أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 
على هامش النقد:

من عتمة الفوضى إلى ضياء التسمية

قراءة في مجموعة "تحت سماء غريبة"
للشاعر عدنان الصائغ

محمد النصار
- عمان -

بصدور مجموعته الشعرية الأخيرة " تحت سماء غريبة" يمضي الشاعر عدنان الصائغ قدماً في تعميق مساره الشعري الذي اختطه منذ صدور المجموعة الأولى له " انتظريني تحت نصب الحرية في بغداد عام 1984. إذ أن الصائغ يعمق هنا حواره الحميم الدافيء والمواجع في آنٍ معاً بينه وبين العالم, حواره الذي يبدأ من رصد موجودات هذا العالم عبر الاستثمار الواضح لطريقة عمل حواسه المرهفة واشتباكها مع مفردات الواقع اليومي التي تدخل  عن طريق آلية أشتغال الحواس إلى مصهره الشعري فتتم إذابتها مع المدركات الأخرى المخزونة في طبقات وعيه معرفةً وخبرة حياة وآلامٍ تبقى موهبة الشاعر حريصة على إبقائها حيةً فتقدمها نصوصاً متوهجة تثري دهشتنا بلغة موجزة ومشاهد طازجة.. أن الشاعر يشفف علاقاته بالوجود – عن طريق الخصائص المشار إليها – ويتمظهر الثقافي متمثلاً بالبساطة المعمقة إذ يتم طرد واستبعاد "الأسئلة الوعرة" التي لا تلائم طريقته في الأداء أسلوباً ومخيلة.. وحين تحضر شذرات الأسطورة والميثولوجيا فعلاً هنا وهناك "بنيلوب", "أجاممنون"على سبيل التمثيل فان الشاعر حاذق في توظيف هذه الشذرات وإحكام السيطرة على تفاعلاتها "النصية" مع العناصر الأخرى بشكل ينمُّ عن خبرة تحمي تجربته من طغيان تأثير هذه العناصر "الشذرات" التي لا تتلاءم مع أسلوبه الشعري
وفي هذا إدراك لأهمية تحقيق الانسجام الذي هو الشرط الأول لتحقيق شعرية وجمالية النص.. يحضر اللمح والإيماء وتغيب الثرثرة.. إن الشاعر الصائغ حريص على أن يظل وفياً لعزلته, يذود عن أساه, حريصاً على ذاته التي يتسرب إلى شعورنا خطابها الجارح الهاديء غير أن هذا الهدوء يضمر في طياته قوة روح لا تتهاون في تمظهرها وتمردها مع كل ما يتهدد حريتها وسعيها لتأسيس حضورها وسط هذا العالم المليء بشتى صنوف القبح والمرارة... إنه يتساءل, يغضب, يحتج فيتخلل السواد إلى مياهه ليلوّنها فيمتزج وهج الروح وهي تنزف اغترابها مع هذا السواد في
ثنيات متعددة لها قوة الإدهاش الطفولي.. إن حفاظ الشاعر على طراوة المخيلة هو دليل على بقاء الطفل حياً في داخله ضدَّ العالم الذي يحاول تدجينه وترويضه بطرق وأساليب حياة بعضها بسيط واضح وبعضها الآخر غامض معقد.. إن الإحساس العميق للشعراء وسط خراب الأشياء يعكس حالة الرعب, رعب السؤال عن مصير ومعنى وقيمة وحركة الوجود بالمعنى الأوسع.. وهذا السؤال هو صراخ طفولي ولكنه عميق ضدّ البلاهة والتشيؤ الذين يزحفان على كل مظاهر الوجود وأشكاله المتعددة.      
إن نصوص عدنان الصائغ هي ممارسة وجودية لاختراق فجاجة العالم وهشاشته عن طريق الاستفادة من التفاصيل العابرة وتغذية الصلة الحية بها بنظرة متأسية تعكس حالة "التلاشي والأفول واللامعنى" عبر قلق التوحد وثقل الغربة وقساوة الفوضى ضد ذاتٍ عزلاء تعاني من خساراتٍ متعاقبة فتهربُ إلى "ملجأ" اللغة لتحمي وجودها من التآكل والانقراض:

                  "  تراقب نهر المشيب
                    يشقُّ المروج.. إلى مفرقيك
                    فتبلع كبسولة القرحة المزمنة
                     هكذا
                        بانتظامْ
                           وتنامْ "    ص 21

