أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
الحرب في القصيدة اليوميةوالقصيدة اليومية في الحرب:

قراءة في ديوان "سماء في خوذة" لعدنان الصائغ

خالد محمد المصري
جامعة اليرموك – أربد
المملكة الأردنية الهاشمية
باشراف الدكتور خليل الشيخ
أستاذ الأدب العربي في جامعة اليرموك

مدخل:

لماذا الحرب ؟ ولماذا عدنان الصائغ و "سماء في خوذة " تحديداً ؟
ليس جديداً أن يتفاعل الإنسان مع واقعه وفق بنية واعية له، مدركة لإشكالاته المتراتبة، وليس جديداً، أيضاً، أن تزداد درجة حساسية التفاعل مع زيادة التعقيدات في الواقع الذي يصبح عليه أن يرفد الإنسان بالراحة والطمأنينة.
والحرب، كواقع، لم تجلب الطمأنينة للإنسان، بل تجعله قلقاً، مستفزاً، ساكناً دائرة الحيرة، وتضعه إزاء طائفة جديدة من التعقيدات والمشكلات التي تفتح عليه باباً من الاحتمالات الدائمة: النصر، الهزيمة، القتل بشقيه القاتل والمقتول، الجراح، الدم، وصور قاتمة ومريعة أخرى. ترى كيف يتجسد هذا الواقع الفيزيقي، الحرب بكامل اشكالاتها وتفصيلاتها اليومية، شعرياً؟
لا ننتظر من القصيدة أن تكون انعكاساً مرآوياً للواقع، وأن تكون سجلاً دقيقاً للتجربة الاجتماعية، رغم التداخل والتواشج بين الأدب والمجتمع وشائكية العلاقة بينهما، لكننا ننظر إلى الشعر، خاصة، باعتباره نسقاً جمالياً له منطقه الخاص وملامحه الخاصة، آخذاً بنظر الاعتبار أن أشكال التعبير الجمالي ذاتية، من حيث كونها تعبيراً عما يحسه الأديب أو الفنان (1).
وعدنان الصائغ من ألمع الأسماء الشعرية الشابة التي ظهرت في عقد الثمانينات، عقد الحرب، والتي حققت جماهيرية واضحة في العراق، وإذا كان النقد يمقت إطلاق الأحكام بصيغة "الأفضل" منطلقاً من أنه لا أفضليات في ميادين الفنون والآداب، لكنه يعترف بالتميزات والخصوصيات والتجارب وسعة الانتشار. باختصار، إن الصائغ الذي عايش الحرب ووعى اشكالاتها، وأصبحت همه اليومي، يملك معاناته الخاصة مؤطرةً برؤية سياسية / اجتماعية تحقق فردانيته.
القصيدة عند عدنان الصائغ تختلفُ، نوعاً ما، عن قصيدة الحماسة في الموروث الشعري العربي التي تنطلق من وجهة نظر واحدة ملتزمة، مقيدة بالتزامها، ولغرضها الواحد، الأمر الذي يجعلها ضاجة بالحماس والتفاخر ووصف خصال الشاعر وقبيلته وقائدها وجيشها وخيلها دون التطرق إلى نقاط الضعف أو جوانب الرفض أو مستويات القناعة المتفاوتة أو ما إلى ذلك من التفاصيل التي تطرقت إليها قصيدة الصائغ الذي وجد نفسه أمام حرب من طبيعة مختلفة عما ألفه وعايشه الشعراء العرب السابقون، بل وجد نفسه يواجه تحدياً مختلفاً، لا يقوم بدور التسجيل والتوثيق للأحداث ومآثرها، بل عليها أن يكون في صميم الحالة ذاتها (2)، وأن يعترف بأن المعركة المعاصرة ما عادت "جواً حماسياً فقط. وأنها ليست صليل سيوف وغباراً متصاعداً، وقعقعة سلاح... بل هي عواطف وأحاسيس وحالات إنسانية مشروعة" (3)، لذلك كانت قصيدة الصائغ "إنسانية المغزى والتوجه، ترتكز بنيتها الأساسية على النقاط والجزئيات الصغيرة التافهة ومحاولة ايجاد التقابل بين هذه الجزيئات وبين الأبعاد الكبرى في حياة الشخصية التي تصورها، لتعطي للشخصية الموصوفة بُعداً إنسانياً لا بطولياً خارقاً" (4).
يجيء ديوان "سماء في خوذة"، موضوع القراءة، بعد عدة دواوين صدرت للشاعر هي:
1 – انتظريني تحت نصب الحرية – 1984 م
2 – أغنيات على جسر الكوفة – 1986 م
3 – العصافير لا تحب الرصاص – 1986 م
وعلى الرغم من أن ديوان "سماء في خوذة" قد صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد سنة 1988 م وفي أعلى غلافه الأول عبارة " ديوان المعركة "، إلا أنه سُحب من الأسواق بعد فترة وجيزة من توزيعه، وإن دل هذا على شيء فأنه يدل على أن الديوان صور جوانب مهمة، جديدة بالتقدير، وتستحق الوقوف والمعاينة، إذ لم يحقق الديوان الهدف المرجو من نشره وهو التحشيد والتعبئة، واقناع الجماهير بالحرب كوسيلة وأسلوب حياة وكدفاع عن الحياة ذاتها.
أما عن منهجية البحث، فأرى أن لا أتقيد في هذه القراءة المتواضعة بمنهج نقدي محدد، بل أميل إلى القراءة الشاملة والتأملية العامة للنص بالاستناد الى الذائقة النقدية الخاصة ثم أن كل ما يتعلق بالتعليق على نص أدبي أو منتج فني يمكن تسميته بالنقد وفق ما تمت القناعة به أخيراً بعد جدالات طويلة حول تبني المناهج النقدية والانضمام إلى المدارس والنظريات.
أحتوى ديوان "سماء في خوذة" على قصائد متباينة في مواضيعها وأطوالها، سُبع منها تناولت الحرب مباشرة، والقصائد الأخرى تناولت: الشعر والشعراء والنقاد والحب والفقر والتسول والنساء ... علما أنها مكتوبة في ظل ظروف الحرب، لذلك ليس غريباً أن تكون أجواء الحرب مخيمة عليها، وانعكاساتها واضحة فيها:

"أنا أكثر حزيناً منكِ
لكني لا أرتدي ثوباً أسودَ
بل قصائد سوداء" (5)

سأقوم بقراءة شاملة للديوان بدءاً بناحية المضمون على فرض أن الحرب هي قضيته المحورية، ومدى انعكاسها في ذات الشاعر ومحيطه، ثم التعريج على ناحية الشكل: كالأسلوب واللغة تركيباً ومفردات ...

المضمون اليومي في قصيدة الحرب

لقد عُرف عدنان الصائغ كشاعر متميز فيما يسمى "بالقصيدة اليومية" فقد قال عنه الناقد عبد الجبار داوود البصري: "إنه شاعر حقيقي قادر على أن يبرهن أن القصيدة اليومية جديرة بالحياة وجديرة بالحب والإعجاب" (6)، فقصائد عدنان تستمد طابعها شكلاً ومضموناً وطريقة طرح وزاوية نظر مما هو يومي فعلاً، ففي الديوان يكثر من حديثه عن: الشوارع والباصات والأصحاب والنساء والصحف والشرفات والهواتف والمصطبات والمدن وعن الحرب كفعل يومي، أصبح مألوفاً على مدى ثمانية أعوام من القتال:

"سأحكي لها بصاق المدينة
.. عن صحف اليوم، والحرب
       والمصطبات الوحيدة مثلي" (7)

"تتوزعك الطرقات، ويوميات الحرب، وضحكتها يا قلبي ..." (8)

