جيل الثمانينات.. جيل الحرب:
بيان أول للحرب.. بيان أول للجيل
عدنان الصائغ
ثمة أشياء كثيرة تحدث في هذا العالم، وعليك أن تختصر كل هذا في جملة أو سطر.. أشطب.. أشطب.. فليس من وقت كافٍ لأن تكمل صراخك،.. الطبول في الخارج، الطبول في الكتب، وفي صالة رأسك.. وصراخك يتصاعد من بين الأنقاض، من بين الروح والحرب، ثقيلاً، رمادياً، ومثخناً بالدم والصفير يحاول أن يغطي مسامات الورقة التي أمامك، والجدران واللاشيء. العصر يلهث، والخطى تلهث، والإعلانات أيضاً، والأرصفة تلهث وأنت أيضاً ووحدك تبحث عن من يصغي، عن فسحة للتأمل.. لا وقت! فدقائق الحرب تلتهم دقائقك البطيئة، وأنت والقذائف على مفترق طريق مسدود تحاولان التفاهم، أو على كفتين! وبينكما وطن بمساحة القبلة الأخيرة.. وطن وأطفال قادمون من الحرب وإلى الحرب.. وأشجار لها طعم الأحلام المؤجلة. سأكتفي من كل هذا بالأرزاق الجافة فلربما يستمر الكمين يوماً آخر، أياك والهواجس فقد يدل الطلقةَ عليك وميضُ سيجارة أو وميض هاجس.. وما أرخصهما مقابل هذا العنق الجميل الذي يتأرجح بعفوية وتكتم تحت السماء السوداء التي تمتد بلا حد. الحداثة – وبأختصار أشد دقة وهذياناً – أن تعيش عصرك.. وتفكر، و.. وتكتب بلغة عصرك، لا بلغة عصور الآخرين ماضياً أو مستقبلاً. والآن فكرْ جيداً – إذا كان لديك خمس دقائق أخرى لمواصلة قراءة حماقاتي هذه – فكرْ جيداً، الطرق متشعبة، والقصيدة أيضاً، مشتتة بينك والآخرين. قصائد عمودية تتسلق المنابر والأكف الجاهزة للتصفيق (كالذائقة السلفية مثلاً).. تصفيق (لا تحلم بتصفيق الجمهور، فأنت مغترب بالقصيدة.. وأمامك لكي تضمد جرحيكما الشرسين زمن أزرق قادم لتوضيح كل شيء، وخاصةً حداثتك الجديدة).. صمت.. صمت أيضاً مبطن بالمخاوف.. صمت يا للامبالات.. يا للهول (أنهم لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة، بل سيقولون: لماذا؟.. لماذا صمت الشعراء؟ - برخت - في اعقاب انتصار النازية وسيادتها على المانيا).. قصائد غارقة في الضباب (القاتل واضح والضحية واضحة فلماذا الغموض - معين بسيسو -) ضبابية لا ترى من خلالها أي شيء، قصائد للبيع، قصائد في البرج العاجي، قصائد مكعبة وميكانيكية ويومية تافهة، وأخرى طازجة محفوظة في ثلاجة الشاعر جاهزة للقلي أو الطهي أو للـ.. (أنتم.. يا من ستظهرون بعد الطوفان الذي غرقنا فيه، اذكروا حين تتحدثون عن ضعفنا، الزمنَ الأسودَ الذي نجوتم منه - برخت -)، (سوف ينقذ الجمالُ العالم – دوستوفسكي -). ولا تكتمل القصيدة. يقولون لك اكملها وأقبض أجرك. أكملها وأسترح.. ولا يحق لك أن تستريح طالما هذا القلق المدمر يموج في أعماقك المتصارعة. طالما الحرب. طالما أن هناك خطأً واحداً على وجه الأرض يهدد الجمال والشجر والأطفال.. ولا تكتمل القصيدة ستبقى لعنة أزلية تقض الشوارع والحراس.. ولا تكتمل أيضاً، يا لها من عنيدة جداً تراوغك دائماً في المصعد أو في الخندق أو داخل حقيبة إمرأة عابرة أو غصن أو شضية أحالت صديقك سماءً من اللحم والدم والبكاء وتبقى القصيدة، وتبقى أنت مشروعاً مؤجلاً وحياتك على أقساط التأجيل تتقاطع أمام المحاسب أو بين عينيّ القناص الأعور.. شوارع رحبة لا تكمل عواءك لطفاً. فالعواء الطويل يغطي الغابة وعلى مشارفها