أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
نشيد أوروك

غالب الشابندر
كاتب عراقي مقيم في السويد

نشيد أُوروك نهد أسيوي حار ، في أيام تكونه المبكر، لا يعطي سرًه إلاً لذلك الذي يجيد فن النظر المشبوب بالحب، نهد أسيوي يمر بلحظة نضجه الجهنمي الصارخ، تكوره أسراره العميقة، وليس تلك الشرايين المنسوجة رغماً عنه.
الديوان… النشيد… القصيدة…حِلمةُ نهدٍ ترتوي من رحيقه الفائر، على أطرافه المرتعشة ، يقع عالم يموج بالحب والحرية.
هذا النهد يتجاهل النظرة المستقرة … يتطلع الى نظرة تختزن حرائق التاريخ… كذلك نشيد أُروك، إنه ينتظر الفجر الصاخب على الزمن المتآكل… الفجر المجنون بالشهوة… فليس للمستغيث إلا المحترق بآهات اليأس، منقوشاً على صفحات المرايا المنتهكة.
النشيد ينسج ملحمة الكلمة، وهي تتقلب على صفحات الزفير الإنساني عبر التاريخ، ومن الصعب على البعد الواحد ان يستوعب الكلمة، وهي تدر شبقها الكوني، شهوتها الزمنية في فوضى عارمة، تختزن صرامة الفكر في كل أبعاده… من العسير ـ بل من المستحيل ـ على الناقد أن يلتقط أو يحدد هوية الصائغ الشاعر، فكلُ يجد فيه هوىً، لأنه وبروحه المبعثرة، يبتدع أكثر من هوى، وأكثر من إشارة، يتفق الجميع على أنها واقع محسوس أو معقول، إذن ، ولكي تستوعب النشيد عليك ان تتوزع بإخلاص على قِطع التاريخ وأحداث الزمن، وهي تتحاور و تتصارع…إنه نهد أسيوي بكر، يرتجف على نبضات حُلمه السري ، فلا تقترب منه إذا كنت لا تقوى على النفاذ الى سخونته الكاملة.

كيف يتسنى لقاريء أو لمستمع أن يعرف أسرار النشيد… ان يكتوي بناره… ان يتماهى مع شظيات وجدانه… وهو لا يجيد الجمع بين شهوة أبقراط ودم الحسين عليه السلام… بين جبة الحلاج وبرج إيفل … بين أثار البيروني وحكمة حافظ…بين عقل أرسطو وعبث بلزاك …بين الحروف المتناثرة وكلمة الحياة المحبوكة بنعمة البداهة…بين الميتافيزيقيا وحجر الكلس… بين صلاة وخمر … بين نسيان أبله وذاكرة ثائرة… بين مزحة داعرة وحزن وقور..
هذا هو النشيد …
ألم أقل انه نهد أسيوي حار ، نهد تحركه شهوته لتلفه في دائرة من أوتار الأسرار الأزلية ، لا يستجيب إلاّ للأنامل التي خبرت حكمة الإله وهو يبدع ينبوع الحياة.

[ .. و أقول لصحبي: اشربوني على مهل لتذوقوا حلاوة روحي ولا تكسروا الكأس .في القطرات الأخيرة يعتق خمري …] ص42

2

في نشيد أوروك يبدأ الشاعر من حيث لا يدري ، وينتهي من حيث لا يدري، وبين البداية والنهاية تستقر مسافة من فوضى التداعيات ، تفتش عن هوية الشاعر ، علًها تنقذ جراحاتها من النزف القاتل ، ولكن دون جدوى ، لأن الشاعر دخل مرحلة الهذيان الذي يأبى احترام السؤال الساذج والاستفهام المبتذل ، فيمضي بلا توقف ، تجبره مادة الاعتراف النبيل وتعصره ضرورة الشهادة الصريحة على هذا العصر المتعثر.
منذ البداية تتأسس الفاجعة!
منذ ا لبداية تطل المأساة على وقع الكلمات الجريحة، على إيقاع القوافي الكسيرة.
منذ البداية تستوي ا لكارثة على ا لمسافات الملتهبة بين الحروف، وهي تلعن لحظة الولادة ، وتستغيث موتاً يشترى .
منذ البداية ترتسم صورة النازلة التي راحت تمزق منطق الحياة، وتبعثر رسالة الكون الرحيم.
منذ البداية يعلن السلب انتصاره الأبدي… تفرده المطلق بسر البقاء… يطرد الى الأبد عدمه الضروري.
تُرى ماذا بعد هذا؟
ما الذي يهبه القدر للحقيقة؟
ماذا بعد المسخ والتشويه؟
ماذا بعد الموت الزؤام؟
لا شيء!
يقول:

[في المحافل
      … أو المز ابل
   في الأغاني التي كرزتها الإذاعات
  في حجر القحط يجرش ضحك السنابل
  في دروب الصحافة ، في اللادروب، الغروب الذي سال
                                                       أو مال
من قال أن القصيدة لا تنتهي في جيوب ……..المقاول
في مقص الرقيب ( سينسى عويناته القزحية فوق سرير البغي)
يشطب في الصبح نصف القصيدة
كي تستقيم مع الميلان الأخير…
                   لوزن الوظيفة ].

