أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 

عيون الشاعر

أسعد الهلالي
- صنعاء -

إلى عيني عدنان الصائغ،
من خلالهما طالما تمنيت أن أبصر..

لست إلاّ سعلاة.. هكذا خلقت.. أُقذفُ بعد الفطام في جسد طفل فيتشربني لأنمو معه خلية خلية.. أقتات على كركرة ضحكاته وألق الضوء الدافق عبر عينيه إلى تجاويفه المتوهجة.. فجأة تنتفخ مسامات الجسد الصبي الذي يحتويني فتبرز منها عيون صغيرة لامظة نهمة لاحتواء الأشياء العابرة والتشبث بحدودها الواهية أحياناً.. ألف من العيون أحاطت جسده وصارت تبعث إلى دماغه المجد آلافاً من الصور يستقبلها فتتحلل في روحه لتمنحه مشاعر خاصة يستغربها وقد يستهجنها أحياناً ذوي العينين..
- هل خطأ أن نحب الحياة؟
فكر صاحبي فتشربتُ الفكرة.. شعرت أن ثمة ما يحدث.. ربما ألم من نوع لم يعتده.. أو صورة أهاجت في قلبه مسحة الطهر الشاسعة الناضحة بهلامية مرهقة عبر الجسد المثقل بالعيون الألف.. عليّ أن ألملم حذري الآن.. فربما غادرت صاحبي كركراته وانحبس الضوء في محاجر أعينه, وهذان قوتي, حدود التفاهة السائبة كحمار تائه.. تجرجر الأزقة ساقيه فتواليان الطواف على جدرانها العتيقة وأبوابها الخشبية الواطئة, يدغدغ رمل الطرقات المنثال من سقوف متحضرة إبهام قدمه اليمنى البارز من شق حذائه البالي.. تزرزر عيونه الألف فتُغرز إحداها في شقوق غائرة من جدار آيل للسقوط وأخرى في وجه مغضن على قرون من الحرقة لفحت بلهيبها الوجه الذي كان فتياً ذات يوم.. ترتسم ابتسامة هرمة فتزلزل الغضون الراكدة على الوجه الشائخ, تستعير شفتا الشاعر الابتسامة الهرمة فيتفتت جزء بحجم الأظفر من قلبه, تتناقل كريات الدم آهة خرساء فتتلوى الشرايين والأوردة يعتصرها بكاء مخنوق.. يهمس..
- ينوء هذا القلب.. تحت قميصي المثقوب بالكلمات.. والطلقات.. أخلعه.. وأمشي في الشوارع عارياً.. كالضوء..
وخز الجوع جوفي ويبدو أن قوتي قد ولّت.. فما دامت عيونه تلتقط آثار الندوب على الوجوه وأغلفة الحزن الكابية بين تلافيف الأعين المنكسرة وانهمار الليل في خصلات شعر غجري ثائر.. فلا أملك إلا أن أستمع لإنثيال شِعره الحزين وصرخات جوعي الممض..
- إلى أين تمضي بأعمارنا غضّةً.. أيها الرب؟
طرفَتْ إحدى عيونه دامعة.. أغمضت جفنها, وأطفأ حزن شفيف ملكة الحذر الراصد فيها.. راقبت مبتهجة تلملم أطراف جوعي وتوفز أسناني الباشطة, وسرعان ما كانت العين المشربة بالحزن تلاك بين نتوءاتها فتخمد صرخات جوعي.. تمددت متثائبة.. وددت أن تستكين أقدامه السائرة دوماً لعلي أحظى بالقليل من الرقاد.. تنسحب الطرقات تحت قدميه كطفولته المغادرة.. تباطؤها الحيرة..
- أرسم درباً وأمحوه.. أرسم خطواً ويمحوه غيري.. فمن أين أبدأ؟
يعبث بي ضجر حانق.. تتم الحيرة استبطانه..
- ها أنا ربان منسي.. ضيعت البحر.. وضيعني.. فإلى أين أقود سفيني؟
يستحيل ضجري إلى غضب أمرد.. أصرخ بقوة.. أود أن أزلزل قلبه الآخذ بالتفتت كجثة سربلها القدم.. همست في أذنيه أغنيته العتيقة..
- حين ترى المجروح.. يغني.. محترق الروح.. على قارعة الدرب.. فتوقف.. حتى تعبر آهته.. نحو سماوات الله.. خشية أن تسحقها أقدامك.. حين تمر..
توقف أنت أيضاً.. إرحْ قدميك وقلبك وعينيك.. دعني أتمدد فيك قليلاً, وأعدك أني لن ألتهم عيناً فما أحوجني للراحة.. لكنه يواصل التقلب على حصى الطرقات قاطعاً ظلال الأشجار الكثيفة والمساحات الفائرة بلظى الشمس اللاهب فأصرخ..
- ألن تقف؟
يتمتم مسرعاً..
- أقف.. أمام المرآة.. لكي أرى وحدتي..
أصرخ ثانية..
- إلام تريد الوصول.. أم انه المسير فحسب؟
يتمتم أيضاً..