بعد معاينة لقصائد هذا الديوان نراها لا تقدم طرحاً مباشراً لهمٍّ كوني أو وجودي أو قلق فكري فلسفي بمعناه المعروف، وإنما يتركز الهم في منطقة القلق على لحظة المعيشة الآنية ، فيدور حولها يصورها، يستشعرها، يستطعمها، ويعلق، صارخاً، خوفه من خسارتها أو احتمال خسارتها الذي يكاد يكون يقينياً في ظل حرب طاحنة:

"نظرت لموتي المؤجل.. يرمقني ببرود" (9)

إنه هم يومي.. هم العيش.. هم الحياة الاعتيادية رغم بساطتها: أكل وحب وأصحاب وجريدة وباص وراتب ومأوى:

"وحيدين فوق رصيف المساءات
ننتظر الباص، والراتب المتقطع، والـ...
(شقق أو أشعار
        للبيع، وللإيجار
    فلماذا أنت بلا مأوى.. ؟)" (10)

"لا أملك الآن غير نظافة قلبي وجيبي
وحلمي القتيل
        فكيف حصلت على
                    شقة فارهة
                         وكرش ثقيل" (11)

انه اليومي بتساؤلاته المألوفة على صعيد الحياة العادية للناس البسطاء. والديوان كله شاهد على تناول الموضوع اليومي كقضية وهمّ محوري في قصيدة الصائغ، وهو بهذا يختصر أو يهوّن مهمة الناقد التي أشار إليها حسن الكاشف حين قال: "توجد مهمة للناقد الآن، وهي أن يحرر الشاعر من عقدة الأداء نفسه، ان يشجعه على التقاط العادي، وان يصنع قصيدة في البطولة التي أصبحت حدثاً عادياً في الحياة اليومية.. أن تصبح للشاعر القدرة على التقاط العادي وإعادة صياغته بحيث يصبح حدثاً متميزاً" (12)، وهذا ما تنبه إليه عدنان الصائغ وعمل عليه، من حيث الفنية العالية في ربط الحدث العادي بالحدث الأكبر، وقد يصل الأمر أحياناً الى تضخيم العادي بشكل يوازي الأكبر أو يفوقه:

        "من سيرتب هذا الصباح القلق
         الفناجين باردة كالصداقات
         والحرب تعلك أيامنا
             وأنا في انتظار الندم" (13)

وفي قصيدة بائعة التذاكر يشغله القلق حول ردود فعل بائعة التذاكر حين يمدّ يده من الشباك:

         "سوف يمرّ على الكشك مرتبكاً  
- ربما سوف تشهق حين تراني
غصوناً مقطعة
ربما علمتها القذائف
إن الأصابع – في الحرب –
          ............. مثل التذاكر" (14)

إن الشاعر، هنا، يجعل من الحرب مجرد تبرير لإنهاء نزاعه الداخلي حول خشيته أو حول توقعاته لردود فعل بائعة التذاكر، وبهذا نجد ان الحدث العادي اليومي البسيط يصل بأهميته الى ما هو أكبر من ماهية تكوينه، وتصبح الخشية من الحرب ضئيلة، فيما تتضخم الخشية من ردّ فعل يومي بسيط، وهو في طور التوقع والتخمين. وقد يرى البعض في هذا الطرح تناقضاً مع ما يمكن تسميته قصيدة حرب أي أن تكون الحرب هي الطاغية على القصيدة، ولكن الأدب يمتلك امكانيات وقدرات تؤهله لإحياء الميت من التفاصيل ولزرع ألغام تفجير الانفعالات في أشياء بعيدة، كل البعد، عن دائرة التوقع والاحتمال "أن قصيدة الحرب هي الحياة في حالة حرب وهذا يعني وضعاً معقداً تلتبس فيه أو تختلط فيه كثير من حالات الحياة اليومية بشكل أكثر انفعالاً مما كان سابقاً. هناك الشهادة أو البطولة والخوف، وأن تقتل أو تُقتل، وأن تنتصر أو تنخذل، وأن تصمد أو تتراجع.. كل هذا داخل في المعيشة اليومية في الحب والصداقة والحزن والفرح وهذه حالة ليس من السهل خوضها" (15)، إن قصيدة "سماء في خوذة"، التي تحمل عنوان الديوان، تجسد مقدرة الصائغ الفنية ومحاولته في السيطرة عليها، رغم تشظي ما هو مطلوب منها كقصيدة حرب، إن لحظة الموت تحيل كل التفاصيل اليومية والجزئيات الصغيرة الى لحظة خوف ورعب وترقب وعذاب ومعاناة (16).