منذ البداية ـ إذن ـ تتحدّد حرية القصيدة ، وهي الوجود السابق على كل تجربة، تتحدد بزفير البغي ، يشوه إيقاعها الجميل بخطاياه المرعبة ، كي تسفر عن موعد جديد على السرير المكبل بالإثم والخطيئة.
وأي إثم؟
إنه الإثم المسبوق بالإرادة.
وأي خطيئة؟
الخطيئة المبررة  بالشهوة المستعارة من الاستهتار بكرامة الحرف وشرف العطاء الخلاق .
منذ البداية تستجدي القصيدة حريتها الناقصة بين حافتي المقص الحديدي… فترتجف روح القصيدة… يرتعش ضميرها الحي حتى تستقر في جيب المقاول ، ليساومها على عفتها الأزلية.

3

تستبد فوضى التداعيات في المسافة المرهقة بين البداية والنهاية، تداعيات الصور والأفكار والرؤى والأحلام …تداعيات لا تمسك على نبضٍ من نبضات الحقيقة حتى تتفجر بالنهايات المنذرة بعوالم غاضبة، عوالم باكية، تلتهم الزمن، تجترح التاريخ، فقد كانت روح الشاعر تسبقه في انتظار هذيانه ، وفي كل لحظة تلتقي فيه الذات مع صاحبها، يفيض الهذيان بأسراره المكتومة، وتطفح اللغة بغضبها وتمردها وشكاياتها.
لم  يكن الشاعر حراً!
لقد كان الشاعر أسير انتماءين يتصارعان من أجل الاحتفاظ به او احتكاره الى الأبد، انتماء سابق على كل شيء، وهو الحرية ، اقصد الحرية الطبيعية ، فهي قيمة أولية تنبثق من داخل  الكون، والانتماء الثاني مفروض بقوة الحديد والنار ، لا يملك أي مبرر موضوعي او فكري يسوغ مشروعيته.
انتماءان…
أحدهما من رحم الطبيعة، من أعماق السليقة الكونية التي طُبع عليها الإنسان ، والآخر من خارج المنطق، من إفرازات التاريخ المصنوع رغماً عن قوانينه ونواميسه.
الشاعر يهذي لانه يريد الخلاص من هذا المأزق ، فالحرية تضغط وتطالب بحقها من الحياة، تتطلع الى مساحتها من بداهة الوجود ، فيما القهر يكتم الإرادة ، ويهيل على الصيرورة غياهب الصمت الرهيب.
أنه يتوق الى الحرية… وليس مثل الهذيان الوجودي وسيلة للوصول الى هذا الهدف النبيل في زمن التواطيء، في زمن التراخي والكسل ، في زمن المسؤولية المؤجلة، في زمن الهروب من الحرية ذاتها.
عدنان الصائغ كان يهذي… فما طبيعة هذا الهذيان؟
لقد كان الديوان نشيد استغاثة متواصلة، صراخ بحجم المأساة الإنسانية المعذبة في كل مكان وفي كل زمان … الاستغاثة شعور ، والشعور كما يقول أدمون هورسل اتجاه قاصد، اتجاه نحو شيء ما ، فما هو موضوع هذه الاستغاثة؟
كان الشاعر يستغيث من ا لنهايات الموجعة للأشياء!
هذه هي المحنة!
كل شيء ينتهي بوجع… وجع قاتل.
لقد كان السؤال المضمر هو نقطة التأسيس في ديوانه ـ تكوينات ـ، أما نشيد اوروك فهو حصيلة النهاية المأساوية للأشياء، فالوجع كوني ، شمولي، هو الجزء الجوهري من كل شيء في هذا الوجود ، وجع نحن  صنعناه، نحن خلقناه ، نحن المسؤولين عنه، فإن الأصل هو العفوية ، العفوية التي تأتي وتروح بكل براءة وبكل بساطة ، وان من أبشع صور الظلم قتل هذه العفوية الطاهرة.

[ سهوا تجيء الحضارات ، سهوا تجيء الملوك ، وسهوا نجيء ، فمن قسًم الأرض ما بيننا ، فلهم قمحها ولنا قحطها ولنا لغطها ] ص42

النشيد الرائع وجع متدفق من هذا الوجع الطارئ والذي للأسف الشديد استبد بالأشياء الى الأبد.
يقول:

[ هم خذلوك على حبهم للتقاة
ولم يخذلوه على بغضهم للجناة ].

يقول:

[ادخل في دورة للمياه واسحب سيفونها يجرف النص وهو يبق بق بالفن والمستقبلية ، باعوك يا وطني مثل كيس نخالة ] ص47

يقول:

[أيها الجنرال الذي كان يرقب من شاشة قرب مضجعه الراجمات تدك مدائننا وهو يعلك غليونه الأجنبي ، أهذا إذن كل ما ظل من وطني ] ص49

يقول:

[ والعصر، ان الشعراء لفي خسر، إلا النقارين على طبل والهزازين على حبل والماشين مع النهر ، فأحرق أوراقك يا ابن الصابغ لن تجني من هذا العالم غير القهر ].

