أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
في التطبيق:

غيمة الصمغ

محمد الجزائري

يتخطى عدنان الصائغ بمثابرة شعرية متميزة أقرانه وعديد مجايليه، لا بتواضعه الشبابي، قياساً إلى صعلكة الثمانينين، وتضخم الذات لدى السبعينيين، حسب، بل بمنجزه الإبداعي، وتجاوزه التجريد، في أن يشارك بالتاريخ بطريقه وحيدة هي عملية "القراءة – الكتابة"..، أي من خلال "بنية دالة" بارتباطها أو تعارضها مع "بنية" يكتبان ويقرآن ضمن أساس النصوص..
إذ تلتزم "الكلمة – الشعرية" لديه بقدرات متعددة، وبمنطق يتجاوز "الخطاب الشعري" لأنها تأتي إلى "حيز" انساني وتنغمر به، مكتنزة بتلك الشفافية – الواقعية – الحزينة، والوضوح الجارح والصور، التي بقدر ما تبدو مألوفة "واقعياً" تزدان بكمية واعية من النسغ الفني والدوال.
ومن العنوان يأخذنا عدنان الصائغ، بهذه المجموعة الشعرية، التي صدرت ضمن "سلسلة ضد الحصار الثقافي" إلى فجيعة الحلم، فأي مطر "صمغ" ستعطي "غيمة الصمغ"؟!
إن ذلك واحدة، مفارقة واقع، وضديته، في آن..، تصعد بالملموس المادي "غيمة / صمغ" إلى انكسار واقعي، وخيبة انسانية.
هل لأن الصائغ مفجوع بالحبيبة "بالنساء" "والأصدقاء" "والأضابير" التي حولت أنسنة الكائن إلى رقم وعلاقاته، إلى محفوظات باردة؟ هنا، كل "كلمة" في "نص" تبدو متضادة ومتقاطعة مع "كلمة" في "نصوص"! يقول الشاعر البولوني. "ميلوش فورمان":
"إن أفضل قصيدة يمكن أن تكتبها – هنا – هي قطعة اللحم، .. إلا إذا كان علي أن أحتفظ بفمي مملوءاً بالثلج،.. فالكلمات يتعين عليها أن تظل في الداخل، ولذلك.. هاجر "ميلوش" إلى اميركا وبقيت بولونيا تحت ثيابي.." فهل امتلأ فم الصائغ بمطر الصمغ، يا ترى..، مع أن وطنه/ حتى في الحرب/ ظل تحت جلد يقينه؟

"البيوت = الأضابير
البلاد = الأضابير
الحروب = الأضابير
الكروش = الأضابير
النساء = الـ..."

ولا تنتهي هذه المتوالية، الساحرة السوداء، فالأضابير في "25/10/1988 تاريخ كتابة القصيدة، وفي "كركوك" مكان انتاج النص.." هي "أمكنة" و"أفعال" خرجت القصيدة عليها لتدينها، لتتعارض معها، تتقاطع، تضاد..
مثقلة بكتابة شاعر/ كتابة مخاطب/ شخصية" وكتابة سياق انساني، ثقافي، معاصر أو غابر، ضد..
وهكذا زاوج الصائغ بين كون الكلمة "بنية دنيا" وكون النص يقع في نطاق تاريخ مجتمع، يعيد قراءته الكاتب/ والمجتمع في آن، مدخلاً ذاته باعادته كتابتهما "الكلمة: الاضابير" و"النص = القصيدة"..
وبذلك لا يظهر "التاريخ – الكتابي" تجريداً.. وبالمناسبة لا يظهر التاريخ التي ذيل الصائغ قصائده بها، تبدو مكملاً لنسيج النص...، بالرغم من الإيحاء الذي تتركه "النصوص/ القصائد" من أنها كتبت دفعة واحدة، وبنفس واحد، ولهاث متواصل، لشدة تماسكها، وتدفقها وعنفوانها المتصاعد..
وهكذا تميزتْ قصائد "غيمة الصمغ" – كما هي قصائد الصائغ عموماً – بتقاطع وتضاد ومفارقة، لمظاهر خارجية النص..، أكثر من كونها نقاط "معنى ثابت" أو يقين تكمن هواجس قصائده في اكتنازها الحالة ورفضها الحالة في ذات الأوان:

-  "ولا بكاء سوى ما خرّبَ التاريخُ من دمنا.. وما قد عاثت الزوجاتُ والنقادُ في أشعارنا"

-  "ينوء هذا القلبُ
تحت قميصي المثقوب
بالكلماتِ والطلقات
أخلعهُ..
وأمشي في الشوارع عارياً..
كالضوء"

إنّه تحرر من "الدبق" ومن "الصمغ" الأشياء!! و"حرارة الأصدقاء والخيانة" "عزلة" لكنها "تحرر" في ذات الوقت، عبر وعي المفارقة والافتراق..
الشعرية تتقطر.. في بنية الكلمة "كوحدة"، ثم في بنية "العبارة"، فالجملة، فالنص/ القصيدة.. فالخطاب..
إنّ عدنان الصائغ لا يصوغ تعاقبية كلمات في بنده العشقي المخذول، أو هاجسه الإنساني المفجع، داخل نسق النص، بل يصوغ تزامنية تصاعد بالخطاب لأن يكون تاريخ تضاد وإدانة، ولأن يكون – معاً – مشبعاً بالثنائيات، العلاقات، وحتى الانقطاعات.. لأنها مزدوجه الثنائي في حقل التخاطب..

