عدنان الصائغ يسبح وينشد وهو على مركب اللغة والبحر
صباح الخراط زوين - بيروت -
"النتاج الذي كان كلمة الآلهة، كلمة غياب الآلهة، الذي كان الكلمة الصحيحة، المتزنة، كلمة الإنسان، ثم كلمة الإنسان في تنوعه واختلافه، ثم كلمة الإنسان المغضوب عليه، الإنسان الذي فقد الكلمة، ثم كلمة ما لا يتكلم في الإنسان، كلمة السر، اليأس أو النشوة، ما الذي يبقى له أن يقول، ما الذي توارى دائماً عن لغته (لغة النتاج)؟ هو ذاته (النتاج)".
موريس بلانشو
في "نشيد أوروك"، وهو كما يشير الناشر، "أطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي على الإطلاق"، يجعل الشاعر من الكتابة مشقة لا مفر منها، وكأنها حتمية "إلهية" لا يستطيع الخلاص منها لا من خارجها ولا من داخلها. ما أن يفتح القاريء كتاب عدنان الصائغ حتى يصاب باللغة وبهذيانها أيضاً. إنه (الشاعر) كالتائه طوعاً في متاهة مجموعته، وهي ملحمة شبه لانهائية، أنه كالهائم بين الأحرف والأسطر المكدسة والمتلاصقة، المتفاقمة والفياضة، ملحمة حيث تزاوجت الأساطير الاغريقية بتلك البابلية وحيث اختلطت الأحداث بالايروسية، وبهذا شكل الصائغ قصيدة فريدة في جمعها المواد المختلفة وانصياعها للوتيرة الواحدة، القاتلة، الخانقة، وتيرة الكتابة التي تبناها الشاعر بجرأة أو بخوف. أقول "بجرأة" إذ على الشاعر الذي يخوض مشروعاً كهذا أن يتحصن بلوازم العمل وما لوازمه أولاً وآخراً سوى اللغة، تلك الأداة الطيعة والمتمردة في آن واحد. إذن على الشاعر في جرأته أن يكون محوطاً "بكلية" اللغة، وأريد بكلية كل أبواب اللغة ونوافذها وسراديبها ودهاليزها وأسرارها (بكثير من الريبة) وعتمتها وضوئها. وأقول "بخوف" لأن اللغة لا تستطيع إلا أن تكون متناقضة، أنها الاختلاف والائتلاف معاً (مع الشاعر ومع ذاتها) أنها اليأس والنشوة (بلانشو) أنها الغائبة والحاضرة أنها الحائط المنيع و"رغام الهوام" (عدنان الصائغ)، أنها المتراكمة وأنها المتلاشية، أنها أداة الشاعر مرة وهو أداتها مرة أخرى، أنها المعنى والعدم، هي صنعة الشاعر وهي قاتلته في آن واحد. إن النشيد الذي قام ببنائه الصائغ بمثابة هذه المجازفة، هذا الانتحار، حيث فعل الموت وفعل الحياة، حيث لا بدء ولا نهاية. كان على الشاعر في هذا النتاج أن يواجه حياته وموته، كان عليه أن يلاشي اللغة وأن يحييها بكل فروقها. وهذه الازدواجية المتناقضة جعلت الشاعر يدور حول محور الكتابة، محورها فقط ولو بدا لوهلة ومن خلال الصفحات الطويلة والكثيرة أنه توزع عبر الموضوعات. بل الموضوعات التي امتزجت كانت تدور حول قطب واحد، وهو السؤال حول اللغة وكأن الموت والحب هما الوجه للفعل الكتابي. لم يتشعب عدنان الصائغ مطلقاً رغم مظهر التشعب الذي اتخذته ملحمته بل مشروعه يصب في اهتمام واحد: الكيف واللماذا في الكتابة. أو لنقل كيف القبض على اللغة. أليس نشيد الصائغ بذاته تعبيراً كاملاً عن النزاع القائم بين الشاعر وقصيدته؟ لم يكن "عبود" ومصيره، لم تكن الأحداث والسلطات وسياساتها، كذلك الايروسيات والأساطير والتاريخ واليوميات وكل هذا الجنون الكتابي إلا وجه القصيدة في توحدها وفي مراياها. إذ حين يبدأ مشروع الكتابة تستحيل كل العناصر أدوات صالحة بين يدي الشاعر. عدنان الصائغ وصف أكثر من مأساة شعب وذهب إلى ابعد من الايديولوجيا ونقب أعمق في التراكيب اللغوية التي يجب أن يحدثها كل شاعر حقيقي. عدنان الصائغ أراد أن يكمش اللغة المتوارية أبداً، الهاوية منه دائماً، هذه اللغة التي تحولت من نسيج طويل إلى شباك أوقعت فيها الشاعر الذي أكثر من الكلام بين القوسين كما لم يترك بين الكلام والآخر فسحة استراحة أو استعادة الأنفاس. كأنه الهاذي الذي لا خلاص له، واللاهث بدون رحمة وراء كلمة النهاية والنهاية لا تلوح: "أكنس باحة بيتي من الحرب والفضلات، أقول انتظرتك حتى تبرعم في فرجة الباب غصن التلهف وامتد بين عيوني وبين غيابك غاباً كثيفاً، لماذا أضعتك سيدتي في زحام القصيدة". بل الشاعر أضاف "الكلمة" الأخيرة، تلك التي يبحث عنها وصار في بحثه يبتعد عن الأول وعن الأخير في الوقت ذاته، وها هو يغرق في "الغاب الكثيف" الذي يصنعه لنفسه، الذي أقامه بينه وبينها (فالرمز هنا جائز وغير دقيق إذ المقصود هنا هو القصيدة) إلا أن اللغة تكثفت وتشعبت حتى ضاع فيها ورآها كالغاب، وبعيداً عن الصدفة تماماً كان للشاعر أن يتفوه بهذا الكلام عند نهاية الكتاب، وليس في محطة أخرى، وذلك لأنه عند هذه النهاية فقط، وكان عليه أن يحسمها، تطلع إلى الوراء، إلى كل الركام الذي خلفه خلال جنونه وفيضه، وكان له أن يتأمل بأسف وبحزن البناء الهائل فيدرك أن اللغة لعنه ولذة, اللذة في الحفر فيها إلى ما لا نهاية واللعنة هي الوقوع في متاهاتها. هذا ما أدركه في تجربته عدنان الصائغ. ويعلم أخيراً أن الذهاب إليها، إلى ينابيعها، أنها هو كمن يطلب الانكسار والتشظي: "غادرت نحو الحقول إلى لفتي هائماً"...، "كالشظايا تناثرتُ... لحمي الذي مضغته القصائد..."، إن "نشيد أوروك" يتعب ويمتع، وعدنان الصائغ برهن قدرة اللغة الهائلة في صنع ذاتها وإلغاء ذاتها، كما برهن قدرة اللغة الهائلة في صنع ذاتها وإلغاء ذاتها، كما برهن قدرة الشاعر في خلق اللغة إلى ما لا نهاية، حتى التوحد بها، حتى عدم رؤيتها، حتى تصير اللغة فعل تصوف وفعل حب "بحبك أخفاني الحبُّ عني فكيف أحب.
عدنان الصائغ في "نشيد اوروك" – "دار أمواج"، من القطع الوسط، والشاعر حائز جائزة هيلمان – هاميت. |
(*) صحيفة "النهار" اللبنانية ع19553 26/9/1996
|