يقول :

[لماذا تشطرني الحرب الى نصفين ، لماذا يغدوا الليل كجزمه جندي أثقلها الطين تجوس بصدري ] ص59

يقول:

[ أجوب العواصم وحدي طريداً هلوعا
تلوك الكلابُ ثيابي ـ الضلوعا
من بنا ـ أيها الرب ـ أكثر جوعا
وأمضي لأطرق باب الوكالات ، السفارات ، لا من يرد ] ص87

يقول :

[فرقٌ تتفرق من فرق…
والمغول على باب بغداد ]ص111

يقول:

[كان المفوض كل القصيدة
كل البلاد الوسيعة ، كل المضايق، كل الحدائق، كل المخاوف
كل المصارف، كل الخرائط، كل المطابع، كل التواشيح
كل الخواتيم، كل الاقانيم، كل الرطانات،
كل الشروخات، كل الشروحات، كل الحضارات،
كل الشعارات، كل المزادات، كل المرارات،
كل السفارات، كل السفالات،
كل السماوات كل البدايات
كل النهايات
كل الـ…]

وخاتمة الأوجاع هي:

[حتى إذا أورق الفجر
فوق غصون المصاطب
ودعتني
ومضيت وحيداً لمنفاك
تنشد في الريح منكسراً مثل ناي غريب
أمانا بلادي التي لن أرى ] ص189

هذه هي النقطة التي صممت الديوان كله ، النهاية المفجعة لكل شيء في هذا الوجود، الكلمة، الحرية، الخبز، الأرض، الإنسان، الحياة… وآخرها فاجعة الوطن الذي سوف يغيب الى الأبد، ولم يبق غير الجنرال وغليونه الأجنبي، الجنرال في عزلته.
الوجع معلق في أقصى الأشياء، يلوح للصائغ انتصاره المطلق، فكانت كلمته وجعاً مشروعاً على أوتار وجع غير مشروع، فكيف لا يأتي النشيد قطعة من زمن يهذي، بل ضمير يهذي.
                                                  
4

موضوع الاستغاثة هو الوجع الذي انتهت اليه كل الأشياء رغماً عنها، رغماً عن عفويتها، رغماً عن براءتها، ولكن بأي شيء كان الشاعر يستغيث؟
بالوطن؟
ولكن ها هو الوطن محاصر، يلفه الضياع، المستقبل المخيف يجثم على ترابه الغالي ، انه هو أيضاً يستغيث ، فلم يبق إلا الجنرال .
بالكون؟
هو الآخر يستغيث ، تقطعه سكاكين الحقد الأسود، تنخر في أوصاله نفايات الحضارة العدوانية، لقد أصبح رهين إرادة الشر والقمع والعدوان.
بالناس؟
البشرية هذه الأيام ، محكومة بأخلاق عمورة وسدوم ، تتناهب مصيرها قيم السلعة وقوانين العرض والطلب.
بالله عز وجل؟
الله ليس وكيلاً أو بديلاً عن إرادة الإنسان، لقد خلقه حراً، واوكل اليه مهمة الخلاص الى شجاعته وضميره وروحه.
لم يملك إلا الكلمة.
انه يستغيث بالكلمة المجنونة والعاقلة، مساحة هائلة من الكلمات ، تتداخل مع بعضها بأواصر الطهر والعهر، الثورة والاستسلام، الأمل واليأس، الجبن والشجاعة، الإيمان والكفر.
لقد كان النشيد كله فاجعة، بموضوعه، بجوهره، بهوامشه، بنقطته الأولى، ببذرته الحية… ومن ثم كان كلمة، وكانت الكلمة رحلة دائمة،  من الاستقرار الجاثم على أنفاسها الى جحيم الحركة الصاخبة، من اضطهاد المعجم الى فضاء الرؤية الذي انغمست في آهاتها تلك الاستغاثة، حيث قررت تمزيق الصمت الداخلي الرهيب، كانت الكلمة تنمو بموازاة الاستغاثة، وهي تتصعد في أُفق الذات المقموعة، الكون المرعوب، الحياة المسحوقة، تتخلق هذه ا لكلمة من داخل الشاعر، لتستجيب الى هذا السخط المتوتر بعزائمه ، المحترق بناره.
لقد استغاث بالكلمة… فماذا كانت النتيجة؟

[قال المفوض: ماذا جنيت من الشعر ؟ وهو يقيس المسافة ما بين عنقي ومروحة السقف. قال المقاول: كم تدفع الآن؟ قالت فتاة الكوافيرا: لا افهم الشعر. قال المحرر:ـ منكفئاً خلف نظارتيه ـ سأشترى بسعر المقالة كيس بطاطا ].

