أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
عدنان الصائغ وهو في المنفى:

شاعر يفترش وطناً في الذاكرة

باسم عبود الياسري
- الدوحة -

مثل لعنات تلاحقنا أينما حللنا، كذلك هي عذاباتنا الذاتية فننوء بحملها، إنها تطاردنا حتى في أحلامنا فتتمثل لنا بشكل كوابيس مزعجة لا نستطيع منها خلاصاً ولا مهرباً، فتخترق عزلتنا وتنغص وحدتنا التي ننشدها وسط عالم صاخب لتذكرنا بما نحن فيه من قهر وظلم.
والكتابة لون خاص من ألوان العذاب، بل هي رحلة عذاب من ولادتها فكرة وحتى تسطيرها عبارة، ووسط كل هذا الركام من العذاب يبحث الشاعر لنفسه عن موقع يناضل منه من أجل عالم أكثر سعادة ونقاء.
وإذا كان المبدع يرضى ببعض الأشياء غير المكتملة إلا حين يتعلق الأمر بالحرية فهي وحدها لابد أن تكون كاملة غير منقوصة، وحين لا تكون كذلك فأننا من موقع الحرية نحاول النظر إلى الأشياء لنمنحها قدراً من الانفلات والتحرر من هذا الواقع، أنها محاولة للنفاذ من هذا الكم الهائل من الحزن إلى فضاء بلا قيود.
وفي عالم الشعر نحلق عالياً ومن خلال لغته نتذوق طعم الأشياء فنتحسسها طرية جميلة كما هي في ذاكرة الطفولة، ونتلمس جمر الروح ونســمع شهقة أمهاتنا ونشم عطر الحبيبة، والشعر حين يعبر عن الحياة بصخبها وضجيجها فهو يفعل ذلك ناقلاً الصراع إلى
المتلقي ، فالشاعر يضعه في اتون حرب هو ليس طرفاً بها لكنه على كل حال معني بها، عندها سيغدو المتلقي أسير لغة شعرية يصل بها ومن خلالها إلى ادراك معنى جديد للحياة، من خلال الشعر لا من خلال فكره هو ومن معان يستمدها مما أفاضت به القصيدة في وجدانه.
إذن فالشعر لابد أن يمنح المتلقي القدرة على مواجهة الحياة والتصدي لها بما يمتلك من أدوات الصراع الأزلي مع مفرداتها بكل تفاصيلها ، ولغة الشعر لابد أن تكون أكبر من الموضوع الذي تحتويه لتستدرجــه إلى أرض القصيدة حلبة الصراع فلا يجد بداً من خضوع الموضوع إلى قوانين القصيدة وهكذا يمنح الشعر نفسه قدراً أكبر من الاحساس بالارتقاء.
الشاعر عدنان الصائغ أسم بدأ مضيئاً في سماء الشعر من أول قصائده فقد اختزن طاقة شاعر مجيد قبل أن يبدأ بالنشر وقد عرفته منذ أواسط الثمانينات شاعراً لاكته الحرب وعركته الأيام والتقيت به ونحن نعاني من تمزق ذواتنا أمام متطلبات واقع حياتي يجرعنا الموت في كل لحظة عبر حرب دامت قرابة عقد من الزمن، لقد تحدث عن الحرب حديث من ذاق مرارتها وتلظى بجحيمها المادي والمعنوي ، في تلك الفترة كانت قصائده تتحدث عن هموم المقاتل الذي وجد نفسه في حرب لا فرار منها ولا خيار له فيها وكما يقول الجواهري العظيم حب الحياة بحب الموت يغريني، فالحياة جميلة ليس من السهل التخلي عنها كما والموت صار يواجهنا دون أن نتمناه ، أنه يدخل علينا ببزته الرمادية يقطف أعمار أحبابنا في الجبهة والمدن والقصبات وربما أعمارنا أيضاً.
