أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ في مختاراته الشعرية:

الشاعر وقد تغير تماما

فيصل عبد الحسن
الدار البيضاء

الكتاب: صراخ بحجم وطن
المؤلف: عدنان الصائغ
الناشر: دار المنفى
الطبعة: الأولى – السويد – 1998

"دائماً..
عند كشك المحطات
ابتاع تذكرتين
دائما، كنت أرنو لمقعدها الفارغ
للحكايا التي كنت أعددتها للطريق الطويل
دائما، كنت أجلس ملتصقاً
قرب نافذة
في القطار المسافر، وحدي
وأترك فوق رصيف المحطة..
.. تذكرة ذابلة"

شهرة أي شاعر تأتي من الغموض/ وما يسببه للآخر من احتمالات عديدة، تتراوح بين الإعجاب الشديد والبغض العميق، وإذا سألت كيف تتناغم هذه المثيرات المختلفة في لحن واحد، أقول أن ذلك يعود إلى طبيعة المثقف المستقبل للإبداع انى كان، فالشعر الجيد الذي نقرأه لشاعر ما يحيلنا إلى الشاعر وإلى جديته وموهبته وحسن أدائه، أما إذا أحالك شعر الشاعر إلى شاعر آخر فذلك أسوأ ما في قضية الشاعر حيث ستهمله كورقة ثانية زائدة في كتاب مطبوع، ونتساءل وقتها، ماذا يستحثك في قراءة ورقة معادة خطأ في الطبع وجاءت سهواً في تصحيف الكتاب؟ وليس إعادة قراءة الشاعر في شاعر آخر وحدها ما نبغض في واقعنا الشعري العربي، بل إعادة إنتاج الواقع كما هو، فالسجن في القصيدة كما هو في الواقع، والطاغية في الاستعادة الشعرية هو ذاته في الواقع، أن ذلك يمنعنا حقا من الإعجاب بما يكتبه معظم شعرائنا، ولو قارنا مثلا بين يانيس ريتسوس وهو ينتصر لأبناء شعبه من دكتاتوريتهم البغيضة، والذي وقال عنه أراغون – الشاعر الفرنسي، أن ريتسوس يمثل شعباً بأكمله، أنه الصوت الذي يعبر عن أحلام اليونانيين ويفصح عن آلامهم، ولنتأمل قصيدته "اليدان الحقيقيتان"
(ترجمة الشاعر عبد القادر وساط "الملحق الثقافي" – الاتحاد الاشتراكي العدد 5521):
"ذلك الرجل الذي اختفى بكيفية غامضة
في إحدى الظهيرات،
ذلك الرجل الذي أقتيد – ربما – إلى مكان مجهول،
ترك على مائدة المطبخ
قفازين من حرير
مثل يدين مقطوعتين
لم يكن عليهما أثر للدم
أو علامة من علامات الاحتجاج
كانا مثل يديه الحقيقيتين:
متورمتين قليلا،
مفعمين بالسكينة،
وممتلئين بالدفء الناجم عن صبر طويل
كنا نأتي بين فينة وأخرى،
لنضع بين الأصابع الحريرية الرخوة
كسرة خبز أو زهرة
أو كأساً من نبيذ
كنا نشعر بشيء من الطمأنينة
لأنه ليس باستطاعة أحد
أن يعتقل قفازين" (1).

نجد الفرق بين ما فعله شاعرنا وشاعرهم، وعند قراءة مختارات الشاعر العراقي عدنان الصائغ نصل إلى جملة استنتاجات، منها، أن من سوء حظ الشاعر أنه كتب معظم قصائده في غرضين من أغراض الشعر، هما التوجع من سوءات الحروب في السبعينيات والثمانينيات والتوجع بعد ذلك من أعباء السياسة في التسعينيات وهما غرضان – في اعتقادي – لا يتيحان للشاعر الذي هو بقامة عدنان الصائغ أن يشدو بحرية حنجرته ما نفتقده في شعرنا الحالي، ويصير الشاعر في الحالتين السابقتين إلى بديل عن ذلك الناحب الباكي في المعازي، أو ذلك الذي يقص حياة السجن الذي فر منه على أحبائه، بكل قسوة أيامه السابقة، بكل قسوة أيامه السابقة، كأنما مسه الجنون من هول ما رأى وعاش، أن سوء حظ الشعر العراقي يغدو واضحاً لان الحروب والسياسة الظالمة جعلت أجمل الأصوات الشعرية العراقية تبح في الصراخ والتوجع، بدلاً من أن تتغنى بالجامل والحب وحكمة الحياة.
إن الصائغ صاغ تجربته من تجارب سابقة امتلأت بالندوب والاحباطات والعشق السريع والموت المجاني، أو كما يقول: "يا أيها الولد الصعب مالك محتدما هكذا/ تفتش في المصعد الكهربائي عن وطن/ وتنام على حجر في الرصيف/ كان الذي بين جنبيك زئبق لا قلب"..
والرحيل المتواصل، وطوال السنوات الماضية كنت أعرف انتقال الشاعر من بلد إلى آخر من خلال تأخر اجابته عن رسالة أبعثها اليه، فيجعلني ذلك التأخير أعرف أنه ترك تلك البلاد وقفز إلى أخرى، مع أسرته، وذلك ما حدث حين كان في عمان وبيروت وصنعاء ودمشق وبعد ذلك في منفاه البعيد – السويد – ولسان حاله يقول كما خاطب الشاعر البرجوازي (ص47) من المختارات:

"أوصلتني القصيدة للفقر/ هل أوصلتك القصيدة.. للفقر؟/ هل أسلمتك إلى حارس السجن/ أو للتشرد أو للجنون؟/ كنا معا نستفز الأزقة/ دشداشتين مشاكستين/ وقلبين دون حذاء/ وحلماً صغيراً بديوان حب، وكسرة بيت/ فكيف افترقنا اذن؟"

وأتساءل هنا ماذا يخسر الوطن وحكومته الرشيدة لو أعطت الشاعر والمثقف هامشا من الحرية، ونوعا من الحياة، ليغني أغنياته المشاكسة؟ ولماذا تصر على أن تجعل فضيحتها وارفة الظلال على الصعيد العالمي بدلاً من تسوية الأمور داخل البيت؟ والصائغ يغني للعراق بذات الجرح والرؤيا حين يقول في قصيدته العراق (ص 5) من المختارات:

"العراق الذي يبتعد
كلما اتسعت في المنافي خطاه
والعراق الذي يتئد
كلما انفتحت نصف نافذة ..
قلت: آه
والعراق الذي يرتعد
كلما مر ظل
تخيلت فوهة تترصدني،
أو متاه
والعراق الذي نفتقد
نصف تاريخه أغانٍ وكحلٌ
ونصف طغاهْ"

الشاعر عدنان الصائغ وقد عرفته في العراق منتصف الثمانينات وقرأت قصائده وهي مخطوطة وقبل أن ينشرها في هذه المجلة أو ذلك الديوان، عرفته شاعراً دقيقاً، خجولاً، مرتبكاً، مفعماً بأحاسيس الشاعر ورهافته، وقرأت له ما ينبيء عن كل تلك الصفات، وصرت الآن وأنا أقرأ قصائده المتأخرة يغمرني شعور فياض بالحزن جازماً ًن الشاعر قد تغير تماما، وفقد شدوه العذب وصارت قصائده مملوءة بالصراخ، كما المذبوح يفعل، فماذا جرى للشاعر؟ هل أحرقوا أصابعه في الوطن المخرب وجعلوه يتلوى ألما ويكتب على الورق بأصابعه التي تنقط دما؟ فمن نسأل؟ غير قصائده:

"وطني حزين أكثر مما يجب
وأغنياتي جامحة وشرسة
سأتمدد على أول رصيف أراه في أوروبا
رافعاً ساقي أمام المارة
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات
التي وصلتني إلى هنا
ليس ما أحمله في جيوبي جواز سفر
وأنما تاريخ قهر
حيث خمسون عاما ونحن نجتر العلف
والخطابات...
... وسجائر اللف
حيث نقف أمام المشانق
نتطلع إلى جثثنا الملولحة
ونصفق للحكام
... خوفا على ملفات أهلنا المحفوظة في أقبية الأمن
حيث الوطن
يبدأ من خطاب الرئيس
... وينتهي بخطاب الرئيس"
(ص 12) المختارات.

الشاعر عدنان الصائغ، صوت عراقي متميز، لم يستنسخ صوته عبر أصوات آخرين، وما صراخه العالي واستعاداته الذكية، وصوره الشعرية المتوالدة بغير قسرية، وتورياته وطباقه، وبحثه الدائب في المفردة الدالة والمؤدية، هي محاولات لتجسيد خراب وطنه ومعاناة أجيال كاملة من مواطنيه، بعدما تعمق شعوره بالفجيعة وهو يرى حال الناس والثقافة في الضفة الأخرى، فصار كذلك – الذكي – الذي يكتشف في غفلة من غفلاته القليلة، أن حياته سرقها الشيطان، وذلك يحدث كل لحظة لما تبقى من أحبائه في ذلك الوطن/ الخراب، وربما يفسر لنا هذا شيئا مما اعترى الشاعر والقصيدة التي يكتبها في منفاه البعيد.


(*) صحيفة "الزمان" – لندن - ع437 25-26/9/1999 ص 10 قراءات
 
البحث Google Custom Search