أذن عليه ان يدفع الضريبة الجديدة، لقد غفل ان الكلمة غريبة ، فقدت حقها من الاستماع، لقد ساد الكون قانون الحقيقة المقلوبة، ارتحل الكون الى الأبد، استوى النسيان على سر الحياة، قُتلت العفوية ، فكيف يستغيث بالكلمة وهي قصد ومسؤولية؟ فيما نحن في زمن مشبع بشهوة الخراب ، مهووس بلذة التدمير والحرق والاستئصال… هذا الزمن لا يتجاهل الكلمة…لا يذبحها… لا يعدمها … انه يشطب عليها… فنحن في زمن المفوض الذي استوعب علم النفس في أقبية مديرية الأمن ، في زمن المقاول الذي أتقن علوم الاستغلال في صفوف الشركات العابرة للقارات، في زمن فتاة الكوافيرا التي تحسن تدوير نهدها المترهل بعصارة الزيت التكنولوجي المستخرج من زنود الفقراء السمر، في زمن المحرر الجاهز عند الطلب من داخله وبدون معاناة.
هؤلاء لا يقتلون الكلمة، انهم يعرفون خطورة الدم، فقد يكون بداية، وقد يكون حافزاً، لا يتجاهلون الشعر، لانه يبقى خزيناً من الجذب الحي، انهم على درجة فائقة من الإدراك في هذا المجال، فيلجئون الى الشطب، فالشطب هو الفن الذي يجسد اللعنة في أقسى صورها القاسية.
ما هي النتيجة إذن؟

[ ليت تلك القصيدة ما طاوعتني وسارت معي على طريق الرمال ] ص 187.

ان الحرف يسرق الاطمئنان المشبع بعرق الأرض المغصوبة وآهات النهد المستباح… لا تقتلوه… لا تتجاهلوه… بل شوهوه بالمقص الحاقد.

5

الشاعر ينتمي الى عالم النص المرهون بسرِّه الأوحد ، ينتمي الى هذا العالم الذي يؤسس كينونة الإنسان ، صحيح انه استجابة الى مثيرٍ ما، ولكن الاستجابة التي تتجاوز المثير بمديات واسعة ، مديات مفتوحة، لتخلق شيئا جديداً بل لتبدع كوناً جديداً، انه دم الشاعر مسكوب على المثير الذي سوف يغيب لارتهانه المطلق إلى الكون القريب ، الكون المباشر.
يقول:

[رأيت دمي في الرقيم الى جنبه كاتم الصوت يلمع مبتسماً ويصافحني بحياء، رأيت جهاز التصنت ملتصقاً بصدر الصبيات يردحن في الحفلات… رأيت الكتاب بتاسواق إسبرطة بُح من يشتريني، رأيت أبي نائماً فيق محراثه ولصوص الحكومة تسرق سنابله والأغاني …رأيت المعري يقدم أشعاره علفاً للجوا ميس …].

أين تكمن شعرية الشعر او النص؟
لا بد من مثير …
هذا المثير ينتمي الى الكون القريب ، قد يكون شيئا عابراً او صورة مؤثرة او خبراً او حدثاً، مثير خارجي او داخلي ، مادي او معنوي، المثير هو البداية الزمنية ،وربما يؤدي دوره في الحال او فيما بعد، والشعر استجابة لغوية في الدرجة الأولى لهذا المثير ، استجابة من نوع خاص، حيث المسافة بين المثير والاستجابة تتمتع بطاقة عالية من التوتر. ان علاقة الشعر بالتجربة ذات طابع تحفيزي أولي, وفي أقصى الأحوال ذات طابع تمويني خام، أما عملية الخلق النهائية فترجع الى ذات الشاعر، الذات التي تمتاز عن غيرها بالانفتاح الشره، الانفتاح اللانهائي على العالم والحياة والتاريخ، فتهضم هذه الذات التجربة البسيطة ، لتصنع منها كوناً آخر ، هو الكون الشعري، بل وجود آخر هو الوجود الشعري، والاّ لماذا تحافظ التجربة على صرامتها القاسية في عقل العالم الطبيعي والانسان العادي الى حد كبير؟ بل لماذا تتماهى التجربة مع نفسها في ذهن الشاعر نفسه في حالاته الاعتيادية ولزمن ربما يطول لسنين ؟ فيما تتخذ أبعاداً انقلابية هائلة في حالة تفجره الوجداني ، سواء كان في كهف او غابة او سجن او مسجد او بار او شارع… لا أنفي أهمية التجربة وغناها وسعتها على الشاعر والقصيدة وشعرية النص بالذات ، ولكن اعتقد ان ذات ا لشاعر هي الأساس.
ان جوهر الخلق يرجع الى الذات التي يتميز بها الصائغ وغيره من المبدعين من الشعراء  الموهوبين، ذات خلاقة ، ينبوع من  الحيوية الفطرية التي من مهماتها وسجيتها إحداث انقلاب جوهري في المثير، تجاوزه، تخطيه، ومن ثم تأسيس عالم الشعر والشعرية.
أعود وأقول أن النص الشعري ينتمي الى ذات الشاعر، والشاعر ينتمي الى مجتمعه، ولكن من هو المسؤول عن توتير العلاقة بين المثير الذي قد يكون بسيطاً وبين الاستجابة المفتوحة، ومن ثم إبداع النص بعلاقاته المتوترة الساخنة، وبالتالي تشييد الوجود الشعري؟
ان المعاني تتدفق، والصور تتوالى من لحظة الاصطدام بين وعي الشاعر ومفردة قد تكون عابرة، وهو بلا شك قد يستلهم خزين تجاربه السابقة ، ولكن هذا الاستلهام يفيد في تفعيل التجاوز وليس في خلقه، وهذا التجاوز ليس مسافات تقاس بالأرقام، وانما عوالم جديدة مبتكرة، يبتدعها ويخلقها.
الشاعر المبدع هو هذه القدرة الذاتية الفذة على تجاوز المثير الأول ، ان داخله الساخن يتلقى الإشارة في لحظة استثنائية ، ليؤسس من  ومضتها البسيطة عالماً جديداً.

