأس الأفعى"
".. ودخلت القوات مدينة النجف لتبدأ مطحنة الشباب .. وتم دفن المئات في مقابر جماعية واقتيد الآلاف الى معتقلات الرضوانية ".
ويقول د. جليل العطية: "حدثني صديق كان من شهود الأنتفاضة وكتب الله له الخلاص: إن النجف تحولت الى خرائب وأطلال بـ (فضل) مدفعية القائد المهزوم. فلقد تم نسف معظم المساجد والمكتبات العامة وأماكن العبادة والعلم "والحسينيات" الخ …".
وبالإضافة الى الكتب ففي المرقد مصاحف خطية قديمة نادرة بعضها مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال وهدايا من ملوك العالم وشمعدانات وقناديل من الذهب الخالص وأوان فضية ونحاسية أثرية نادرة وطنافس قديمة مطرزة بالؤلؤ والذهب والمرجان وأصناف المجوهرات وغير ذلك.
(12) يذكر مصطفى جمال الدين في الديوان إنه وعبد الغني الخليلي كان لهم صديق مشترك حج مكة فكتب له:
" لو طفت في مكة ألفاً وقد عفرت خديك بذاك التراب
ثم رأيت الآس من رقة يحمر يسود بأيدي الصحاب
لبعت من زهدك أم القرى بطرقة منه وأم الكتاب" والخ
ثم تتحول القصيدة من الهزل الى الجد فيقول:
"بغداد أبناؤك في غربة وأنت للعافين دار اقتراب" والخ
يقول "وشاعت هذه القصيدة بين أصدقاء الطرفين فعارضها جماعة من الشعراء النجفيين أذكر منهم المرحومين: عبد الكريم الدجيلي وحسين الصافي كما عارضها الأستاذ محمد الهجري).
وإذ شهدت السنوات الماضية في المدينة بالتحديد طغيان قصائد الاخوانيات والمناسبات كالختان والزواج أو افتتاح مدرسة أو مراسلات بين الأصدقاء، فقد اتخذت القصائد الآن منحى آخر يماشي حداثة النص الجديد من جانب ويحافظ على عرى الذكريات والصداقة والحدث. فالشاعر لم يكتب شعراً "اخوانياً " إنه نص خالص لا علاقة له بالمناسبات. أنظر إلى الشاعر عبد الهادي الفرطوسي يهدي قصيدة " نجمة " إلى الشاعرة فليحة حسن على غلاف ديوانها "زيارة لمتحف الظل":
باب ظل التقية يفضي/ إلى ../ نفق الانتظار/ باب ظل الصواعق/ يؤدي إلى حمرة قانية/ باب بظل الحقيقة/ مقفل/ باب ظلك نجمة/ تسير إلى عالم أخضر كالهوى/ أزرق كالحقيقة".
وهي تهدي قصيدتها أمنية الى" الشاعر ع ..": "كان بودي أن آتيك/ لكن شوارعنا صحراء/ وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض"/ والشاعر عبود الجابري يهدي قصيدته "ما تبقى من رغيف المهاجر .. الى عدنان الصائغ : سوف يطيب لبعض الحواة التحدث عن جنة في جيوب الأفاعي/ وعن وطن صالح للحنين/ لكم علمتنا المتاريس أن نحتفي بإغتياب أصابعنا/ حين ندخلها في جيوب السراويل/ علمنا الحب كيف نؤثث أحزاننا بالركون الى زيجة عاطلة/ لم نجد سلماً لإعتلاء الرغيف/ وعلمنا الجوع كيف استدار الفضاء رغيفاً ومر على جوعنا/ يزرع الغيم في قامة الريح/ والقمح بين خطوط بيديه"(صحيفة الشعب الأردنية 27/12/1993)/ وعدنان الصائغ يهدي قصيدته " نجمة" الى حميد الزيدي( ديوان العصافير لا تحب الرصاص/ بغداد 1986) والى آخرين../ والشاعر أحمد الشيخ يهدي قصيدته تماجيد (الى روح البحر الخالد .. الصالح عبد المحسن)/ "يا ماء ../ قوسك مشدودة عليك/ وها هي رايتي تتبعها أجناد الرياح ../ كن تابعي .. إذن/ فعما قليل .. سأبسط كفي على مرآتك، غالباً،/ ولن تجد من كنوزك سوى الخرائب/ ولن يفلح صخور شواطئك/ غير أمواج الريش ../ ونواح نوارسها الأليم .."/ كما يهدي قصائد أخرى:" الى هوميروس مثلاً / الى أسعد كيفما اتفق / اليها ذات قمر واليها ذات شمس أيضاً / الى الدهشة التي يرسمها جناح الملاك الى علي بدر / الى شبير أولاً / الى البستاني محمد والمرشد رسول".
