أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
شعر يسترجع الماضي ليؤرخ للطغيان... وللمقاومة أيضاً

الكتاب: نشيد أوروك
المؤلف: عدنان الصائغ
الناشر: أمواج – بيروت 1996

عمر شبانه
- بيروت -

التداخل بين الأنواع الأدبية وصل حدوداً تسمح بقدر من توسيع المفهوم واشتباك العناصر التكوينية، فيغدو "النص المفتوح" هو نص النصوص، بل حديقة النصوص بكل ما تحمله مفردة حديقة من حيوات (حيوانية ونباتية), أي بكل ما يمكن أن ينطوي عليه النص المفتوح من عناصر تنتمي إلى فنون عدة. فحين تجتمع في نص واحد، طويل، إمكانات الشعر وطاقة السرد، وزاوية التصوير، ومساحات اللون، وحواريات المسرح (دراميته)، وسوى ذلك من الفنون، لترسم مشهد الحاضر من عناصر الواقع ومن عناصر التاريخ والأساطير والبطولات والهزائم و... الخ، يغدو هذا النص على درجة من التركيب والتعقيد. تجعله صعب القراءة. وباتت النصوص الحديثة، في سعيها إلى الابتكار  والتمايز، تميل إلى ذلك التركيب، فصرنا نتابع تجارب كتاب يشتغلون على نصوصهم بكد وانهماك ما يجعل من هذه النصوص عالماً شديد الثراء من جهة، ويجعل من قراءتها أمراً بعيداً عن المتعة والتسلية من جهة ثانية.
أن قراءة "نشيد أوروك" لعدنان الصائغ لهي على درجة من الصعوبة لا تتفق مع روح القارئ الحديث، في العصر الراهن، القارئ الملول الذي يفضل نصوصاً شديدة السهولة للهضم. ففي الديوان البالغ مئتي صفحة، نقف على عملية تاريخ شعري للوقائع التي يشهدها العراق منذ فجر التاريخ بعامة، وفي حقبته الحديثة بوجه خاص. وتستند عملية التاريخ هذه إلى مرجعيات تجري إضاءتها بالهوامش التي تنوف عن الخمسمئة المثبتة بعد النص. ولعل قراءة "الإضاءات" تضيء ما تنطوي عليه القصيدة من تداخل الأزمنة والأماكن والأشخاص والأساطير والذكريات والخرافات والتراث العالمي المكتظ بالموت في صوره الكثيرة وبالحياة في أشكالها المتعددة. لكن الذي تصعب إضاءته هو التساؤل عن الكيفية التي جرى بها توظيف هذا التراث الإنساني كله في هذا النص؟ كيف استطاع الشعر أن يجمع هذه العوالم، هذه الحكايات، هذه المقتطفات، هذه الـ... إضاءات؟ وما الذي أراد قوله، ما الخطاب المركزي الذي جاء هذه النص من اجل إبلاغه إلينا، وما هي الخطوط الأساسية التي ترسم وجه الخطاب وملامحه وتعبر عن روحه؟
نستطيع أمام نص له هذا الاتساع أن نبدأ من نقاط بدء كثيرة. فما من محور واحد للنص، بل محاور عدة، الأمر الذي يجعل من قراءة خطابه أشد تعقيداً، ولكن لا بد من نقطة بدء. واخترت أن ابدأ من صورة ترى "الصوت شبه زلاجة وثلوج ليليث تزحلق ذاكرة رثة غسلتها مياه الليثيه". وفي الإضاءات اقرأ أن "ليليث إلهة الأرض العذراء المقفرة ترمز إلى البغي التي تغوي الإنسان وهي حواء الباطنية". وان "الليثيه نهر النسيان وفيها إشارة إلى قول باختين: "ان كل ما يدخل في العمل الشعري عليه أن يغرق في مياه الليثيه، وان ينسى حياته السابقة داخل سياقات الآخرين. يجب على اللغة أن تتذكر فقط حياتها ضمن السياقات الشعرية".
تشكل هذه الإضاءة مدخلاً أساسياً إلى عالم "نشيد أوروك" لأنها تكشف عن آلية من آليات العمل الشعري يستعيرها الصائغ من باختين، ليس في هذه الصورة من صور عمل الذاكرة فحسب، بل في صوغ ذاكرة انتقائية تبدو محتشدة بالسياقات الأخرى، وقادرة على الانتظام في سياقها الخاص. وفي ما يخص النسيان، فان ما ينساه الشاعر من حياته لا يذهب إلى النسيان، بل يندغم في حيوات تنتمي إلى سياقات أخرى في التاريخ البشري الذي تلتقي فيه الرموز والعلامات المميزة، ويلتقي فيه الملوك مع الثوار والصعاليك والشهداء... لكي يصنعوا وقائع التاريخ التي ستغدو، بين أيدي الشاعر، مادة أساسية للشعر. ولا أرى إن ميزة هذا النص انه "أطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي على الإطلاق". بل ربما لا يكون الطول امتيازاً، إنما ميزة هذا النشيد في احتوائه على هذا العدد الهائل من المرجعيات، وبهذا يكون – ربما – أول نص عربي يحيل إلى ذاكرة متعددة المصادر المختلفة زمنياً ومكانياً، والتي تجمع المتضادات، وتلتقط اليومي والجوهري في صياغة لها رائحة التاريخ ونكهة الحاضر وحلم المستقبل.
وفي متن النص, إشارات إلى ما يريده الشاعر "أريد خريفاً لأنضح هذا النشيج نشيداً لأوروك يختصر الأرض".