6

يقول:

[ وتذكر ـ بعد سنين ـ بان الطبيب الذي جسً شريانه كان يسمع في دمه دفق الحشد يهتف: عاش … تصعَده الطلقات البعيدة ، لكنها انتبهت ـ في مساء حزين ـ لصوت أنين يدحرج فوق الوسادة أنفاسه ثم يسقط … تهمس هل قلت: يسقط؟
ينهض مرتعباً يتعوذ مما يُدس بأحلامه ثم يلبس أثوابه عجلاً ليُسلم رأسه، سيدي كان هذا يُغافلني في الليالي ويشتمكم ] ص56

النص يجسد بوضوح ظاهرة الالتحام المصيري بين عناصر الحدث الشعري من مفردات وأصوات وصور ومعاني وجمل، وكل عنصر يحيل على صاحبه، يستمد منه مشروعية المكان والحركة والدلالة، فالحقيقة من الخيال والخيال من الحقيقة، الكلمة تهيئ شروط الفعل والفعل يسوغ صلاحية الكلمة، اليقظة تزيح موقعها للحلم والحلم يرفد اليقظة بحيوية الحضور الصارخ، البعد يدرك القرب والقرب يلوح للبعد بأواصر التواصل المنتعش بروح الألفة الكونية… وهذه هي هوية الحدث الشعري، كيان جديد ، يتوسط المسافة بين الفيزيقا والميتافيزيقيا ، وما نقل عن الشعر انَّ أعذبه أكذبه نظرية مخلة بالتبسيط، ان مبتكر هذه النظرية اتخذ من الواقع الخارجي نقطة انطلاق وانتهاء في حكمه على الشعر، لقد نسي ان الشعر عالم قائم بذاته.
لنقرأ هذا النص:

[… رأيتك تضطجعين على الرمل فتنكسر الشمس وقلبي فوق مرايا ظهرك يلحس ن سكر عُريك هذا الزبد الطافي فوق دمي… ].

ان اضطجاعها فوق الرمل يخلق جسداً جديداً، جسداً يحلم بهزة المجد التي تخلد أسرارها على الرمل ذاته، والشمس تتكسر بالفعل، فهي تختلط بتلك الأسرار، فتخرج من دائرة انتمائها الفلكي المألوف، وعريها الحلو المنساب بين نسمات الهواء المشبع بشبقها المقدس… هذا العري يسكر بعرقه المستمد من شهقته الدسمة، وهل يخلو دمه المتسائل من زبد، تستجمعه آهاته المحترقة بلهيب الكون الجديد؟
ان الشعرية تتحقق على مقاس المسافة بين المثير والاستجابة ، وكلما تكون المسافة أكثر انفتاحاً وأقدر على الامتداد والانتشار، تكون الشعرية اقرب الى ماهيتها الحقيقية ، وفي الوقع : ان الاستجابة تبدأ بالاستقلال من لحظتها البكر ، حيث تنصرف بجدية الى تأسيس ذاتها ، وذلك بتفعيل عالمها الداخلي ، انها تتأسس من الداخل في الدرجة الأُولى، ومراجعة سريعة للنص السابق تكشف لنا بوضوح عن حركة النص اتجاه نفسه، انه يتكون بالتناسل الذاتي. لا توجد فجوة فاصلة، سواء بين اللفظ والمعنى، أو بين الصورة والإطار، هناك تلاحم متداخل، وجود حي واثق من وحدته ، واثق من اشتغاله بغايته. ولكن إضافة الى هذه الصور المحكومة بهذا التوحد الصوفي، والانسجام الرائع ، هناك صور مشتعلة بالمفارقات والتناقضات مما يوفر إمكانية جديدة لتوتير الجسد الشعري.
يقول:

    [… ومن شرفة الجنرال الوضيئة
     مرّت غيوم الخطابة.
    مرّ النشيد المجلجل.
    مرّ الصباح المكبًل.
    مرّ المصفَق، مرً المهرَج.
    مرّ المزمٍر، مرً المطبل.
    مرّوا ولا زيت ـ في البيت ـ أو بصل ].