لاحظ معي أن القصائد السبع المهداة هي من أصل سبع قصائد تشكل مجموع كل الديوان، ولاحظ معي أيضاً شعرية الإهداء أيضاً..
(13) يقول الشاعر علي الشرقي :
لهفي لخمسين من سني قد اندرست في الكتب بحثاً كأني دودة الكبت
ويقول الشاعر أحمد الصافي النجفي:
مبعثرة جميع الكتب عندي قد انتشرت كعائلتي بدارِ
(14) يقول د. عبد الحسين شعبان في كتابه "الجواهري جدل الشعر والحياة": وكان الشعر بخاصة والأدب بعامة يشكلان الأساس الذي لا غنى عنه في المجالس والمناسبات الأدبية والدينية والإجتماعية التي هي أقرب الى الأندية الثقافية والفكرية تطورت على مر العصور. فقول الشعر في النجف – وكما تعارف عليه الناس – طبيعي، بمعنى آخر إنه غير مصطنع أو يهدف الى الكسب أي إنه وجداني "ضميري" نابع من الشعور وليس أمراً تعليمياً. يقول الجواهري إن الظواهر الأدبية والدينية كانتا تلتقيان وتصب كل منهما في مجرى الأخرى"
وقد عشتُ في طفولتي جانباً من هذه التجمعات الأدبية في بيت خالي الشاعر والناقد د. عبد الاله الصائغ حيث تفتحت عيوني على الكتب والحوارات الأدبية والمساجلات الشعرية أذكر من الاسماء: المرحوم موسى كريدي وحميد المطبعي ومحمد رضا ال صادق الذي كان معمماً وقد فرحت حين أهدى لي ديوانه "أنفاس الشباب" حين عرف ولعي المبكر بالشعر.
(15) يستذكر الدكتور جليل العطية تلك البيوتات العلمية قائلاً: "لعبد الرحيم أفضال كثيرة علي أهمها أنه قدمني إلى "المجتمع النجفي". النجف مدينة غامضة، لا تفتح أذرعها إلى مخلوق بسهولة.. وبواسطة عبد الرحيم تعرفت الى صفوة العلماء والأدباء والشعراء في طليعتهم الأئمة والشيوخ محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي واغا بزرك الطهراني أمطرهم الله بشآبيب رحمته. وحضرت مجالس وندوات أدبية وعلمية وأجتماعية تركت في قلبي براكين من السرور ... وأن أنسى، لا أنسى الشيخ الجليل أغا بزرك صاحب موسوعة (الذريعة) والذي كنت أراه يعمل بنشاط وهمة يتكأ على حصير بسيط في باحة داره وبيده قصبة يكتب فيها بيد مرتعشة وحوله عشرات المخطوطات والمصادر النادرة، كان يحمل على ظهره تسعين عاماً وعلى الرغم من ذلك كان يتحدى الزمن ويصارع الدهر وظل يؤلف ويفكر حتى توفاه الله "في العشرين من شباط 1970". أما الإمام أبو القاسم الخوئي فأن مجلسه ساحر لا يمل، فهذا الفقيه العالم بالأصول والرجل والمؤلف المكثر له حافظة عجيبة ومعرفة واسعة بعشائر العراق والمنطقة. زرناه مرة في الكوفة وكان معنا الأديب والمؤرخ عبد الرزاق الهلالي فسأله رأيه بكتاب "العشائر العراقية" للمحامي عباس العزاوي فطلب من أحد أولاده دفتراً ضخماً تبين أنه يتضمن ملاحظاته على الكتاب"
[ الهوامش من 16الى20 من كتاب الخليلي سلاماً ياغريب "بتصرف"]
(16) من كبار المغنين العرب نشأ في الحيرة وكان ينتقل بينها وبين الكوفة والنجف والبصرة يتكسب بالغناء وهذا صدر بيت شعر له معروف: أنا حنين ومنزلي النجف ومانديمي إلا الفتى القصف.