- حصان الناعور.. الذي ظل يدور.. ظن أنه قطع عشرات الأميال.. حين فتحوا عينيه.. رأى انه لم يبرح مكانه.. من سرق المسافات من بين قدميه؟
أنكفيء إلى جوفي الذي استيقظ جوعه.. فأدرك أن صاحبي إنما يسير في سباقه الغريب مع مجهول إلى خط النهاية الذي تاه عن نواظره.. يثقل رأسه بأكداس من الصور المؤلمة التي تضج بها الشوارع فيحيطها بشرنقات من دموعه ونثار من فتات قلبه.. يناور السهوم عين من أعينه فيستغرقها التأمل..
- بماذا.. تفكر الأفكار.. التي لا نفكرها؟
تغرق في السهوم فأسرع لالتهامها معبئة معدتي بعين طازجة الحيرة.. أدرك أن النهم قد امتلك معدتي فلم تعد العين الواحدة تشبعني.. أترصد العيون الأخرى باحثة عن أسرعها إلى الفتور.. تتماوج حنجرة الشاعر مترنمة..
- من أين أستدين أياماً صالحة؟ .. أيها الشعر.. لقد أفسدتَ عليّ حياتي تماماً..
تطرف عين دامعة فأسرع بالتهامها.. تنتشر ملوحة الدمع في تجاويفي فتدفعني إلى التجشؤ.. أزحف عبر الشريان الصاعد بطيئاً إلى الدماغ فتحاصرني طلاسم تشرع الخلايا المجهدة بحل عقدها فتنتشر أمامي كلمات وصور تُستحث على خلق أفكار واضحة منها.. الحياة.. كلمة تكررت مراراً.. أحاطها ضباب داكن مرة فشعرت بالاختناق. ثم ضباب أحمر.. فأصفر.. فأبيض.. ألوان تترى لتحيط بهذه الكلمة الذاهلة المشوشة.. تطفح فجأة حزمة من الكلمات الهامسة فتصفع الألوان المتبادلة وجه الحياة الذي بدا لي مليئاً بالبثور..
- أعرف الحياة من قفاها.. لكثرة ما أدارت لي وجهها..
انسابت الدموع على الخدود الغائمة للوجه المبثر, وتهادت كلماته من بين نشيجه..
- لست إلا خطوطاً تشكلونها أنّى شئتم.. متاحة بما أملك.. يسيرة المنال.. بين جوانحي يستفيء الجمال الذي يؤسر قلوبكم وعقولكم.. لمَ لا تصفعون وجوهكم.. فلست مذنبة ان أسأتم انتقاء ما تغترفونه من مناهلي..
أركب دفقة هاربة من دم لاهث يسرع الوريد بقذفه في ردهات القلب النابض.. أُسرعُ بالانتشار بين تلافيف العيون منتظرة اضطرام المشاعر في روح الشاعر الذي أسكن.. فهدهدة الألم بدأت بوخز أطراف الروح الساكنة وذهول عذاباتها تماوج بين حدقات العيون.. عبّ الشاعر دفقة من هواء سرعان ما طردته رئتاه محملة باسطوانة من الكلمات الدبقة..
- أقود الكلام من يديه.. كضرير.. وأعبر به زحام المعنى.. خشية أن يدهسه أحد.. في الطريق إلى النص..
أرقب حذرة دغدغة الكلمات لأطراف العيون وانكساراتها.. عبّ الشاعر ملء رئتيه نسيماً ليلياً بارداً.. تشبثت به الرئتان لحظات ثم سربته محملاً باسطوانات أخرى من كلمات تلونت بنجيع القلب المتفتت وبحلكة الأنفاس الليلية المتهدجة عبر حنجرة شققتها سكاكين الآلام اليومية المتعاظمة..
- من قال أن الفرح طائر قلق.. لا يستقر على غصن.. ها هو غصن حياتي.. ممتلئ بالعصافير الميتة..
تترنح أعين غادرتها إلى قلب الشاعر وعقله صور لونها اصفرار الموت البارد على الوجوه التي تحنطت في ملامحها المفاجأة.. هكذا هو الموت.. يسحق الروح ليدع للجسد رعشة ترقص على حدوده لحظات ثم تتجمد فجأة لتحبس فوضاها..
- عبثاً تحاول أن ترمم ما تكسر من زجاج القلب..
تدرك الأعين حقيقة انحسار دبيب النسغ الرطب على المسامات المنحسرة فتتبادل آهات كسيرة.. تدور حول بؤبؤاتها كأقمار متوهجة فتلملم بؤبؤاتٌ أطرافها لتختفي تحت أجفان احتقنت فيها سيول من الدمع.. أثب مسرعة لألتقطها واحدة اثر أخرى فأمضغ ما انحبس فيها من آهات ودموع.. تبتسم أحشائي برضى لكنها ما تلبث أن تطالب بالمزيد فأتقدُ مراقبة ما تبقى من عيون.. احتشد الليل بالنجوم المتلامعة وزفير الصمت الغافي وخواء الشوارع التي تتناثر على أرصفتها أوراق الصحف المهملة.. ارتجف قلب صاحبي المتكئ على عمود كهرباء صدئ.. تتساءل..