7

عدنان الصائغ شاعر هائم في خلق الصور التي تجبرك على التشظّي، على تشقيق شفتيك بآهات جهنمية ، كي تذرف كل دموعك التي كتبها القدر عليك.

[هل ان يعود أبي من حقول المحاجير أكثر فقراً من الأرض كي أفهم الأرض؟ هل ينبغي ان أُثرثر
عن زهرة عانس لم تلامس فماً لتقول لرجال حضائر شهواتنا ، عن هواء اُصففه في رئات البقول ليلحسني ويغلفني بالنهارات قبل انتهاء المحقق من أخذ بصمات قلبي على بابها ، هل أجر ذيول الحياة ، وأنسى باني أجر ورائي أفعى ، وأحلم أني أعيد كتابة ما شطب الحاكمون ].

ويبدو ان الأب عاد كما يتمنى الزمن الغادر، والثرثرة استقرت على لسانه كما تريد الأمنية المعكوسة ، واستوفت سياط الجلادين حظها من شهوة البصمات ، فلا محيص من النهار الذي يخون رسالته الكونية .ان هذا الكون المجروح قلب وظيفة الاستعارة كما نتعلمها في البلاغة التقليدية ، فلم تعد استعمالاً في غير ما وضع له، لشبه او مناسبة او أي سبب آخر تشعبت المدارس البلاغية في تعددها وتصنيفها، بل أمضاها الشاعر حقيقة تعتز بمعناها الأول، وان من مهمات الشاعر، بل ومن خصائص الشعرية تحرير الاستعارة من وظيفتها المسلكية المعروفة، لتكون بحد ذاتها حقيقة مباشرة ، ترتعش بروحها القريبة ، تلتهب بمعناها الأصيل، فإنها، وبهذه المحاولة البارعة، تنسجم مع كون الشعر عالماً جديداً. لا يوجد مجاز في الشعر ، ولا استعارة ،ان الشعر كيان حي، كيان يباشر حضوره الطبيعي، الشعر يحيل على ذاته ، فيما الاستعارة بالاستعمال البلاغي المألوف تتضمن احالة خارجية، تستبطن الافتقار، الشعر وجود نرجسي حسًاس ، يعشق ذاته، ويذوب في ذاته ، تتلاقح أسراره من الداخل، لينتج عالمه واستحقاقاته وتداعياته.
ان الاستعارة بمعناها البلاغي المعروف مجبورة على الاستمداد من الخارج، من غريب، فيما الشعر منفتح على ذاته ، على تكونه ، يتغذى وجوده الحي من نبعه الخاص… ومن هنا نصل الى اكتشاف مهم ، ان الشعر بهذا المنظور يخلق حاسًة جديدة تُضاف الى أوليات الكائن البشري ،تنيط به مهمة الوعي الشعري، او الإحساس بالشعر، هذه الحاسة في الحقيقة هي جماع الحواس الخمس ، عصارة هذه الحواس، وهي على اتصال فاعل ومسؤول بكل الكيان الإنساني. ان وعي الشعر يتطلب فيما يتطلب هذا التوحد بين حواس الإنسان، ولكن هذا بدوره يستدعي الكائن الذي ينطوي على استعداد عال لمثل هذه الإضافة ، فهي إضافة جادة تجترح المألوف، وتخترق صلادة الروتين، إنها تبدع أنساناً جديداً ، تتسع دائرة انفعاله وتتموج مديات شعوره وتتواصل رؤيته للحياة عبر الحدث الشعري ، ليتحول هو الآخر الى قصيدة.
يقولون: ان الحدث الشعري يولد عندما تكتمل شروطه! وهذا الإمضاء متأثر بالقواعد الفلسفية التقليدية، وصاحبه يتعامل مع الحدث الشعري كمفردة من مفردات الوجود العيني، فيما ان هذا الحدث له ماهيته الخاصة به، وفي الحقيقة ان اكتمال الشروط يؤدي الى موت الحدث الذي نحن في صدده، ان الصورة الشعرية متجددة ، وشروطها تسير نحو سماء مفتوحة ، نحو المتعالي، نحو الأفق، والإنجاز الشعري يسير بموازاة هذه المسيرة، أو هذا العروج، ليس هناك نهاية ، ان كلمة [ تمت] ليست من لواحق العمل الفني بكل أشكاله وألوانه.
ان أي بداية في عالم الوجود تاريخ دائم ، متطلع ، منفتح ، فكيف إذا كانت البداية منبثقة من وجدان شاعر؟
يتحدث القران الكريم عن الإنسان [ يا أيها الإنسان انك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه ] والشعر كدح مستمر، فليست هناك شروط كاملة، بل هناك شروط سائرة.