(17) هي ابنة النعمان ملك الحيرة. تزوجها بعد حب عدي بن زيد التميمي الشاعر، قام النعمان بسجنه بسبب وشاية ثم قتله، وبعده ترهبت هند وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة حتى ماتت، ومما يروى عنها أنها كانت ترعى أكثر من خمسمائة دير "كتاب الأغاني".
(18) العلالي مفردها علية سريانية الأصل وهي غرفة تكون عادة فوق المنزل وقد تتخذ للضيوف.
(19) الثرواني – محمد بن عبد الرحمن، أبو نواس الكوفة. والإشارة إلى مقطوعته التي يقول فيها:
على الريحان والراح وأيام الأكيراح
وإباريق كطير الماء في لجة ضحضاح
سلام يكسر الصاحي وما ثم فتى صاح
أذا عز بنا الماء مزجنا الراح بالراح
(20) الأكياح موقع قرب الكوفة فيه دير. ولعله الذي قصده أبو نؤاس في إحدى خمرياته التي مطلعها:
يادير حنة في ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاح
(21) في فندق القدس في عمان حدثت الروائي والكاتب جبرا ابراهيم جبرا عن أغرب وارعب حكاية بطلتها روايته "البحث عن وليد مسعود" التي أستعارها حميد الزيدي من صديق أعدم ثم استعارها منه عبد الحي النفاخ قبل إعدام الزيدي واستعرتها من النفاخ قبل أن يجن وقد تركتها قبل سفري عند أحد الأصدقاء فارتجف جبرا رعباً "-المنفىالآخر.شهادة عن الجيل الثمانيني في العراق. عدنان الصائغ"
(22) محمد حسن الطريحي 1959- 1787 من ديوانه المخطوط "البقاء للحب"
غداً اللقاء فكيف نتفقُ أم كيف توصل بيننا الطرقُ
طال إنتظاري كل ثانية تمضي سدى وكأنها نفق
فخذي يدي اليكِ في عجل وتحسسيها كيف تحترق
تتبادل القبلات اعيننا فمتى الشفاه اللعس تنطبق
(23) لم يطبع بعض الشعراء دواوينهم طيلة حياتهم كالبرقعاوي والقرشي وغيرهم تاركين نصوصهم محفوظة شفاهاً واكتفى البحراني بطبع مسرحية واحدة له. وطبع آخرون مجموعةواحدة في الغالب:"صالح الظالمي: دروب الضباب/ جميل حيدر: نبع وظل/ عبد الرسول البرقعاوي: صلاة في حضرة النهر/ محمد حسين المحتصر: الإغتراب/. غير إن الأجيال الجديدة كسرت "القاعدة" ونشر شعراؤها مجاميعهم مبكراً، فأصدر الشاعر مهدي هادي ديوانه "النفخ في الرماد" وأصدر صباح عنوز ديوانه "سأمنح عينيك إنتظاري" وأصدرت فليحة حسن ديوانيها "لاني فتاة"، و "زيارة لمتحف الظل" وأصدر أحمد الشيخ دواوينه "قداس لإفتتاح العبارة"، "نصوص نصوص"، "كتاب الخرائط"، "طائر الآن" وغيرهم …
يذكر د. عبد الإله الصائغ في كتابه "الخطاب الشعري الحداثوي والصور الفنية" .بيروت. 1999: "حين أقامت الرابطة الأدبية عام 1960 ملتقاها للشعر العربي في مدينة النجف الأشرف أدركت إن الشاعر جميل حيدر شاعر جديد الموهبة وإنه يعرف أسرار القصيدة فسلك سبيل الإستعارة وكان يحمل مجموعة من القصائد في دفتر مضطرب الحرف فطلبت إليه إعارتي ذلك الدفتر فتردد قليلاً، ثم قدمه لي وأخبرني إنه يكتب الشعر بالوهلة الأولى أي بلا مسودة، فإذا ضاع الدفتر فليس ثمة بديل عنه، ولبث الدفتر عندي حتى كتابة هذا البحث. والمدهش إنني كلما أعدته للشاعر أجده غير راغب فيه فأثار الأمر في نفسي أمراً آخر. فبدأت قراءات عديدة فأثارني شغف جميل حيدر بالإستعارة الصريحة، وحرصت على أن استثمر نصوص الدفتر في هذا البحث لكن الدفتر في بغداد وكاتب السطور في طرابلس".
