أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
تأبط منفى
دراسة تحليلية وتجليات تصوفية

د. الأب يوسف سعيد
ستوكهولم

كنت عزيزاً بمحبتك الطافحة الطاغية المجنحة. تلك المحبة العالمية التي صلبك العالم على صليب في جلجلة. معبدة طرقاتها بقوالب من دم ثخين وسمين ومسحت أحزانك بابتسامتك العميقة باكياً في غرة صباحاتك على حمامة ناصعة بيضاء بياض نهارات في تموز العراق. تبكي حمامة شهيدة.
تتصدر وجه ديوانك. تفهرس كلماتك أرقاماً تعلقها كأرقام لساعة صحراء الوقت. وشعرك ملقى على أكتاف أجنحة يمامة برونزية مغسولة بدموع شمس الفرح والغبطة متسكعة تحت عواميد لنهارات حبلى أليست مياه ذاكرتك تقف سداً وتحاصرني أمام طواحين أحزانك. والتي تحاصر بعضاً من بيوت قصائدك وأشجانك.  
كمن صادقاً إلى حد الهلوسة. حزيناً حزن البحر.   حتى وجدت لحزنك المجسم والمجسد على شبه لأبقار متوحشة تعيش أبداً في براريها وصحرائها. ترى من يستطيع أن يرصد نفسك الحزينة؟ المرتلة كحمامة ناصعة ولكنها كئيبة ومتألمة كحزن يسوع في بستان جشيماني.. تبقى في منفاك ملقى على أرصفة القصيدة تدخل إليها والى مسارحها تطل عليها من رتاجات منفاك تبكي بكاء الثواكل وأنت قبالة نهارات حارة تجد في كبد غيومها دخاناً وبروقاً ولمعاناً. ملتهبة تتحول إلى أناشيد ومعزوفات لكل المحبين لعناقيد تتحول أناشيد المحبين لكرمة الروح ولدوالي القصيدة. وكنت في قصائدك مثل دالية خضراء صارخاً ومنادياً:

"أنينُ القطارِ يثيرُ شجنَ الأنفاقْ
هادراً على سكةِ الذكرياتِ الطويلة
وأنا مسمّرٌ إلى النافذةِ
بنصفِ قلب
تاركاً نصفَهَ الآخرَ على الطاولة
يلعبُ البوكرَ مع فتاةٍ حسيرةِ الفخذين
تسألني بألمٍ وذهول
لماذا أصابعي متهرئة" ص201

كنت مثل كرمة خضراء ملقاة على أبراج معاصرك النازفة قهراً. عراقياً ينز حباً وسعادة لتبقى هائماً على وجهك. في طرقات مصفوعة بأكف الصمت. من تلك الدالية تستقطر من عناقيدها قصائدك الملتهبة بالحزن. دعني أسألك. هل فعلاً تأبطت منفى؟ أم أنك تأبطت زعيق صفارات من بواخر مودعة أرصفة في ميناء المدينة مالمو. محدقة في فضاءت من أحلام عدنان الصائغ؟ المتأبط دفاتر منفاه. وكراريس مخططة بدم طيور الهجرات والمبقعة بدم الشهيد العراقي. وفي الساحل الآخر تقص العذارى جدائلها حاملة بقايا حزنها الملطخ بدم أشواقها. وتباريحها المزخرفة بلون أردية متهرئة. وكنت وحيداً في البعد الأبعد في منتهى الأقاصي تتفرس نوارس بحر متأرمل وترى حماماتك الوديعة محترقة أجنحتها من لظى أشواقك وهشيم لوعتك. وأنت الواقف لوحدك غريباً تدوس بقدميك العاريتين عناقيد المعاصر صانعاً لربة الشعر في بغداد أفاويقاً تترعها دهاقاً وتحلم بارتشاف خلاصات من رحيق خمرة القصيدة ولكنك تتفجع كنساء العشيرة وتصرخ صراخاً ملء حنجرتك:

"عمرٌ أو عشرةُ أعمارْ
لا تكفي
يا ربي
كي أشبعَ من صحنِ أنوثتها
فامنحني اياها
بدلاً من حورك
والأنهارْ
أو ليستْ لي حرية أن أختارْ" ص47

وتبقى مردداً مع شاعر الأرض والسماء جورج شحادة
- كآبة جديدة
ولا أزال أحبك على النحو أبوح به لك
في سبيل حصان أبيض بياض الشتاء
تتعرى النسائم من قطر الندى
وتموت العصافير من جراح البحر
انظر قصائد جورج سعادة ص30 طبعة بيروت
ترى هل سيعود عدنان الصائغ من هجراته ويتأبط منفى. ويختفي في جبال منفاه وحيداً حاملاً على منكبيه شرارات ممغنطة مساماته بلظى نار قصائدة العاصرة؟
أخيراً شئت أم أبيت تبقى حاملاً لعنة لمدن مندثرة مبعثرة على مساطب شفق مكحل العينين بورد الوطن مرددين معك هذه الابتهالات الشجية:

"وراءَ زجاجِ إحدى المكتبات
ظلَّ صاحبي يختلسُ النظراتِ إلى وجهِ رجلٍ
كان يقلّبُ كتاباً
حين وقعتْ عيناهُ - على مؤخرةِ بنطلونِ صاحبي - ارتبكَ
هل خافني الرجلُ ؟
سألتُ صاحبي، فلكزني بحذرٍ
أن أسكتَ
لكن الرجلَ الذي التفتَ فجأةً إلي ورآني
اصفّرَ وجهُهُ
تركَ الكتابَ
وانسلَّ مسرعاً بين الزحامِ
تاركاً صاحبي
يبحثُ عنه بغضبٍ" ص84

أيها العزيز الصائغ محبتك الشعرية صلبتني على جلجلة معبدة طرقاتها بالدم الثمين الثخين ماسحاً أحزانك بابتساماتك العميقة مهجوراً عن وطن تبحث فيه عن أشيائك العتيقة الثمينة لكن دعني أسألك.. كيف دخلت معابد القصيدة. باحثاً في أعماقك عن احساسات رهيفة تكون منها جسد القصيدة.. أولئك الذين شيعوك وحملوك صليب عذابات روحك ولواعجها وأحزانها وأنت تقف تحت مظلة ترتعش أمام طفل المحبة. راقداً معه في بستان أحلامك.
عدنان الصائغ
وحده ينفرد بزقزقات عصافير بلاده. وبلابل نخيله. من هناك يناجي ماء وطنه ملاحقاً أصواتاً ملونة تتحدث عن شعر المحبة. حقاً إنك تعشق كل الأشياءات في وطنك حتى غباره المبلل بدموع عشق الشعراء مسافراً عبر حدوده الملآى حدائقه بمعزوفات من أوتار أحلامك مردداً:

"سأقطفُ الوردةَ
سأقطفها
لكنْ لمنْ سأهديها
في هذا الغسقِ
من وحدتي

*
لو لمْ يكنْ لجمالكِ مشجب
أينَ
نعلّقُ أخطاءَ نا..؟" ص71

أيها الشاعر الغريب القريب بالروح من ناصية القلب دعنا نفتح لك أوداجنا دعني أسميك بالشاعر الملاحق قبرات الصباح وتعود حاملاً بسمات المحبة إلى كل محبيك من شعراء الوطن..


(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا (عدد خاص - الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search