8

الشاعر المبدع يحدث خللاً في الصمت الهادئ ، المطمئن الى العلاقة الراكدة بين الظاهر والحس، العلاقة التي تحولت الى أُلفة ، لانه يخلق عالماً جديداً، هو القصيدة او الصورة الشعرية، ان الشعر ليس جمعاً بين حقائق مبعثرة ، بل هو إبداع تماماً ، او على تماس مع مفهوم الحقيقة في فكر هنري برجسون، انه حدث آتٍ، رغم ما يسوده من ظلال الماضي والحاضر ، والقارئ / المستمع الذي ينشدً الى الماضي او الحاضر على نحو الحصر النهائي ، لم يتفاعل مع الشعر جيداً، انه لا يملك عصارة حواسه، انه غير مهيأ لذلك ، فللشعر انسانه المبدع والمتلقي والمستمع او المتفاعل بعبارة أدق
ان الماضي والحاضر في خدمة الخلق الجديد ، يستدرجهما هذا الخلق المبتدَع بهدوء ، بفنٍ مراوغ ذكي متطلع، يستل جوهرهما ليدمجهما معاً ، فتشرق صورة أُخرى ، تلمع بروح الشاعر، وهي تحترق أزلاً وأبداً .
الشعر غائية الباطن، غائية السر الذي لا يبارح حضوره الخاص ، ولكن هذه الغائية الصرف ليست غريبة تماماً عن الواقع الخارجي، إنها تمت الى التجربة على نحو ما، كما انها تشكل كوناً موازيا للكون المنظور، الأمر الذي يعطيه دوراً اجتراحيا، دوراً فاضحاً ، وهو ككون جديد قد يظهر سافراً ، ينطق بحيويته مباشرة ، يطرح ذمته على مسؤولية الإدراك، وقد يكون غائباً في فرحة الماضي وهو يطل مرة أُخرى، او غائصاً في نشوة الحاضر وهو يفتخر بتدشين بداهة الوجود، ولكن في الأعماق البعيدة، يرقد كون متحفز، يموج بأنفاسه الغاضبة، ومهمة الناقد او القارئ او المستمع ان يتعامل مع هذا المخفي.

[ اصرخ
يا أيها الواقفون على الحد في حرب صفين …هذه الخواتم مغشوشة والحكومات مغشوشة …فانزلوا عن مطايا العناد وسيروا حفاة بهذي الوهاد لصوت الجهاد ، فقد نهبتنا خيول الغزاة ، وانتم تفلون هذي المصاحف عن آية لعلي وأخرى لعثمان …
ويقولون شورى…
فافتح سحاب بنطالي الرث
                     ثم أبول على نصف تأريخنا
أي شورى
وتحت السقيفة تلمع سيوفهم حول أعناقنا ]

لو كانت الصورة الشعرية مجرد ماضي لما ارتبك الماضي ، فالشورى سابقة على صفين، ولو كانت حاضراً صرف لما كان أي مبرر لهذا المثير الذي ينتمي الى التاريخ ، انها بكل صراحة كون جديد، يربض في أحشاء هذه المسميات، انه هناك ، ينتظر الفارس… المقتحم… العارف بأسرار الشعر… وهو كون جارح ، محرك ، يهز العارف من أعمق الأعماق.
ان الكون المستتر في الصورة الشعرية يحتاج الى ذائقة روحية راقية.

9

في نشيد اوروك تتحول الحياة من بديهية معطاة الى قضية مرصودة بحذر وخوف، يتنافس على رصدها ممكنان ، أحدهما يريد للحياة ان تستعيد بداهتها ، و الآخر يريد لها ان تبقى في قبضة الرقابة، وهي تختصر كل هذا الوجود بالحبر السري، ذلك هو الشاعر، وهذا هو المفوض، وبين الكلمة والسوط مسافة تشتعل بالمتناقضات والمفارقات، والتاريخ ينفرز من بين ثنايا هذه المعركة القاسية.
المفوض، هذا الشبح الجاثم على قلب الحياة ، يكره القصيدة ، يجد فيها نفياً موضوعياً لسوطه الذي نُسج بالأساس من أنفاس الكلمة وهي تئن من ثقل جزماته الحاقدة ، والقصيدة تدافع عن ذاتها المشروعة بفعل أصالة الحياة، تدافع ليس من أجل البقاء ، بل ما أجل الحياة كقيمة تحمل مبرراتها من غير سبب خارج عن ماهيتها الرائعة ، وبذلك يسهل على الناقد ان يكتشف بأن المفوض تعبير عن قوى الشر والظلام والقسوة ، والقصيدة اختصار أمين لقوى الخير والنور والرحمة ، وهذا من أسباب هذا الحشد الكبير من الأسماء والعناوين والحوادث والرموز والقصص والألغاز التي اشتعلت بلهيبها أصابع الشاعر ، ان قراءة النشيد لا تفيد متعة بقدر ما تصنع معادلة ينتظر الإنسان نتائجها بلهفة وشوق وألم.
كيف يصور الشاعر المسافة بين السوط والكلمة؟

[كان بيني وبين المفوض
           طاولة للحوار العقيم
وزر…
ومن خلف نافذة مسدلة
كنت أسمع ليل المدينة يعوي ، كذئب جريح
يمرغه الجوع في قفص
والشوارع منسية بين أدراجه ].

