أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الدخول إلى عالم "مرايا لشعرها الطويل" لعدنان الصائغ

د. الأب يوسف سعيد
ـ ستوكهولم ـ

عدنان الصائغ الحامل بقايا من حروف ترنيمه كتبها أثناء ولولة رياح روحه الشاعرية على موانيء عقل الكلمة، هارباً من سفينة مهترئة الضلوع، خارقة خضرةَ أديم ماء يحركه هواء يترجرج بعنف من ابواق عاصفة طارئة. تبحث عن جذور سحرية في طيات التراب. جلست لتعصب جراحه في ساق أوردتها معبأة بالشعور والعاطفة الفياضة. تهيم مع أسراب من مدن الموحشات باحثاً بدقة متناهية كصحون الاستراليين والبرازيليين في بحثهم الدقيق عن منشورات من الذهب والتبر. عدنان ستبقى هائماً، ضائعاً، باحثاً، منقباً عن اكتشاف اللوح المحفوظ تحت تعرجات عبر الأنفاق الحجرية في روحك الحاملة مشعل المنفى والنار (تعريف الصديق الشاعر عبد الوهاب البياتي عن عدنان الصائغ .. انظر الحبر الآخر من الكتاب وهمسة رقيقة من البياتي في أذنيّ الصائغ.
البياتي يرتق هامة صليبه تحت قبة نار الكلمات ... لكنني أتماهى في داخل روحي .. ويخترق سجف حنجرته اللاهبة بالعاطفة الجياشة ويصرخ في ذروة جلجلته "ولكني وأنا اتماهى في داخل روحي".
... احترق الان (انظر كلمة البياتي الأصلية عن عدنان الصائغ).
والصائغ في "مرايا لشعرها الطويل" - نشرته وزارة الثقافة العامة في بغداد 1992 - يتدفق برتابة دقيقة وأنيقة. الكلمة عنده عبارة عن أسوار لمدن الجمال. يتألق في نظراته إلى أسوارها العالية السامقة. ويصرخ ملء حنجرته ، من هو القادم من سهوب الوطن، وعلى هامته اكليل الشوك. وهو يدرك جيداً أن القصيدة الأصلية عبارة من أجنة في سيول الدم النقي الصافي. صفاء البحر في افقه البعيد. ليتك تتوقف في هدير قصائدك، وشعاب خيالاتك المجنحة، وهدوء بالك في ولادة اللفظة الشعرية على شفتيك. ليتك نحرت روحي لسكينة قلبك الذي تناغيه وتناجيه كقلب غريب:

(أيها القلب، يا صاحبي في الحماقات
يا جرح عمري المديد
أنت بادلتني الحلم بالوهم
ثم انحنيت ترتق ظلك في الطرقات
أنت أوصلتني للخراب
وسميته "....."
    ثم بيتاً
    فنافذة نصف مفتوحة
   أنت ضيعتني
    ثم ضعت)  ص64

أكثر من ألف نثر صرختها كقصيدة ملحنة على أوتار قيثارته، قيثارة داود عندما قال: ( قلباً نقياً اخلقْ فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جددْ في داخلي - مز 10:51) ومرايا لشعرها الطويل ص64.
كلماتك الشعرية أحياناً تتحول إلى أنباض دائمة على صفحات القلب عندما أضاع في حالة حالمة أصابعه العشرة، فتحول ذلك الضياع إلى عشرة من " شموع الحنين" ص75
ولما وجد أن رصيفه مبلل بالدموع ص76 التحق بشاعرة أنثى مجهولة الاسم:

(أمام صمتك أيتها الشاعرة المسكونة بالرحيل
قلت علني أنزع غمام الحزن عن رصيف شفتيك
فوجدت حزني يتشظى
ويمطر قصائد وياسمين، وفوضى
آه... أيتها الفاتنة
أيها الحرف الممنوع
الحرف الموصول بالقصيدة .. حتى تخوم البحر
الحرف الوحيد .. حتى ذبول الغروب على طاولتي
الحرف الناحل كشجرة سرقوا أحلامها
وخلفوها وحيدة للخريف) ص77

الشعر هنا عند عدنان الصائغ ابتكارات، رغبات كاسحة، اكتشافات مذهلة كعباراته الشعرية:

"رصيف شفتيكِ"
"حزني يتشظى"
"يمطر قصائد ياسمين وفوضى"

وهنا الشاعر يتوشح بأوسمة الحرية المطلقة مناغياً ومنادياً (أيها الحرف الممنوع) وهذا الحرف المغلقة أبوابه على القراء والكتاب والقرطاس. أوصلنا شاعرنا إلى ضفاف ديناً الغربة. لماذا؟ وهو مجرد سؤال بسيط. لأنه شاعر والشاعر لا يصمت ولا يسكت ولا يرضخ. القصيدة المستعبدة تبأنِ من سطورها الأولى. القصيدة كلماتها تتقارب، تتحول إلى كتلة تلبس عظمها وتكسيه بالعصب واللحم وتكسيه بجلد جميل .. تهب على شموخها الهرمي الرياح من جهات الدنيا الأربع. كلمات الشاعر الأصيل تتحول إلى جيش الخلاص والانشاد.
هذا الشاعر الذي تقتله العاطفة بحرابها يصرخ ملء حنجرته.