ضجيج الماكنات يقضم الأشجار والروح والمدينة.. أشطب أحجارك وقصائدك واكتفِ بهذا القلق الضاج في أحشائك الصفراء.. لن تنفعك البيانات السريالية ولا مقهى حسن عجمي ولا ميتاجمالية خزعل الماجدي.. أنت وحدك أمام الموضع وجهاً لوجه مع القذيفة التي لا تحسم استعمال التفعيلات في تأبينك وصديقك العريف لن يجمع أحلامك وأوراقك المبعثرة.. فهو جريج أيضاً يفكر بالضماد وشرائط ابنته ونهاية الحرب.. إذاً ما الذي يجعلهم يطاردون وراء الحداثة والموضة والغرب.. أنت أكثر حداثة – صدقني – من كل ما يتشدقون به. أكثر حداثة.. دع البنيويين يرممون أحجار لغتك التي طشرتها الشظايا وأكتفِ بالترقب، فثمة سرب من الطائرات وكتب تتصاعد اسعارها وأغلفتها كالحمى، ونساء بالبنطلونات القصيرة يماشين الحداثة أيضاً.. لا شيء أكثر حداثة من دموع أمك الملفوفة بورق الوداع الشفاف مع الخبز الساخن.. الحداثة وطن، صدقني أيضاً، وسجائر لف،.. والحداثة هي قصيدتك أنت وجرحك أنت بلا قوالب جاهزة.. ممتزجان على الساتر الأول، أو القبلة الأولى.. الحداثة تراب وإمرأة ووجود وأصدقاء وبطاقة يانصيب، وسان جون بيرس، ومقهى يؤويك من القيظ، وكتب، ووجبة غداء بالدين، ولوحة، وجريدة، والبياتي، وسوق وباص عاطل، ومصعد على وشك أن يعطل فتتسلق سلم الجريدة لاهثاً من أجل أيصال قصيدتك إلى مسؤول الصفحة الثقافية، وماكنة حلاقة وأسمنت، وجسور، وأرصفة مزدحمة وعمارات مزدحمة، ونيون، وبساتين، وطيور، وحمورابي، وكعك بالسمسم، وكراج العلاوي، وأبو تمام، وجوع، جوع، جوع. (أن الوقت قد أزف لرفض أكل كل تلك الكتب لمستهترين يأمرونك بالتزام البيت دون الإستماع لجوعك. لكن ويحكِ. انظري الشارع، أليس غريباً، أليس مريباً، أليس محروساً جيداً. ومع ذلك سيكون لكِ أنتِ، أنه رائع – بيانات السريالية – اندريه بريتون). زخات مطر، ونساء وياسمين ومكاتب، وعمرك لا يكفي لأن تفتح ذراعيك ثم تطويهما على شيء (العمر قصير أقصر من فستان مراهقة، عبرت قبل قليل واجهة المقهى – من قصيدة لهذا المجنون الصائغ – الذي هو أنا – كتبها في الجبهة). وتبقى أيضاً – يا صديقي الطيب – تلاحق القصيدة أو العمر أو المرأة مشتتاً بالأخطاء تحاول أن تصلح من وضعك (حاولت أصلاح بعض الأبيات فلم أوفق.. إن الشعر لا يمكن إصلاحه – بول جيرالدي – في مقدمة ديوانه "النفوس الصغيرة") من أنت؟ لا ترتبك هكذا أمام السادة النقاد. هم سيتكفلون بالشتائم – لا يهم – وبوضعك في خانة المصطلحات المعدة مسبقاً. سيخدرونك بفاليوم الجيل والـ.. كما فعلوا للأجيال السابقة.. الرواد اتهمهم الجيل السبعيني بالسلفية والرواد أو نقادهم – على وجه الخصوص اتهمو السبعينيين بأنهم انتهوا إلى لا شيء.. والستينيون ضائعون (لازالوا) بين الوجود العدم، بين الغموض والوضوح. لم تبقَ من أكداس الأسماء سوى عدد الأصابع النحيلة.. (إن ما نقرأه منذ سنين بتدفقه الكمي ليس شعراً إلى حد يجعل واحداً مثلي متورطاً في الشعر منذ ربع قرن مضطراً لإعلان ضيقه بالشعر وأكثر من ذلك يمقته، يزدريه، ولا يفهمه. إن العقاب الذي نتعرض له يومياً من جراء هذا اللعب الطائش بالشعر يدفعنا أحياناً إلى قبول التهمة الموجهة إلى الشعر العربي الحديث – محمود درويش -) ولكنك الخارج من بين لحم وعظم الموت