وفي النص ثمة متسع لمسيرة حياة هذا النص واصطدامه بالرقيب, بل أن الشاعر نفسه, صاحب النص, لا يتورع عن أن يكون أحد أبطال النص "لماذا يا ابن الصائغ تكتب أشعاراٌ واضحة يفهمها عمال الطابوق البسطاء, القرويات, لماذا أنزلت الشعر من الأبراج العاجية نحو الحارات الشعبية" ليقول لنا أن "الشعر خلاصة تاريخ الإنسان", حتى لو جاءت هذه الخلاصة في صورة هذيانات محمومة خارجة من إسطبل الخيول الذي "عاش" فيه الشاعر فترة زمنية كافية لتجعله ينظر إلى هذا المكان بمثابته مكاناً قابلاً لأن ترتفع فيه رفوف الكتب, وربما يكون أقل قسوة من أماكن كثيرة.
وإذا كان عدنان الصائغ نجح في اختصار تاريخ القهر والموت والخراب كمحور أساسي في النص يتبدى في سرد أبرز حكايات هذا التاريخ, منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه, فأنه نجح - في المقابل – في رسم خطوط المحور الأساسي الآخر الذي يمثل عناصر الخير والحب والجمال على مر التاريخ أيضاً. وفي هذه المقابلة/ المواجهة ما فيها من حلم شاعري يتجسد في الرغبة القوية لخلق حال من التوازن, من دونها لا يمكن أن تكون الحياة مهيأة وتستحق أن نعيشها, فكأنما نحن أيام ذلك الشاعر وحكمته "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل", وهو ينجح أيضاً في استدعاء عناصر المواجهة حين يشير إلى مرور "أوركاجينا" الملك الذي أنشأ, على أرض الرافدين حوالي العام (2450 ق. م), أول نظام ديموقراطي في العالم.. وذلك في مواجهة أعتى الدكتاتوريات وأشد الحكام طغياناً حيث الجنرال ينظف أضراسه "من بقايا لحوم الرعية".
أن البنية المفتوحة الأشكال من الصياغات الشعرية والتداعيات النثرية التي ينفتح لها النص – القصيدة – تضعنا أمام محاولة خطرة لا تخلو من مخاطر الانزلاق إلى تخوم اختلاط العناصر في نص غير محبوك, درامياً, بطريقة واضحة, ولكن هذه البنية المفتوحة, إذا ما جرى التعامل معها بوعي فني يدرك إمكاناتها, تكون قادرة على توجيه النص ضمن خطوط ممسوكة, أو ضمن دوائر متحكم بها.
ولعل تجربة عدنان الصائغ في "نشيد أوروك" تنطوي على قدر كبير من المغامرة في تشكيل عناصرها وصياغة سياقها, حيث يمكن الإمساك بعدد من الخطوط والدوائر الأساسية التي ينبني منها النص, بدءاً من الخط الذي يمثله الشاعر بوصفه أحد "أبطال" قصيدته, ثم صورة "عبود" بملامحه الغارقة في القهر, وامتداداً إلى صور كثيرة من حياة الرعب التي يغرفها الديكتاتور وحاشيته, وصولاً إلى المشهد العام الذي يرسمه الشاعر من التفاصيل الصغيرة. وفي الإطار الآخر للنص, تأتي دوائر التاريخ البعيد التي يتداخل فيها القمع والحروب, ويظهر فيها "أوفيد" بمثابته أول كاتب/ شاعر يجبر على العيش في المنفى على يد الامبراطور اوغسطس, ويحضر كاليغولا الطاغية الروماني الذي كان يتمنى "لو أن الشعب الروماني برأس واحدة, لأقطعها بضربة سيف واحدة". وتتقاطع مع هذه الدوائر صور العشق والخيانة, وتتداعى إلى النص نصوص وحلقات من التاريخ يتداخل فيها الدم بالرؤى الشفافة, وتتراكم الكوارث حتى يغدو المنفى هو "الحل" الذي لا حل سواه. ولكن المنفى يحضر في صورة مكثفة من صور الاغتراب, حيث يمضي الشاعر يطرق "باب الوكالات, السفارات, لا من يرد.." فيستعيد صورة الوطن الذي "نبذته المنافي/ العواصم" ويصرخ "أعينوا الغريب", وفوق هموم المنافي, ثمة "حنين بوسع البلاد" يبدو أن لا طاقة على حمله, فهو – في نهاية المطاف – حنين إلى "بلادي التي لن أرى", أي إلى ما هو ميئوس منه, أي إلى الهباء!
وعلى رغم السواد المهيمن على مساحة واسعة من صور النص وأشيائه الحميمة, فأن للتاريخ ثوراته, وللثورات تاريخاً محتشداً بالهزائم الكبرى كما بالانتصارات الصغيرة التي تبقي باب الأمل مفتوحاً على رموز الحياة والانبعاث.
قد يكون من الضروري, أخيراً, لفت الانتباه إلى أن التزام النص بالعروض الخليلي لم يحل كثيراً دون انسيابية لغته وتعدد مستوياته, وأن كان هذا الالتزام بالعروض بدا, في مقاطع قليلة, محدداً لحرية انطلاق الخيال وجموحه حيناً, وبدا في مقاطع أخرى أقل قدرة على صياغة الوقائع. وهذه ملاحظة تأتي لتؤكد - لا لتنفي – القاعدة المتمثلة في قدرة الشاعر على تطويع الأوزان وتوظيفها لإثراء الإيقاع الخارجي للنص بما يوازي اتساع عوالمه وتعددها.


(*) صحيفة "الحياة" 4 تشرين الثاني 1996
 
البحث Google Custom Search