           "سقطتُ
            فلملمني وطني
            وركضنا الى الساتر الأول
            نتحدى معاً موتنا
          - أيّنا سيخبئ – ياوطني – رأسه
ولنا خوذة واحدة" (17)

في كل قصائد هذا الديوان تنضوي المضامين جميعها، على تعددها، تحت سماء مضمون الحرب أو في خوذتها فتتداخل الأرصفة بالخنادق، والمطر بالقذائف، وخطى الفتيات إلى المدارس بخطى الجنود، والحب بالحرب:

            " اجلسي ريثما تسترد القصائد أنفاسها
             فأحكي لعينيك
             حتى يحط على شرفة الرمش
                                    طير النعاس
                    سأبدأ من أول الحرب
                           أو آخر الحب...." (18)

وربما هذا هو الذي جعل الناقد طراد الكبيسي يقول عن الشاعر عدنان الصائغ: " إنه يؤسس قصيدة حُب في فضاء حرب" (19).
إن قصائد "سماء في خوذة" لم تمتدح الحرب، ولم تمجّد بطولة أحد، ولم تصف معركة ضروساً، ولم تذكر كلمة نصرٍ أو هزيمة، ولم تشر الى العدو وطبيعته، ولم تهتم بمسألة التوثيق أو الشهادة، ولم تحرضّ على القتال.. إنها قصيدة حرب ناضجة تدين الحرب بشعر الحرب وتسجل الوجه الحقيقي والبشع لها عبر ما تخلفه ورائها من أحزان وتقاطعات وآلام على الصعيد الإنساني في مستواه اليومي، العادي البسيط، وليس عبر فعلها الحقيقي على أرض الميدان الغارقة بالدم والحرائق والغبار ورائحة البارود... إنها قصيدة حرب ضد الحرب:

               ".... وما طاوعتني القصيدةُ
                      كان الوطن
                          على الساتر المتقدم....
                                    .. يحصي شظاياه والشهداء
               وصحبي يعدون للمدفعية بعض الفطار المقيت
               وينتظرون لمائدة الحرب أن تنتهي
               شرقنا معاً بالدم المتدفق
                   من يوقف الدم...
                               من....؟" (20)

وكثيراً ما كان عدنان الصائغ في قصائد هذا الديوان يصرخ شاكياً مندداً بالحرب التي طالت وأضرّت وعاثت خراباً:

              "تجوّعنا، ونكابرها بالوطن
                 وتشتت أيامنا، فنشاغل أيامها بالتمني
                 واذا تستجير طيور الحنين
                               بأعشاش أحزاننا
                          سوف نبكي على حُلمٍ
                                       ضيعوه
                                    فضعنا" (21)

الشكل ورغبة توصيل المضمون

مما لا شك فيه أن عدنان الصائغ يرغب في إيصال ما يقول الى أوسع قاعدة ممكنة من القرّاء دون الوقوع في منزلق التعابير والأساليب السطحية الساذجة، والحرب، كمضمون يومي عند الصائغ، تحتّم عليه إيصالها الى الجميع، ضامناً لها وصولاً سليماً، وذلك بالحرص على سلامة الأدوات التعبيرية والبناء المحكم وتوفير قدر كافٍ من التبسيط. ولأن أكثر الأنماط التعبيرية الشعرية صعوبة ذلك النمط البسيط والمؤثر، والعميق في الوقت ذاته، ومكمن الصعوبة هو تركيب " العمل الشعري، وترتيب تفصيلاته التعبيرية وتوظيف الخبرة والمهارات" (22)، وكما أنه لا توجد "مفردات شعرية وأخرى لا شعرية، أنما هناك سياق شعري، جملة شعرية، منطق شعري" (23) فأن الشعرية واضحة، رغم أختلاف مقاييسها نقدياً، في معظم قصائد الديوان:

"– لا مهرب ...
هي الأرض أضيق مما تصورت
... أضيق من كف كهل بخيل..." (24)

أن مفردات اللغة اليومية ترافق المضمون اليومي في معظم قصائد الديوان، فالصائغ، باستعماله الكلمات اليومية التي يتداولها الناس في حياتهم العادية، يخلق منطقاً شعرياً بفضل أيجاد علاقة ما بين الأشياء التي لا علاقة بينها في واقعها الفيزيقي:

"– يا سماء العراق .. أما من هواء
تلفت
كانت سماء العراق مثقبة بالشظايا" (25)

والملاحظ على لغة الديوان أنها تراوحت بين لغة التخاطب اليومي ولغة تحاول الارتقاء بها حتى تصل مشارف اللغة الشعرية التي تجعل الشعر لا زمنياً، بل يصدق على أي زمن، وهذا ما أشار اليه الدكتور خليل الشيخ في تحليله لقصيدة "سماء في خوذة" حيث قال: "ولعل قصائد عدنان الصائغ تمثل ما يمكن تسميته بالمصالحة بين لغة الواقع المباشر ولغة الواقع الشعري" (26)، ومن أمثلة ذلك قوله:
"أنتِ لو تفهمين إذن - لغة يومية
كيف تجمعني الحرب في طلقة - لغة تحاول الارتقاء
ثم تنثرني في شظايا المدن - لغة تحاول الارتقاء
اقلبي الصفحة الآن ..." (27) - لغة يومية
لا شك أن توظيف المصالحة بين اللغتين، عند عدنان الصائغ، قد خلق نسقاً شعرياً وبؤراً جمالية تشكل في النهاية خصوصية القصيدة وتوسع لها من أفق الانتشار الجماهيري، لكن يحسن التنبه، هنا، الى أن الاستمرار باسقاط الشاعرية على الماديات الجامدة، كما يأتي:
- الرماد يغطي المدينة      - قول سطحي / وصفي / خبري
- الرماد يغطي المدينة والقلب - واقع شعري
وكذلك: "شرفة القلب" و"أرصفة القلب" و"شظايا الروح". أقول أن الاستمرار على النسق السابق سيجعل القارئ معتاداً، بعد وقت قليل، على هذا النوع من التعبير، فيتوقف اندهاشه بخفوت توهج التعبير الذي جلبه اليه، بادئ الأمر، ذلك أنه، أي القارئ، بعد أن يتجاوز لحظة الدهشة والاستمتاع سيبحث عما هو أعمق وأكثر جدية وجدوى، ثم، وبطول القراءة، سيكتشف القارئ سذاجة اللعبة، وقد يتحول القارئ من التمتع بقراءتها الى تجربة صنعها أو حتى ممارسة التفوق عليها، لذلك فالمطلوب من أي شاعر أن يسعى للتجديد الدائم ولتعميق التجربة.
أما استهلالية القصيدة عند الصائغ سيلحظ أنه يغلب عليها صفة الدخول القصصي، وهذا النوع من الاستهلال إنما هو محاولة لشد القارئ عبر التلويح له بقدوم حدث ما، ومهما تراوحت صيغة الدخول بين الحوارية والمكانية الوصفية فهي مداخل قصصية بكل ما تعنيه هذه الكلمة:

"ارتبكت أمام الرصاصة
كنا معاً في العراء المسجى على وجهه
خائفين من الموت ..." (28)