كوريد مقطوع بشظية لن تخدرك الشراشف البيضاء. حافياً على جمرة القصيدة. لا مبالياً بالشظايا والشتائم. عبثاً يحشرون جرحك في خانة ضيقة.. فأنت ممتد على مساحة واسعة من الخراب والأمل، تضيق برؤيتها نظارات النقاد الطبية. سيلعنونك إذن (وطبيعياً) لأنك لا تتمدد على مقاساتهم.. ومن أين يجدون لك مقاسات أخرى، أو ربطة عنق أخرى. فدكاكين النقد أوصدت أبوابها هذا المساء بسبب الغارة الجوية المفاجئة على المدينة.. ولا شيء غير هذه الألبسة الجاهزة، الضمادات أفضل. طيب، لتبقَ عارياً.. وحدك في عراء الزمن. ستصاب بالجنون أو الانفولونزا. لا يهم، المهم أن تعيد لجسدك عذرية العري ولمخيلتك عري الطبيعة الذي شوهته الإكسسوارات (إذا لم يأتِ الشعر طبيعياً كمجيء الأوراق في الشجرة، فمن الأفضل له أن لا يجيء أبداً. ينبغي أن يدهش بغزارته وليس بشذوذه. وينبغي أن يترك الأثر في المتلقي بإعتباره تعبيراً عن أكثر أفكاره الخاصة بعداً – كيتس -). في البدء أعلن انحيازي التام لهذا الجيل! اصدقائي الطيبين.. [ابراهيم زيدان، مزاحم علاوي، (عبد الحميد كاظم الصائح لماذا تخلفت عن الإستفتاء؟)، صلاح حسن، محمد تركي النصار، محمد جاسم مظلوم، لهيب عبد الخالق، سعد جاسم، علي رحماني، وسام هاشم، فضل خلف جبر، عمار عبد الخالق، قيس مجيد المولى، ليث الصندوق، هشام عبد الكريم، أديب أبو نوار، علي عبد الأمير، كاظم الفياض، نصيف الناصري الصعلوك العبثي، كمال عبد الرحمن، رعد فاضل، فاضل عزيز فرمان، علاوي كاظم كشيش، ريم قيس كبه، محمد حميد الهجول، باسم المرعبي، خضير ميري، رعد فاضل، شاكر مجيد سيفو، رباح نوري، أمل الجبوري، علي الشلاه، دنيا ميخائيل، عبد الرزاق الربيعي، و....] في البدء لم تكن لعبة صحفية – صدقوني – كانت أشبه بعواء أول، عواء أو صراخ له مساحة العالم أو أكثر.. ولكن النقاد بدأوا يحاصرونني بالأسئلة، الأصدقاء أيضاً، وسكرتير التحرير أيضاً: ماذا تبغي وراء زرع كل هذه الألغام في أرض الشعر الهادئة (ليس هنالك فنان يستطيع أن يحتمل الواقع لأن من طبيعة الفنان أن يضيق ذرعاً بالعالم – نيتشة -). ألوذ بطيبة قلبي وحصاري – أيها الأصدقاء – مهلاً، سأحاول توضيح الأمر بهدوء هذه المرة.. سأترك للأصدقاء فسحة للتحدث. أوراقهم مبعثرة أمامكم أما أنا فسأكتفي بالبحث عن مصطبة منعزلة للنوم. النعاس يداهمني والفنادق موصدة في جيبي تماماً – ريثما يكملون صراخهم البري غير المهذب أو المشذب تقريباً.. وبعدها سنترك القاعة للآخرين.. أوراقنا، جراحاتنا للآخرين.. لشتيمتنا مثلاً أو لمواساتنا، أو.. (مقدماً أشكر الذين واصلوا قراءتي لحد الآن.. شكراً أيضاً على كل شيء الورود والطعنات).. سأكتفي إذاً بقلبي (الا تلاحظون أننا – أو أنا على وجه الخصوص – لا أتقن فن التنظير أو تدبيج المقالات الضخمة).. (مهمة الأديب أن يحدث الناس – تولستوي -) كل ما لدينا أصواتنا المشرئبة أبداً للرصاص والحب.. أصواتنا تتجمع مرة لتغدو نشيداً واحداً، مدوياً، يتصاعد من أعماق النشيج والحرب والمدن. وتفترق أصواتاً وخطى مرتبكة في زحام (لا يمكن اغفال التشابك الذاتي مع الآخرين – سارتر -) أصوات.. أصوات.. لا تطلقوا الرصاص رجاءً.. فالثمانينيون قادمون.
(*) مجلة حراس "الوطن" ع 387 تموز 1987
|