وتجد في موسوعة علي الخاقاني " شعراء الغري " التي تقع بـ 12 مجلداً مئات الشعراء النجفيين الذين عاشوا وماتوا في الظل وأندرست أسماؤهم وآثارهم.طبعت الموسوعة في الخمسينات في النجف
(24) وراحت أمواجه أينما اتجهت تروي تأريخ الوجع والظلم والتشرد، ومنها قصة هذه العائلة العريقة التي تفرق أبناؤها مثل امواجه في شتات الأرض، بين دمشق وبيروت وهولندا والدنمارك وأيران ولندن وأمريكا.
(25) أنظر لما يقوله الشاعر العراقي أسعد الجبوري في حوار معه في جريدة السفير اللبنانية 10/3/1999: "الشعر الآن في العراق جنازة محمولة على أكتاف الخراب... والقصائد التي تسربت إلى ما وراء الحدود والبحار وتلك التي هربت إلى الخارج مصابة بمرض الايدز" ويرد عليه شاعر عراقي آخر هو كريم جواد في عموده الثقافي على صفحات جريدة "نداء الرافدين" في دمشق 11/3/1999، مسفهاً تلك الآراء. لكنه في عمود آخر تحت عنوان "خروقات طفيفة" نراه يستغرب من احتفاء الكتابات النقدية واطلاقها صفة "الجرأة" على بعض الأعمال لمؤلفين عراقيين ما زالوا يمارسون الكتابة داخل العراق، فيقول: "الجرأة هنا في الأعمال أياها لا تتجاوز التلميح أو تمرير الـ معنى مواربةً عن حالة تذمر – ولا أقول تمرد – يعيشها البطل في الرواية أو القصة وفي عموم الأجناس الأدبية الفنية الأخرى من قبيل قول شاعر: "أن الحرب أهدته عكازاً وقدماً اصطناعية" أو أن يرد على لسان شخصية روائية اصطلاح "موتى الحروب" عوض "الشهداء" ثم يضيف: "أن التلميح وكسر التابو في مواضع محددة ومن خلال كلمة أو عبارة لا ينطوي كعمل فني على ما هو خارق للعادة في وقت ينتظر فيه الكثيرون أعمالاً أدبية في العراق ودون مواربات سوى ما تفرضه سلطة العمل الإبداعي ذاته".. ترى مالذي يمكن للنص – برأيه – ان يعبّر عما يريده داخل هامش الحرية الضيق الذي يعرفه جيداّ، وأذا أستطاع فمن أي مقص سيفلت. وقائمة ضحايا التعبير في العراق أكبر من أن تعد في هذه السطور.
أن الصوت المبدع الصامت أو هذه الخروقات الطفيفة بحد ذاتها تصبح أحياناً لدى السلطة جريمة يجب معاقبتها فكيف بالرأي المعارض.
لكن..
لا بأس، ليرينا من يدعي البطولة ماذا كتب ونشر علناً عندما كان هناك داخل الوطن (وأنا هنا لا أعني الشاعرين المذكورين، فالقضية أكبر بكثير، تشمل أحزاباً وصحفاً ومثقفين و.. و.. )..
من جانب آخر أنظر مثلاً الى الموضوعية التي يقدم بها شاكر الأنباري رسالة العراق في مجلة المدى وهو يقول: "رغم الإبادة التي تتعرض لها الثقافة في العراق سواء كان ذلك بسبب الواقع السياسي الخانق وكبت الحريات وتسخير الكلمة لأغراض الحاكم أو الظروف الأقتصادية المرعبة التي يعيشها الشعب العراقي ومثقفوه عموماً إلا إن الحياة لا تتوقف والإبداع يبحث عن منافذ للخروج الى النور وكثيراً ما ارتدت وجوه الإبداع أكثر من قناع للخلاص من رقابة السائد ومجساته". ويضيف: "ليس كل ما يطمح له الحاكم في تجييره للثقافة والمثقفين يصبح بحكم متحقق وثمة جذوة للحفاظ على لب الثقافة الجادة والوطنية حتى داخل الذين ظن المتسلط أنه وضعهم تحت خيمته أو ظن أنه اشترى صمتهم على الأقل بثمن سلامتهم الجسدية…".