"هكذا..
تنتهي المسألة
ملك
يحمل المقصلة
....
....
....
....
هكذا
تبدأ
المسألة
شاعر
يرتقى
الجلجلة
22/7/1990 بغداد

.......
ومنذ العنوان الأول "أقحوان".. وبشفافية، يدين الشاعر/ ذلك الأقحوان البخيل، ومنذ "أقحوان" المبتدأ يفتح عدنان الصائغ خطابه، وكان هذا الاستهلال الشعري، هو مقامة مقامات كل الديوان، وخلاصته:

"أيها الأقحوان البخيل
أيها الورق الكاذب – الجمرُ متقداً بين كفي
وعشب الحديقة أندى
فكيف أدلُّ القصيدة – مشغوفة بتقاطيع جسمك –
نحو المرايا التي خدعتني"

.. وهذا المقطع وحده قصيدة تكتفي بذاتها، وموضوعها، وتنفتح في دالها العام على الديوان كله وكل عنوانات القصائد، "رحيل".. حقيقة أو مجازاً..، أنها نأي تماما:
"أقحوان = أمنية، لا يدركها الشاعر، وأن كان يتمنى على من يدل النعاس إلى جفنه!".
"رحيل = حيث ينكسر قلبه، والموج، على الصخر، وحيث المراكب مرهونة بالغياب!"
"لوحة = أنت ضيعتني.. ثم ضعت"
"عابرة = كان لها الجسر، والصداقات كذب أنيق.."
"مطر لسيدة البنفسج = سرد جميل، المرايا تكذب العاشق، يصرخ بين الموائد والأقحوان القتيل، كالذكريات الصدى المر، وارتحلت في قطار الزواج العتيق".
"وداعا = حلم عالق تحت الأجفان/ زمن.. ينتهي دائماً بخساراتنا"
"مبتدأ = المسألة تنتهي بنأي الشاعر عن مقصلة الملك كي يرتقي الجلجلة"
بكائية لامرئ القيس = بلادك بلادك ضيعتها وانتهيت. أضعت الدليل: غربة في الرمال" "الأضابير" أن الأضابير لا تتذكر وجه الموظف. أنها: نحن"
"الجنوب = يا قلب.. يا صاحبي في التشتت"
"نوم القرنفل = هاهو ورد الحديقة يذبل"
"مرايا متعاكسة = لا يدري الآن أيهما كان.."
"ضجر غيمة = الصحاب الذين مضوا في بريد الحروب"
"اقتراب أولي من الجمر = هاهنا قلبي يدثره صقيع يديك، في البلد الغريب"
"أخطاء = أنا خطأ في القصيدة يشطبه النحوي على لوحة الصف. ثم يشطبني هكذا"
"أولاد = فلنصقهم في بريد الزواج.. الخ.."
"غيمة الصمغ = صباح البلاد التي علمتنا التشتت.."
"دبق = وأمشي في الشوارع عارياً.."
"امرأة = منحدراً من شتاء الجنون"
"عزلة = انتقي عزلتي.. أُجلس قلبي إلى الطاولة وأحصي له الطعنات"
"حكمة النادل الكهل = أيها القلب.. أرى أنني تائة"
"علاقة = هكذا نفترق"
"غموض = ثم افترقنا.. بصمت"
"محاولة = هذا القلب.. يصبح جسراً، يوصلني للنسيان"
"المدير = انحنتْ فاندلق البحر.."
"رفيف = وحين تتيه المرايا.. تتيه يدايا.."
"مرثية صديق = حتى ضللنا الطريق"
"عانسة المشتل = سيراود غربتها"
"خرجت من الحرب سهواً = أصدقائي الذين أضاعوا الطريق.."
غنائية، لا يتخلى عنها..
تنويع، مديد في ثنايا السرد، أو تكثيف لدرجة التعريف "مبتدأ".
مرارات، صدق الوصف للعلاقة بين المرأة والرجل الخائب، أو الملتذ بالذكريات وبلا مجاملة، لا للقهر الوجداني بحيث يزوق هزيمته، أو للقهر الاداري بحيث يحمل قباحته، أنه يعري نفسه الحالات، الآخرين..، وأولاً همومه نفسه!
مجازات، اناقة كلمة، وبساطة بليغة..
ليس شكلانياً، وأن انتدب الشكل، علاقة جمالية مع المضمون، توفر على الجمع بينهما دون ارهاق لجسد النص.
يقص.. في كل قصائده قص. يعتمد المبنى الحكائي، مثابة لأفق النص ونسقه، يجيد تفعيل حقل التخاطب، دائما هناك آخر، هي، هو، أو هم.. في طرف الخطاب الشعري، ودائما "هو" الشاعر "المتكلم" ليس غائباً في النص فالنص ينطق بلسانه..
أعاد للرومانس. خشونة الخيانة، والرحيل إلى قطار الزواج، فذكرنا بالرومانيين المفجوعين، ولكن بكائيته صافية، وشجاعة.
لا يفتعل منطق القصيدة، فالقصيدة مشبعة باليومي، المألوف والمدان في آن!
يختبئ خلف ترسانة قراءات معاصرة، وهو ينادد بحبه وقرنفله وأقحوانه محمود درويش، أكثر من سواه، من الشعراء المعاصرين،..
يمتلك قدرة التقاط "التفصيل" من الحياة اليومية، ويوظف "الواقعة" البسيطة، اللقطة، آنيا، وبلا تردد، فتمتلئ شعرية.. ولا يسقط بالتقريرية، مطلقاً يصلح كل "الديوان" مادة للاستشهاد، ومسنداً للأحكام.
وصفي، لكنه يفور في العمق ويسبره، يقرب "بنية" اللغة" من "بنية" الصورة والمعنى، فهل أحلى وأجمل، وأدق؟!
عدنان الصائغ، ليس مشروعا. بل اكتمال.


(*) صحيفة "القادسية" – بغداد 18-5-1993 صفحة ثقافة
 
البحث Google Custom Search