هذه الطاولة تجسد بكل حيوية الصراع الخالد بي السوط والكلمة ، بين المفوض و القصيدة ، بين الحياة المختومة باسم مستعار ، والحياة التي تهب الأسماء .
القوة الغاشمة تصنع لنفسها علاقات نافية بالأشياء الجميلة ، تصمم مشروعها من ملاحقة هذه الأشياء الجميلة ، ومن تقطيع أوصالها برعب المراقبة الدائمة، هذه القوة لا تهدأ أبداً إلا بتشويه الألوان والطعوم والروائح حتى تعدم المعرفة.

يقول الصائغ في نشيده:

[…
آه ما يفعل الوطن المر بالشعراء …
تلفتُ كان المفوض يتبعني…
كان يتبعني…
كان يتبعن…
كان يتبع…
كان يتب…
كان يت…
كان ي…
كان…
كا…
ك…].

هذا المقطع يصور بدقة العلاقة بين المفوض الشر وبين الخير ، إنها علاقة قائمة على النفي الأبدي، ان المتابعة في هذا الحدث الشعري تتجاوز مديات الرصد العادي، يتحدث الشاعر هنا عن رغبة القوة الغاشمة في القضاء الحاسم والنهائي على الخير ، نفي تماما . الكلمة المعبرة تفقد زمنها بتساقط حروفها ، حرفاً بعد حرف ، هناك جزر فني ، عملية بتر مقننة، اعتصار قاس لهوية الكلمة كي تبقى في النهاية حرفاً واحداً ، حرف غير قادر على الاتصال بغيره من الحروف ، ان روح الشاعر كانت تتكسر، على وقع الأوجاع التي كانت تخترق جسد الكلمة ، وهي تنسحق تحت جزمات المفوض . نحن بين يدي صورة شعرية تجمع بين عمق الفكرة وقوة الخيال وجمال الصوت ومتانة العلاقة في التركيب اللغوي.
اللغة في هذا المشهد لا تنقل لنا ا لمعنى، لا تجسد المعنى، بل هي المعنى بحد ذاته، هي ضمير الشاعر على طاولة الإجهاض القسري، علاقة اللغة بضمير الشاعر تتخذ صيغة الموازاة، هناك وفاء متبادل، كلاهما يتبادلان المحنة، محنة الموت المفروض. فلا غرابة ان يودعا معاً حق الوجود أنّة بعد أنّة ، وجعاً بعد وجع ، الحدث الشعري ليس لغة فحسب، بل صوت أيضاً.
نقرأ في النشيد:

ـ البلاد بخير      
ـ وعبود
ـ في باحة السجن يرفل بالقمل والركل
ـ ينزف من طلقة أخطأت رأسه ـ صدفة ـ
ـ فانحنى ريثما تعبر الروح
أو …ريثما يستريح الرماة
سيطن الذباب على جرحه
ويطير
        يطير  
             ليلعق ما ظل في وجهنا من بصاق الغزاة
آه..
ع ..ب..و..د..د د د د د د د د
سألت الشوارع عنك
                  البنايات والشجر المستريح
فاوقفني الحرس الوطني …] ص156

أتساءل عن سر هذا التقطع المتدرج في كلمة عبود ، ما هو السر الذي يكمن وراء هذا التشظي المتوالي، في هذا التداعي المتلاحق في جسد الكلمة، ربما يتبادر الى الذهن ما يعرف بقوانين الشعر، وذلك من وزن وقافية وموسيقى، وما الى غيرها من مقتربات وآليات، تختص بالشعر، وهذا التعليل يغيّب َ أعظم حقيقة شعرية، لان الشعر كون قائم بذاته، وهذا التقطع هو ذات تتقطع ، تتشظى ، تتجزأ انها ذات عبود ، وذات الشاعر، وذات اللغة، في توازٍ مشبع بحقيقة الوقوع.
من العسير جداً أن تعبر بالكلمة التامة عن حقيقة بدأت تحتضر شيئاً فشيئاً. فالكلمة التامة، وبفعل اتصالات حروفها تنتج زمناً فيما الحقيقة وهي تتمزق تفقد الزمن بل تقتل الزمن، عبود يتلاشى بوتيرة متسارعة نحو الموت، فالكلمة هي الأخرى ينبغي أن تتلاحق انهياراتها وبهذا تتماهى اللغة مع الواقع من خلال زمن تتعاهد لحظاته بضرورة الموت، والشاعر يشارك القدرين بنصيب الزمن المعدوم.
مرّة أخرى أقول: إن الشعر لا يتوقف على ذاته فحسب في انجاز شعريته، بل على الآخر أيضاً. أجل، الشعر نهدٌ أسيوي في لحظات تبلوره، في لحظات نضجه العارم، يترهل ويكسل إذا باشرته أنامل لا تعرف معنى الحب، فيما هو يرهق وينضج بدسم الشهوة المقدس اذا باشرته نظرة خبرت سرَّ العشق، ولو على بعد مسافات تفصلُ بين النجوم والكواكب، فلا تقترب من نشيد أوروك، إذا لم تفقه سرَّ هذا النهد!!
 
البحث Google Custom Search