(في الطريق إلى الشهرة، في الطريق إلى بائع الخضروات، في الطريق إلى الباص، في الطريق إلى قبو الأضابير، في الطريق إلى القرنفل الأبيض، في الطريق إلى دبق المقهى، في الطريق إلى بورخس، في الطريق إلى شطرنج الوظيفة) ص88.

كلمات شاعرنا ليست كسولة واهية ومتلاشية أنها نبض من بروق كلمات اللغة الحية. تبنى من حساسية العبارة، ان يلتصق قميصه بدبق المقهى.. أي فراسة حادة يملكها الشاعر. يلتقط عبارات شبه ممسوحة من لوحة الذكريات فيحفظها عن ظهر قلب. غارقاً في بحيرة التمرد ودموعه يحولها إلى نثار من الفضة البيضاء يرصعها من كؤوس المحبة، ثم يهرول عائداً من مروج السوسن، وأودية الورد. اليس أوان ولادة الثمرة، وبدايات أنشودة قصائد روح الفرح، حيث أرقام ثلاثة تبان:

1.  رصيف للتسكع
2.  وآخر للحب
3.  وآخر للبحث عن عمل

وعندما حقق هذه الفرحة المؤقتة حيث بدايات ضيق جديد لسجن جديد نراه يصرخ ملء حنجرته:

(اصبح لي رصيف وحيد ضيق
يمتد بي – كل يوم – من البيت إلى الوظيفة)

وهذه بدايات إسار الشاعر وحبسه الاختياري. الراتب متأتي من عبودية داخل سجن الوظيفة وأخيراً من فرط ضيقه صرخ ملء حنجرته:

(كانت لي غيمة ماطرة
تسمى القصيدة
عندما لم تجد أرضاً تؤويها
هاجرت
وتركتني وحيداً على عراء النثر) ص59

ولما لم يجد مسافراً يواكبه، ولا يجد في دربه من يسامره فما عليه إلا أن ينوح لوحده صامتاً ساكتاً يقرأ أشعاره المنتشلة من بركة الدم يردد بخشوع:

(ستجلس على دكة نجمة
لتبكي
عندما سيفرح الناس بقطرات المطر يتراكضون على دموع الغيم
وهي تبلل عشب حياتهم
يا لعشب حياتي
من يبلله إذن؟
ولا تمطرين …)

سيبقى عدنان الصائغ أنيس يراعته تدر عليه عبارات سحرية مقتطعة من شجرة جوزة الروح غصونها تمتص رضاب الأبدية، أما يراعته فترتوي من طل ربيع عراقي ...
وعدنان سيبقى همزة معقوفة بانحناءات الحزن العراقي العميق يناجي نجمة وحيدة في رحيلها الأبدي فوق سماء العراق الذي أنجبه. وستبقى القصيدة التي يُمارس طقوسها بتجلة وتقدير واحترام هدفه الأسمى والأكبر.
للكلمة الشعرية عند عدنان الصائغ أجنحة لها حفيف أشبه بحفيف النسيم يداعب حقول سنابل القمح في ارض ترتفع راياتها بالمحبة والمجد، يتحرك مثل غيوم الندى وكقطرات حبلى برائحة المطر. تلهث وراء حفيف أجنحة النسور المحلقة عالياً في أفق السموات، والسحاب الناصع يفتح شدقيه لتبريد عبارات من تفاعيل الشعر الباطني الذي يجول بحرية تامة في أعماق الشاعر:

(قلت لها
سأرهن نصف عمري لو تفهمين هذه المعادلة
التي لا أفهمها
أدمنت غيابك حتى وأنت قربي
ففيه أتأملك عن قرب
واكتشف أبعادك.. وأبعاد قلبي
لم تقل شيئاً
وافترقنا) ص98

وبينما عدنان الصائغ خارجاً من حب يجاور معارك الحرب حيث قعقعة الأسلحة بيد غطاريس الدم والمنحرفين. في قمة الضجيج الشاعر فتح أسوار روحه وتوارى خلفها وأبتدأ يكتب ويكتب آخر قصيدة.
وبدون أن يدري قذفته أمواج الغربة إلى سواحلها البعيدة عن الأشياء التي يتحسسها في أعماقه وفي وسط أحشائه.
وبقي وحيداً مع قلمه وقصاصات من أوراق مهترئة علقها على ذراعه ليكتب فيها أشواقه، ويسمع في الحلم خرير مياه جداوله، وفي قمة عطشه منتظراً ساعة ليكتب قصيدة عن روحه العارية في وسط الحرب. وكتب:

(وصولاً إلى الدهشة
أتوغل في لحاء الشجر
وصولاً إلى النسغ الصاعد باتجاه الوريقات وهي تفتح عينيها ـ لأول مرة ـ على عالم الخضرة والسواقي والأسواق. ها أنني ارتعش مع أصغر برعم في الطبيعة وأخفق مع أبعد طائر أو نجمة في السماء. لي كل هذا النبض الشمولي، لي كل هذه المسافات، وأدعي أنني وحيد وحزين تماماً، على مصطبة قصائدي، أغزل خيوط سنواتي الواهنة عباءة للريح، بانتظار موسيقى خطاك القادمة من الينابيع) ص90

أخيراً قيل لي أن عدنان الصائغ توارى في طيات عباءته السحرية، واختفى حاملاً معه قلماً وقرطاساً ونحن بانتظاره على لهفة ليقرأ لنا آخر قصيدة كتبها في غربته.
 
البحث Google Custom Search