يحاول عدنان الصائغ الاستعانة بالذاكرة وإطلاق العنان لأحداثها المتشابكة فتمارس هذه الأحداث حضورها في اللحظة الشعرية الراهنة أي لحظة ولادة النص, هاربة من زمانها ومكانها المبعثرين "هناك / أمس" في ذخيرة الوجدان الشخصي له وعن طريق تقطير هذه الوقائع ومزجها بما تراه العين النشطة من مشاهد يومية مملة ومكرورة آلاف المرات ينطق النص بما تضمره تلك الحوادث المخزونة ليقيم حوارنا معها, حوار الرؤية الصافية غير المشوبة بغبار الوقائع حيث أن لحظة المعاناة الحقيقية تبدأ آنَ الكتابة فتتم المعاينة المتألمة والمتأملة إذ أن حالة التقادم تنقّي وتهيء لاقتناص المكنون الباقي عازفةً عن ملاحقة ما هو عارضٌ زائل فتخرج الأشياء من عتمة الفوضى لتدخل في ضياء التسمية وهكذا يسمو الوجود فتصبح الذاكرة هنا وسيلة لتحرير المقموع  الراكد الذي يرزح الكائن تحت سلطته الكابحة ضدّ حريته:

                  "معادلة صعبة
                    أن أبدّل حلماً, بوهمٍ
                          وأنثى.. بأخرى
                          ومنفى, بمنفى
                          وأسأل :
                                أين الطريق؟! "  ص 35  

يحضر عنصر التكرار بوفرة في نصوص الصائغ, يصبح هذا التكرار أما لازمة إيقاعية : مفردة أو جملة أو لازمة لتأكيد قوة الحالة الشعرية وعبر هذا التكرار يصوغ الشاعر أحداث مشهده مضفياً طابعاً استمرارياً عليه عن طريق الإكثار من استخدام الفعل المضارع والجملة القصيرة المكثفة الخالية من الزوائد:-

                 "تعبرُ البنتُ
                  يصفرُ شرطي المرور
                           إلى النحلِ
                        أن يعبرَ الآن
                  تصفرُ فينا بيوت التذكر, ضيقة البابِ
                            تصفرُ ريحُ المدافع"  ص5

إن تتابع الأفعال المضارعة : تعبر, يصفر, تصفر، يسهم في إثراء شحنة المشهد وتوفير الاداء السلس المتحقق عبر الاختزالية والتكثيف والإقلال من استخدام الجمل الوصفية الاستطرادية مع الاقتصاد في استخدام الجار والمجرور, والحذر من إكثار استعمال الأسماء الموصولة وهذه جميعاً تعطي لجملة الشاعر صفة البرق في التوهج وقوة " الإبلاغ " يضاف إلى هذه الخصيصة الإدائية استخدام عنصر المفارقة الصادمة والجارحة وهناك ميزة أخرى وهي استخدام "الجملة المفتاح" التي تلمُّ حولها "عاملات" أخريات يعملن في خدمتها لإثراء القيمة الشعرية للنص ككلية واحدة : فجملة (تصفر ريحُ المدافع) في المقطع أعلاه هي الجملة التي تشكل البؤرة الأساسية في هذا المقطع وهي تختزن "ضوءاً سرياً وداخلياً" قوياً وملموماً في حين تأخذ الجمل التي تسبقه دور المرايا, فتعتاش على قوة الضوء الأصلي للبؤرة الأساسية وتسهم في "الوشاية" بـ " مضمون " الصدمة الشعرية : تصفرُ فينا ريح المدافع هكذا يتم رسم المشهد عبر إعمال حاسة البصر بفاعلية استثنائية وهي إحدى ميزات الكتابة الشعرية لدى الصائغ:

                          "تختلس النظرات
                                 لسطح جارتها
                                 وهي تشرُّ ثيابها السود
                           فتمسك قلبها, بيديها
                                     - كليمونةٍ معصورةٍ –
                       وتهبط مسرعة
                          إلى غرفة النوم
                           متشبثةً بعنقِ زوجها
                           وهو يفرك عينيه
                                  مذهولاً
                          لمرآى زوجته..
                                 …. بالثياب السود."   ص39