تأتي لغة عدنان الصائغ رقيقة لينة منسابة مثل ماء عذب فهي لغة الحياة اليومية. اللغة المحكية لكن الشاعر منحها من ألقه الشعري فغدت بلاغة من نوع خاص. إن بلاغة الشاعر تمنحه القدرة على تحويل الكلام العادي إلى كلام يحمل زخماً ودفق شعور.
لقد تعلق هذا الكوفي حفيد المتنبي ببلدته وبوطنه تعلق العاشق بمعشوقته واستمد شعره من موروثات الوطن القديمة وما أضفت على لغته الشعرية مما حمله من وحشة المنافي ورائحة الأماكن التي مر بها، فكانت ملابسه وذاكرته تحمل من تلك الأماكن عبقها الخاص المرتبط بالحرية الفالتة من يديه ، وصار بحثه عنها من خلال الشعر والسفر والترحال، حتى غدت لغته تغرف من عمق الماضي وتصدع الحاضر فكان يوازن وجعه بهذه التأوهات التي ينفذها بألأم ممزوج بذاكرة مثقلة بالحزن.
غير أن عدنان الصائغ استثمر كل معاناته لتطوير مشروعه الشعري، فكلما زادت معاناته وزاد وعيه أفرز شعراً أعمق ولكنه أكثر التصاقاً بحياتنا اليومية، أهداني الشاعر ديوانه (صراخ بحجم وطن) عند زيارته للدوحة بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على لقائنا الأول، كنت خلالها أتابع أخباره سعيداً بتطوره الشعري اللافت، فقد استطاع الصائغ أن يؤسس لنفسه منذ بداية ظهور أسمه مكاناً له بين حشد الشعراء في وطن يفيض شعراً وحزناً.
ما أن تقرأ هذا الديوان حتى تنثال أمامك صور لملايين البشر تصرخ بعذاباتها في رغبة جامحة نحو الحرية أنها قدرة الشاعر على خلق صور تحمل في داخلها طاقة وزخماً وهديراً لا يهدأ.
والمبدع لا يكتسب هذه الصفة ما لم يحقق في مجاله الابداعي اضافة أو تفرداً تميزه عن غيره ، وهو ما فعله الشاعر عدنان الصائغ متكئاً بذلك على أرث ثقافي استمده من مدينته الكوفة وما فيها من تاريخ متوهج لا زال يفيض بعبقه ، وكلما كان الجرح غائراً كلما تفجرت الدماء بغزارة أكثر، وكذلك الكلمات عند الشاعر فهي تتفجر كلما كان الألم موجعاً أنه نزيف الكلمة الصادقة.
من عنوان الديوان تشعر بفداحة ما يعانيه الشاعر من تمزق وألم فالصراخ هو قدرة الإنسان على اطلاق عنان صوته ولكن حين يكون هذا الصراخ بحجم الوطن فلابد أن تكون الفجيعة أكبر مما نتصور. يفيض الشاعر بالحنين فكيف يداري حنينه أنه يتذكر وطنه بلاد النخيل:

"لي بظل النخيل بلاد مسورة بالبنادق
كيف الوصول إليها
وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب
وكيف أرى الصحاب
............."

ثم يقول:

"إنها محنة ـ بعد عشرين ـ
أن تبصر الجسر غير الذي قد عبرت
السماوات غير السماوات
والناس مسكونة بالغياب"

ثم يذكر بلده بقصيدة تحمل اسم العراق فهو يدرك أن المسافة تكبر بينه وبين الوطن ولا سبيل إلى عودته ولا يملك إلا أن يتحسر على وطن ضاع منه:

"العراق الذي يبتعد
كلما اتسعت في المنافي خطاه
والعراق الذي يتئد
كلما انفتحت نصف نافذة..
قلت: آه"

والشاعر لا ينفك يفكر في وطنه أينما حل وارتحل:

"أجلس أمام النافذة
أخيط شارعاً بشارع
وأقول متى أصلك"

كان مثقلاً بالوطن وهو يدور عبر منافي العالم حتى شاخ وتعثر بالخطو:

"لكثرة ما جاب منافي العالم
كان يمر منحنياً
كمن يتأبط وطناً"

إنه دائم البحث عن وطنه يتقصى أخباره يفرح حين يمر بالوطن يوم سلام ولكن لا أحد يرد عليه أنها الحيرة التي تصيب الشاعر ترى هل ضاع وطنه منه أم هو الذي ضاع عن الوطن من هنا يحدث الانقطاع:

"كلما كتب رسالة
إلى الوطن
أعادها إليه ساعي البريد
لخطأ في العنوان"

ومن الصور الساخرة التي يرسمها لآكلي قوت الشعب:

"كرشه المتدلي
عربة يدفعها أمامه
مثقلة بأطعمة الآخرين"

هذا الشاعر منشغل بالحرية كما ينشغل بها كل الشرفاء وفي ومضة جميلة يحيلنا إليها في اقتناص جميل لا يخطر على بال وهذه هي روح الشعر:

"ـ سهم ـ

لحظة الانعتاق الخاطفة
بماذا يفكر السهم
بالفريسة
أم..
بالحرية"

لا شك أن الأحلام هي بعض مما نفكر فيه في نهاراتنا المظلمة وهاهو الشاعر يرسم وطناً
ويرحل إليه ولكن:

"رسم بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والأشجار والقطط
قطع تذكرة
وسافر إليها
محملاً بحقائبه وأطفاله
لكن رجال الكمارك
أيقظوه عند الحدود
فرأى نادل البار
يهزه بعنف:
إلى أين تهرب بأحلامك
ولم تدفع فاتورة الحساب"

الموت هذا الهاجس الذي يلازمنا على الدوام يمثل في عيني الشاعر وهو في ملابس الكاكي حيث تكون فرص الموت أكثر من فرص الحياة، وفي مفارقة جميلة في (حبل غسيل) حين تكون مشاعر الرجل والمرأة استثمار أقصى وقت معاً قبل أن يفترقا من جديد بسبب الحرب، والخوف من الموت المترقب للجميع وفي معالجة لطيفة لا أريد افسادها على القاريء يعالج الصائغ تلك المشاعر الإنسانية معالجة سينمائية فماذا يقول:

"على قوس الصباح
تنشر المرأة غسيل أيامها
تتلمس ثيابه المبقعة بغبار الحرب
ونعاس شرشفها الفاضح
فجأة........
تختلس النظرات لسطح جارتها
وهي تنشر ثيابها السود
فتمسك قلبها ، بيديها
ـ كليمونة معصورة ـ
وتهبط مسرعة
إلى غرفة النوم
متشبثة بعنق زوجها
وهو يفرك عينيه
مذهولاً
لمرأى زوجته....
بالثياب السود......."

الغربة شوكة في الحلق تعذب المغترب ، والأيام التي يمضيها لا طعم لها خارج وطنه، وما يفوت منها لا يمكن تعويضه أنها خسارة في كل الأحوال:

" – غربة -
السماء التي ظللت أرضنا
والمنافي التي أرخت جرحنا
سأقول لها
كلما طردتني بلاد
وساومني صاحب
اتكأت على صمتي المر
أبكي الذي فاتنا"

في ديوان الشاعر عدنان الصائغ الكثير مما يستحق الوقوف وهناك قصيدتان لم أتطرق إليهما فهما لوحدهما بحاجة إلى دراسة خاصة هما (خرجت من الحرب سهواً ) و (أمي)
مثقل أنت يا صاحبي بالهموم التي عذبتني والهموم التي شردتني والهموم التي لم تذلني وعدنان الصائغ شاعر مبدع يستحق هذا الوصف بجدارة.
 
البحث Google Custom Search