إن أسلوب البناء القصصي الدرامي المتصاعد يساعد، كثيراً، على توصيل الصور، وامتلاك مشاعر القارئ وتهييجها أو التلاعب بها. ولما كان الهدف هو أثارت العواطف وتوجيهها فأن صيغة الطرح القصصي للبؤرة الشعرية على شكل حدث متكامل مناسبة للهدف، لكن هذه الصيغة ستشكل عبئاً على شاعرية القصيدة، إذ أن تدوين الحدث يتطلب تدوين العديد من تفاصيله وخلفياته، وهذا سيحمّل القصيدة ما تود هي التخلص منه، وهذا واضح في بعض قصائد الصائغ التي يمكن أن نكتبها على شكل قصصي نثري:
قصيدة ناقد: "صفقوا لمقالاته، والرباط الأنيق فلملمت سخريتي وانصرفت.... في الجريدة – في أول الصبح – أبصرت ناقدنا يتربع منتفخاً فوق إحدى المقالات .. يشتمني" (29)
قصيدة أمسية شعرية: "دخل الشعراء الـ "...." الى القاعة واكتظ الحفل، لكن الشعر غريباً ضل أمام الباب بملابسه الرثة يمنعه البواب" (30).

الهوامش


(1)  راجع: النقد الأدبي وعلم الاجتماع، مقدمة نظرية – محمد حافظ دياب، مجلة فصول – المجلد الرابع – العدد الأول، اكتوبر / نوفمبر / ديسمبر – 1983 م، ص (59).
(2)  راجع: مشكلات التأسيس في قصيدة الحرب – حمزة مصطفى – مجلة الأقلام – العددان (11 – 12) – 1987م، ص (7).
(3)  المرجع السابق، ص (8).
(4)  الشعر لا يساوي شيئاً، ولكن لا شيء يساوي الشعر، د. خليل الشيخ – جريدة الرأي الأردنية، العدد (6729)، يوم الجمعة 16 كانون الأول 1988 م.
(5)  "سماء في خوذة"، عدنان الصائغ، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى / 1988 م – ص (91).
(6)  عن ديوان "سماء في خوذة" – ص (103).
(7)  السابق نفسه – ص (17).
(8)  السابق نفسه – ص (39).
(9)  السابق نفسه – ص (8).
(10)  السابق نفسه – ص (72).
(11)  السابق نفسه – ص (67 – 78).
(12)  الشعر والمعركة، ندوة الأقلام – مجلة الأقلام – العدد الثاني عشر، كانون الأول / 1983 م – ص (23).
(13)  "سماء في خوذة" – ص (27).
(14)  السابق نفسه – ص (32).
(15)  ما قاله الشاعر يوسف الصائغ في ندوة الأقلام: "الشعر والمعركة" المشار اليها في الهامش (12) – ص (19).
(16)  راجع: "الشعر لا يساوي شيئاً، ولكن لا شيء يساوي شيئاً"، د. خليل الشيخ.
(17)  "سماء في خوذة" – ص (24).
(18)  السابق نفسه – ص (15).
(19)  السابق نفسه – ص (103).
(20)  السابق نفسه – ص (7).
(21)  السابق نفسه – ص (78).
(22)  مملكة الغجر (دراسات نقدية) – د. علي جعفر العلاق – دار الرشيد للنشر، بغداد – الطبعة الأولى / 1981 م – ص (18 – 19).
(23)  جدل الحداثة في الشعر – دراسة تطبيقية، وفيق خنسة – دار الحقائق / بيروت – الطبعة الأولى، 1985 م – ص (32).
(24)  ديوان "سماء في خوذة" – ص (21).
(25)  السابق نفسه – ص (22).
(26)  "الشعر لا يساوي شيئاً، ولكن لا شيء يساوي الشعر" – د. خليل الشيخ.
(27)  "سماء في خوذة" – ص (28).
(28)  السابق نفسه – ص (20).
(29)  السابق نفسه – ص (63).
(30)  السابق نفسه – ص (47).


(*) نشرت في مجلة "ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا (عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search