أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
رائحة الحرب في "غيمة الصمغ"*

كريم شعلان
اوتاوا - كندا

يحاول الشاعر عادة أن يجني ثماراً مما بذر من حروف في السطور، ظاناً أن نتيجته الأخيرة ستكون وفق ما رسم في دواخلهِ من حصيلة، إلاّ أن ذلك لا يتحقق بتلك السهولة أو لا يتحقق أبداً. ذلك لما يخزن هذا الشاعر في دواخله من انثيالات وتشعبات تقود إلى طرقٍ مختلفة وشائكة. فبدلاً أن تقود اللغة إلى منظر ساحر يحتوي عاشقين، ربما تظهر في زاوية ما صورة لمقبرة أو طائر ميت فتتحول النتيجة إلى تيار مختلف لا مجال لتحديد مساره أو حصره.
والشاعر هو المرآة الحساسة لإلتقاط حركة الخارج وخزنها ببديهية فطرية مصقولة بالتأمل والخوض بالتفاصيل مهما كانت من البساطة أو الهول.
وهكذا هي الحال مع مجموعة عدنان الصائغ "غيمة الصمغ" التي حاول أن يتخلص من بقايا الحرب من خلالها، إلا أنه كتب عن الحرب بالنتيجة.
في تفاصيل القصائد وكمسحة عامة هناك تركيز على عالم المرأة وسطوتها و(الآخرين) بمفهوم يختلف عن مفهوم سارتر والعزلة التي يحلم بها الشاعر لسوق كلامه ولرصّ حروفه إلا أن آثار الحرب تظهر كرائحة تخيم على مناخ القصائد.
وسوف نتناول القصائد بالتسلسل لأجل ذلك.
في قصيدة " أخطاء " والتي تتناول موضوع (الآخرين):

"أيها الخطأ المتكرر
ـ يا عمر ـ
يا ندم الأصدقاء الجميل
سأفتح مشجب قلبي
    لكل حماقاتكم"

وسنلاحظ العلاقة هنا بين القلب والأصدقاء والمشجب وكيف يتغير المناخ ويقودنا عالم قديم إلى حرب في قلب هو مشجب أو هي ذكرى مشجب كان، وتحول إلى باب في قلب أتعبتهُ الحرب. وفي قصيدة "رحيل":

"ينفتح البحر
لاسفن في دمي للرحيل
ولا وطن للحنين
         *
لا مطر في الحديقة
لا وطن في الحقيبة"

وهنا تنمو مفردات الدم والرحيل والوطن والحنين ولا مطر ولا وطن وهي أجواء توعز إلى نتائج حرب خاسرة رغم أن القصيدة تنزع لتكون عن امرأة.
وفي قصيدة "جسر" وهي ومضة لتمرير شيء بينه وبينها إلا انه قال:ـ

"أحني دمي
كي تمر أغانيكِ من ثقب قلبي
إلى مصعد الشقة الفارهة".

وهنا تبدو أغانيها رصاصة ودمه رأساً ينحني فتمر الأغاني ـ الرصاص ـ من ثقب القلب.. فكيف لا نتصور هذا الـ(جسر) مليئاً بدخان وذكريات الحرب.. وفي "بكائية لأمريء القيس":

"بكى صاحبي
لما رأى الوطن ـ القلب ـ
تنهشه الطائرات
تنقّر في نبضه
قطعاً من ضلوع المنازل
    والشهداء
رأيت الجنود،
يسدون كل المسارب
دون الحدود .."

وفي هذه القصيدة تظهر أجواء الحرب واضحة. ولا بد من الإشارة إلى أن عدنان الصائغ يتفرد عن أبناء جيله بلغة مختلفة تماماً فهي بعيدة عن الغموض وتقصد التضبيب الذي أوقع الكثيرين في شباك الوهم.
وهي ـ أي لغته ـ مليئة بالشعر الذي يبدو هادئاً أو هادراً معاً.
وفي قصيدة "ندم القرنفل":

"تجيءُ المدينة
أشجارها ندم أخضر
يتفتح تحت رذاذ النوافير"

وفي قصيدة "بريد القنابل":

"الفناجين باردة كالصداقات
والحربُ تعلك أيامنا
وأنا في انتظار الندم
اقلبي الصفحة الآن.."

ورغم أن القصيدة تبدأ بـ (أنتِ) وتنتهي بـ (أنتِ) إلا أن أنياب الحرب تظهر جلية لتعلك الأيام ـ أيام الشاعر ـ:

"اقلبي الصفحة الآن
لا وقت
أن القنابل
تقتسم الأصدقاء".

وفي قصيدة "وداعاً":

"أقول وداعاً
نهار القصيدة تشطبهُ الطائرات
على لوحة الأفق
         *
زمن ينتهي دائماً
بخساراتنا".

