أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
"نشيد أوروك" لعدنان الصائغ
عبود... يا أخانا الذي في الرماد

د. محمد جمعة
- صنعاء -

إن التعامل مع هذه القصيدة ـ الديوان عمل شائك وربما قاس بالنسبة للقارئ العراقي، ذلك أنه مشارك في النص بشكل أو بأخر، فهو مسبقاً كان قد شم رائحة الدخان التي تنبعث من بين الأسطر، وتعثر بجثة جندي تنهشه الكلاب على طريق صفوان - البصرة، وكاد أن ينفجر بل ربما انفجر تحت قدمه لغم أرضي، لذلك تكون قراءة هذه القصيدة مركبة، من جهة التعامل مع نص شعري. ومن جهة أخرى إعادة سرد لسيرة ذاتية لكل قاريء عراقي ومعايشة لتفاصيل كارثية مر بها. سنحاول في هذه القراءة الأولية لقصيدة أو ديوان عدنان الصائغ "نشيد أوروك" تناول بعض السمات الأساسية والعامة التي تظهر خلال القصيدة:
1. الهذيان .... آه أيها اللاوعي!: في الكتابة الشعرية وبشكل عام يشترك كل من اللاوعي والوعي في ولادة النتاج الشعري، فاللاوعي هو رحم القصيدة الأول والمولد للصورة أو (الفكرة) الشعرية عبر آلية تلقائية مبهمة أو كمنعكس لمدركٍ حسي، هناك في الطبقات الغامضة والمجهولة يبدأ تململ وتشكل هلام الصورة الشعرية وليس (شيطان الشعر) أو (الإلهام) سوى تصعيدات في عمل هذه الآلية أو لحظات تفتح فيها مسارات عبر هذه الطبقات المجهولة. بعد ذلك يدخل هذا الهلام الأول تحت أصابع مشتركة لـ اللاوعي والوعي يتم من خلالها تمايز عناصر الصورة وزيادة وضوحها ثم ليباشر الوعي عملية أعطاء الصورة الشعرية صيغتها النهائية وكيانها (المادي) اللغوي عبر نحت المفردة والجملة. إذن يمكن القول أن الكتابة الشعرية هي نتاج مشترك لكل من اللاوعي والوعي. بعد أن نعرف هذا نتذكر أن الشاعر أعطى لديوانه أو قصيدته عنواناً آخر هو "هذيانات جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها"، وإذا علماً أن تعريف الهذيان هو اضطراب في وظائف الدماغ العليا مع تدهور في درجة الوعي نصل إلى نتيجة نظرية هي أن هذا العمل الشعري نتاج لفعل متفرد لـ لاوعي الشاعر وأنه أشبه بجلسة تنويم مغناطيسي طويلة ترك فيها لـ (اللاوعي) حريته القصوى التي أنتجت كل هذا الخليط من الصور والمذكرات والأساطير والوثائق والمحكي والمُغنّى... الخ....... أن الوصول لهذه النتيجة يفتح أمامنا باباً مهماً في التعامل وفنهم هذه القصيدة، مثلاً في استخدامها للأسطورة حيث احتوت على كم هائل من الأساطير التي أنتجتها حضارة وادي الرافدين أو الحضارات الأخرى ولكنه لا ينقب في عناصر أسطورة واحدة بشكل مطول للوصول إلى نتائج ما، بل أنها ـ أي الأساطير ـ تجيء عادةً بشكل متلاحق وسريع في أحد مقاطع القصيدة (صفحة أو صفحتين) وبتتابع لأساطير مختلفة ثم لتغيب في مقاطع تالية لتعود بالظهور مرة أخرى وعادة ما يكون ذلك بشكل محاكاة لغوية شعرية للثيمة الأساسية لإحد الأساطير تتبع لمحاكاة مماثلة لأسطورة أخرى وهكذا. والشيء نفسه يقال على الاقتباسات التي يحاكيها الشاعر لقصائد شعراء آخرين أو كلام الجنود أو وثائق رسمية أو استخدام الأغنية الشعبية. إننا لنحس في كل هذا أن هناك ثمة غليان هائل ومسعور للاوعي الشاعر تفور فيه وتقذف منه إلى أعلى عناصر كثيرة ومتباينة كذلك نلاحظ تداخل لمراحل الزمان أو تداخل الأمكنة أو الشخصيات، وبصراحة أن استخدام وصف "هذيانات" كان صحيحاً تماماً.
2. البانورامية: التي تُعرف أحياناً بأنها منظر كامل في كل اتجاه، وهذا يصح كثيراً على هذه القصيدة التي تحتشد بكم هائل جداً من أساطير واقتباسات وأفكار وتداعيات وكلام يومي وأغان شعبية وبكاء وضحك وحب وحرب وأحلام وكوابيس و... و... و...
3. ثنائية الحب والحرب: يلاحظ توازي هذين العنصرين على طول مسار القصيدة. دائماً ثمة حبيبة ما هناك.. وهي قد تجيء لابسة ثوبها الرومانسي العذري بأحلامه العذبة أو تجيء محمومة طافحة بالرغبة المكبوتة.. تفاجيء (عبود) وهو شخصية القصيدة الرئيسة والرمز للشاعر والجندي والمواطن الخائب، تفاجئه داخل الموضع في جبهة الحرب أو تنتظر عودة الراحل إلى درب "الصد ما رد" أو درب اللاعودة. كأن إصرار الشاعر على وجود المرأة على طول مسار القصيدة هو إصرار على طاقة الحياة ورفض لمنطق القتل والحرب.
4. اللغة الشعرية السلسة: من سمات الجملة الشعرية لعدنان الصائغ أنها تمزج وبشكل سلس بين اليومي والحلمي، ثمة انتقالة مبهرة دائماً من المألوف إلى اللامألوف، فالصور ليست في برجها العاجي فهي تنحت في اليومي والمعتاد بين المفردات ثم تجيء الضربة الأخرى التي تصبغها باللون الآخر

"اهبط سلم بيتي.. يهبط خلفي حشد نهارات بائتةٍ" "آه يا فمنا المر.. ثقب الصفير الذي اختصر الكون في آهة.."

المتلقي لا يتعب كثيراً في استجلاء الصورة الشعرية التي رغم أنها   تعطي نفسها بسهولة إلا أنها لا تغادر الملتقي بسرعة.
5. الدرامية: ثمة وجود بارز بل وطاغ للحدث، داخل السياق الشعري، ولا نقصد بالدرامية المفهوم التقليدي من حيث وجود فعل وفعل مضاد وهكذا، بل نقصد أن الجملة الشعرية تشير دائماً إلى شيء ما يحدث ولهذا كثرت الأفعال الدالة على هذا، ثمة حركة متسارعة دائماً .. كأن الشاعر يركض خلف ما لا يقبض عليه "ألم تبصروا حبيبتي؟" لهاث محموم هروباً من أو لحاقاً بالأحداث الكارثية كأني به يركض بين القنابل والدوي والدخان ويرمي الأشياء بالشعر حتى إذا وصل إلى نهاية القصيدة نجده متعباً منهكاً، يرمي أوراقه، ربما يحرقها، ويجلس وحيداً بملابسه الخاكي المثقّبة وحقيبة المنفى، ماداً بصره إلى الأفق الدامي البعيد، وباستكانة المهزوم ينهي القصيدة:

"أماناً
  بلادي التي لن أرى".....


(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002 النمسا (عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search