إن الشاعر هنا حاذقٌ بطريقة رسم المشهد عن طريق استثمار عنصر المفارقة في هذا المقطع اللافت وفي مقاطع كثيرة أخرى في الديوان:-

                           "أفتح ثلاجة أحزاني
                             أخرج قنينة عرقٍ"    ص40

أو:

                "وتساقطت عقارب الساعة, من معصمها
                                 كطيور ميتة, على السجادة "   ص41

إنه يديم صلتنا – عن طريق النظرة المندهشة – بالأشياء, يزيح الغبار الأسود وحالات عمى البصيرة, يلتقط البعد الخفي المفقود للأشياء وعلاقاتها بعضها ببعض فيعمق وجودنا وإحساسنا بهذا الوجود. إنه شاعر القصيدة الواقعية الرمزية, يغذي حنيننا إلى البعد الرمزي للموجودات, الذي " نسيناه" في خضم الركام والهلع واللهاث خلف نزعة "استهلاك" الأشياء والسقوط ضحية رتابتها وانشغالاتنا البائسة بها والتي لها أول وليس لها أخر.. إنه يدفيء "البرودة" التي تزحف ضدّنا لنقاوم هامشية الوجود وندحر سلطة الأشياء الفارغة:

             "أرفع أنخابهم كأساً, كأساً
                          أو جثةً , جثة
               وحين أسقط على الرصيف
                            من الثمالة
              سيحملونني – في توابيتهم –
                                  إلى البيت ."  ص40

المخيلة تعمل في هذا المقطع على تسليط ضوئها على مفارقة "الحي الميت" وهو البعد المطمور في ضلالات الوقائع اليومية.. هنا يقوم الشاعر بدور الطفل الواشي بهذه الوشائج المؤجلة والتمرد على نزعة الموت والخراب الكامنة فيها حتى يصل الأمر أحياناً إلى حدّ الغناء الحزين الذي ينطوي على تهكمية مرّة:

                 " أشيرُ إلى البحر
                   من سيظلّلُ أحلامنا في المنافي
                        وننسى
                      على كل مرسى
                   منديل بنلوب ينسجها أهلنا
                   ............
                  المنافي تضيقُ بنا
                  والفيافي تحيقُ بنا"   ص6
                   ...............
*  *

أختتمُ هذه الملاحظات السريعة في تجربة الشاعر المثابر عدنان الصائغ بالإشارة إلى ظاهرة تكاد تشيع في نصوص عدد غير قليل من الشعراء وهي ما اصطلح على تسميته بـ "الذاكرة الإيقاعية" إذ أن الذاكرة تعدُّ عاملاً خطراً على تجربة أي شاعر إذا لم يُحكم السيطرة على رصد "تفاعلاتها الخفية" داخل مصهره الشخصي فهي تمتلك قدرة فائقة على الإسحار والإستحواذ... تهيمن على الشاعر, تُحكم السيطرة على "خطابه" الخاص, تقوم بالقول نيابة عن كينونته, عبر تراكماتها اللاواعية المتحصلة من عمليات الحفظ وإدمان قراءة نمط محدد من الشعر ولشعراء معينين... ولأن الشاعر يمارس وجوده ويؤسسه عن طريق اللغة.. لذا يصير وجوده أصيلاً بمقدار ما يجترح من "أقوال" متفردة خاصة وهنا تبرز أهمية "المكابدة" و "الكدح" و "الكد" و "المجالدة" ومعاناة الفشل مرّاتٍ ومرات لقهر "سلطان الذاكرة الإيقاعية" التي تأكل من جرف الشاعر عن طريق استخدام سلطة اللغة وهي تحاول أن تقول ما لا نعني فنفقد شرطاً لازباً من شروط "حريتنا" .. فالحرية هي وجودي أنا.. وهي وعيي أنا.. كيف أفكر.. كيف أحلم.. كيف أرى.. وهي صفاتٌ تشكل جميعها بصماتي التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال لأحدٍ أن يستنسخها دون هتكِ "وجودها الخاص" وحريتها الشخصية.

عمان 25/ 12/ 1994


(*) نشرت في صحيفة " القدس العربي" لندن ع 1741  27 كانون الثاني 1995
(*) نشرت في مجلة " ضفاف" ع 9 شباط/ فبراير 2002   النمسا ( عدد خاص- الصائغ في مرايا الإبداع والنقد)
 
البحث Google Custom Search