- الأرق.. نسي مفاتيح غرفته.. على طاولتي.. ترى أين يبيت الليلة؟
تطايرت مزقة من صحيفة لتحط كعصفور مبتل بين قدمي الشاعر.. توجهت مئات الأعين لتقفز فوق بقايا صورة الجنرال المبتسم باستهزاء إلى الكلمة الملونة بالأحمر الملطخ ببقايا براز جوف أصابه الاسهال بغتة.. الحرب.. وعندما بدأت صفارات الإنذار.. تطلق طيورها الميتة.. في فضاء المدينة.. هرب الجميع إلى العلب.. انتحر ضوء المصابيح في المدينة فسادها ظلام حالك.. ليل بدوي مرتعش.. لملم الشاعر أطراف فوضاه.. وحيث بحث في أدراج الليل.. ولم يجد سيجاراً.. أشعل عود الثقاب.. وبدأ يدخن نفسه بهدوء.. ملتذاً.. وهو يتلاشى رويداً.. رويدا في سحب الدخان.. أزّ الرصاص ودوت القنابل فتلقفته الخنادق لتمنح عيونه فرصاً أخرى للذهول.. كنت أرتجف هلعة.. فالحرب تمنح العيون يقظة وتسلب من الشفاه ابتساماتها.. عليّ إذن أن أرتدي خوذة الحرب أيضاً, وأوطن جوفي لاحتمال الجوع.. وربما ترقب الموت القادم مع انهمار الشظايا.. هرمت أغنية الشاعر حين تمدد الوقت واستطالت أشكال الموت الطازج المعلب..
- بيني وبين الرصاص مسافة صدقي.. وهذي القصيدة مبحوحة الصوت.. من فرط ما هرولت في الخنادق.. تصرخ من فزع وذهول.. – أوقفوا قرع هذي الطبول.. من يمسح الآن عن قبو ذاكرتي.. صور الأصدقاء الذين مضوا في بريد المعارك..
تناثرت وريقاته بين الشقوق والخنادق.. تحت خوذته وفي طيات بدلته الكاكية التي تنط من شقوقها بقايا عيونه الألف.. أدمنت أنامله الكتابة..
- كلما كتبتُ اسم الجنرال.. صرخت الورقة.. أنت توجعني أيها الشاعر..
صرت أشهد تفتت قلبه.. وأوشكت أن أعتاد جوعي لكن ازدياد قوافل القتلى وانحسار الوجوه الأليفة دفعه ليتمتم أحياناً..
- عبث كل ما يكتب الشعراء.. فهذا الزمان يعلمنا.. أن نصفق للقاتلين..
ساد الذهول جوانحه وعيونه أحياناً.. وصرت أحظى بين الآن والآخر بعين ذاهلة أو ربما باكية.. وحين دبّ اليأس إلى نفسه تناثرت الجرائد معلنة انتهاء المعارك.. فصرخت جوانحه..
- خلف الخطى الصاعدة.. إلى العرش.. ثمة دم منحدر على السلالم..
كثرة الطعنات وراء ظهره.. دفعته كثيراً إلى الأمام.. إلى المنافي التي اختار الغوص فيها لأغوص معه مترقبة سكون قدميه وروحه وقلبه..
- ما جدوى أن تسع العالم.. في بيت شعري وتعيش بلا بيت؟
صبّ روحه على أرصفة المنافي التي جابها قاطعاً الوريد الواصل بين روحه والوطن.. صارخاً..
- أيها الجنرالات.. ماذا صنعتم بأحلامنا؟.. أكل هذه الجزمات السود.. التي تسلقت أعناقنا.. وما زلنا نلوح للشمس..
غادره الوطن إلى صحارى التيه الأعظم مصطحباً وجوهاً محببة ورؤى متناثرة في زوايا الأزقة.. انه التباعد إذن.. حبل المسافة بينهما مثقل بالعقد والتشابكات.. وكلما حل عقدة.. طال حبل المسافة.. ناوره التيه.. وأربك القلق أجفان عيونه فصارت تتهافت إلى جوفي مستسلمة.. طاف أصقاع العالم.. لكنه لم يصل إلى نفسه.. سدد قلبه إلى الطلقة القاتلة.. وقذف ما تبقى من روحه في قمقم زجاجي تتلامع جدرانه وفضاءاته الواطئة.. تردد صوته أصداء متداخلة تتناثر متموجة كالأثير فيخترق اختلاج حنجرته الآذان الباحثة بين زوايا الأرض المخبئة ثقل الجزمات السوداء وأشرطة الرعب الحمراء على الأذرع المثقلة بالبنادق المهيأة دوماً للإطلاق.. استغرقته الدهشة.. تكورت حوله.. شرنقته.. ولأول مرة قررت أن أسمعه صوتي الهامس..
- لم أبقِ لك إلا عينين.. كن حذراً.. فلو التهمتهما.. سأشرع بالتهام قلبك..

صنعاء 22/4/1998


(*) كثيرة هي الاستعارات التي استفدت فيها من روائع الشاعر عدنان الصائغ.


 
البحث Google Custom Search