(26) البيان كتبه عدنان الصائغ مقدمة لأول ملف شعري أعده عن جيل الثمانينات ضم 17 شهادة شعرية ونصاً (مجلة حراس الوطن العدد 387 تموز 1987). وانظر الشهادة التي قدمها الشاعر علي عبد الأمير في مهرجان جرش عام 1998. وكذلك الى كتاب "إحتلال العقل" لمحمد الجزائري.
(27) البيان كتبه الشاعران فرج الحطاب وجمال علي الحلاق: الرؤيا الآن. كشف في سمات الشعرية الأحدث .بغداد .1997
أخيراً :
ربما قد فات هذا البحث الكثير من النصوص والأسماء والوقائع والمصادر والآراء. وأملي كبير أن تعينني ملاحظات الأخوة والأصدقاء وما بحوزتهم من نصوص ودراسات على تلافي النقص. وسأكون ممتناً لمن أحب محاورتي أو مواصلتي بما لديه على العنوان التالي:
Adnan Al-Sayegh
Ramels vag 109
213 69 Malmo / Sweden
Tel & Fax: 0046 40 949089
* * *
مصادر
* د. إبراهيم الحيدري. تراجيديا كربلاء. دار الساقي. لندن 1999
* أحمد الشيخ علي. طائر الآن. بغداد 1997
* أدونيس. الكتاب أمس المكان الآن. دار الساقي. لندن 1995.
* جيمس سكوت. المقاومة بالحيلة. دار الساقي. لندن 1995
* د. رؤوف محمد علي الأنصاري وآخرون. دراسات حول كربلاء ودورها الحضاري. دار الصفوة
للطباعة والنشر 1996
* السيوطي. تاريخ الخلفاء.
* صحف عراقية وعربية: الثورة. الجمهورية. القادسية. نداء الرافدين. الحياة. السفير. الشعب.
* الزمان. الشرق الأوسط. القدس العربي. العرب.
* د. عبد الإله الصائغ. الخطاب الشعري الحداثوي. المركز الثقافي العربي. بيروت 1999
* عبد الأمير الحصيري. شمس وربيع. بغداد 1986
* عبد الحسين شعبان. الجواهري جدل الشعر والحياة. دار الكنوز الأدبية بيروت 1997
* د. عبد العزيز المقالح. "الشعر بين الرؤيا والتشكيل". دار طلاس. دمشق ط2 1985
* عبد الغني الخليلي. سلاماً يا غريب. دار المنفى السويد 1996
* عزيز السيد جاسم. علي سلطة الحق. دار الآداب. بيروت 1988
* علي الرماحي. اشرطة كاسيت
* فرج الحطاب، جمال علي الحلاق. "الرؤيا الآن/ كشف في سمات الشعرية الأحدث" بغداد 1997.
* فرج الحطاب، عباس اليوسفي. الشعر العراقي الآن. بغداد 1998
* فرنسيس كريميو. محاورات مع أراغون. ترجمة: قيس خضور. دار الحقائق.
* فليحة حسن. زيارة لمتحف الظل. مطبعة الآداب النجف 1998
* مثنى عدنان الصائغ. "الكوفة" (مخطوط)
* مجلة أسفار ع11-12. 1989/ ع13 1992. بغداد
* مجلة الحركة الشعرية "أعداد متفرقة" اميركا
* مجلة الكوفة / مجلة الموسم " أعداد متفرقة" .هولندا
* مجلة المدى. ع15. 1997 دمشق
* مجلة الواح. ع5 1998./ ع7 1999 اسبانيا.
* مجلة واحد. ع2.3 1997/1998 هولندا
* محمد الجزائري. إحتلال العقل دار الرواق لندن 1998
* محمد الجويلي. الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي. سراس للنشر 1992. تونس.
* محمد حسن الطريحي. البقاء للحب " ديوان مخطوط".
* النفري. كتاب المواقف ويليه كتاب المخاطبات. منشورات الجمل. ألمانيا 1996
(*) قدمت قي الندوة العلمية التي عقدها مركز كربلاء في لندن عن (النجف الأشرف وإسهاماتها في الحضارة الإنسانية) للفترة 17-18 تموز(يوليو) 1999 وصدرت مع بحوث المشاركين في مجلدين بـ 1120 صفحة عن منشورات Book Extra في بريطانيا عام 2000