وفي قصيدة "مصادفة":

"كغريبين معاً مرّا وافترقا
رجلاً يتسكع
وامرأة محترقة.."

ومن قصيدة "سأم":

"أعلق ـ في المشجب ـ قلبي
وأنام".

وفي قصيدة "زعل" وهي قصيدة فراق عن امرأة:

"نفترق الآن
سيشيخ الورد
وتساقط أوراق العمر على نافذة الموعد
أتأمل فستانك في المشجب
متكئاً فوق ذراعي"

               *

"تتوزعك الطرقات
ويوميات الحرب".

وقصيدة "سماء في خوذة" والعنوان هنا دلالة مباشرة عن الحرب:

"ارتبكتُ أمام الرصاصة
كنا معاً في العراء المسجى على وجهه
خائفين من الموت
جمّعت عمري في جعبتي ...
ثم قسمته بين طفلي
   ومكتبتي والخنادق

               *
وركضنا ....
نتحدى معاً موتنا
أينا سيخبّيء ـ يا وطني ـ رأسَهُ
ولنا خوذة واحدة؟"

وتستمر بقية القصائد ـ إلى مخبر قديم.
                    ـ شقة رقم "1".
                    ـ في المكتبة.
                    ـ طلقة.
                    ـ متسولان.
                    ـ أمسية شعرية.
                    ـ ديوان.
رغم أن القصائد كتبت بفترات زمنية متفاوتة وفي أماكن مختلفة ورغم اختلاف محتويات القصائد وما تريد البوح به إلا إنها محملة بذكرى وحياة مليئة بالأسى والاختناق من دخان حرب طويلة عاصرها الشاعر وبقيت معه بين أصابعه وأحداقه فهو يكتبها عندما يغازل حبيبته وعندما يعاتب أصدقاءه وعندما يصف شيئاً ما.. فتظهر كرائحة عتيقة في مطر الكلام وبين الحروف وتؤسس لوجودها قسراً ولا يراها الشاعر أحياناً فتظهر لنا بأجمل ما يمكن من مفردات دوّنها الشاعر عدنان الصائغ.



(*) الاقتباسات مختارة من ديوان "غيمة الصمغ" ط1 مطبعة الاديب البغدادية 1993 بغداد / ط2 منشورات اتحاد الكتاب العرب 1994 دمشق. ضم غلاف الطبعة الأولى كلمة للشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر، جاء فيها: "نادراً ما التقيتُ شاعراً مثل عدنان الصائغ، تكتبهُ القصيدةُ قبل أن يكتبها، ممتلئاً بالشعرِ فيّاضاً به، كلما رأيتهُ أدركت أن الشعر لما يزل في بقعةِ ما من هذا العالم الحديدي الحجري. ربما في جزيرةِ منعزلةِ هجرتها الطيور ولم تهجرها القصائد بعد، بل يخُيّل لي أن الأرض كلها في تصور هذا الشاعر ليست إلا أوراق قصائد تدور... لا شيء من حوله أو بين يديه إلا هذا النغم التائه المسحور، أو هذه المرأة المتنكرة الباهرة الضائعة في عالمها الضائع ـ أي القصيدة ـ أو هو أشبه في زمنه هذا بفارس علّق شارة الفروسية في عصر لم يعد يحفل بالفروسية والفرسان، ولم يعودوا هم إلاّ أشباحاً وظلالاً. واني أحمدُ له هذا الصبر والتشبث، وهذه الرغبة في اقتحام (طواحين) الأيام (النثرية) المصفحة بالاسمنت والذهب، بل يخيل لي أحياناً أنه (آخر) الشعراء وقد دالت دولتهم وجف في وجوههم ماءُ الحياة والحياء...
الرياحُ تسرع الخطى وهو مسرعٌ إلى قصيدته، فلاح محراثه اليراع وحقوله الورق، صائغ أدمى جفونه فوق مادة الشعر الزئبقية الهاربة، طير تائه على أرصفة السجائر والجرائد، طفل لم يزل لاهياً بطيارته الورقية بين طائرات الكوكب الأرضي الهادرة المتراكضة، تتدلى القصائد بين يديه كما تتدلى العناقيد الذهبية بين عرائشها وكؤوسها، هو صاح و(الآخرون) نائمون، هو مجنونٌ ثملٌ بالشعر و(العقلاء) الكثرة الكاثرة، العالم نثر وهو شعر، كما يقول عبد الصبور. العالم حجر وهو موجة، كما يقول بوشكين. العالم عوسج وعاقول وهو ورقة ورد..
سلام على القصيدة حيّة نابضة ملء أصابعهِ"...

كريم شعلان
27/9/1997


(*) نشرت في صحيفة ط الوفاق" لندن ع 299   15 كانون الثاني 1998
(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002 النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search