أخبار
 
بيلوغرافيا
سيرة قلمية
نصوص
اصدارات
شهادات في التجربة
أقواس قزح
دراسات
مقابلات
مقالات
صور
سجل الضيوف
العنوان
مواقع اخرى
صوت
فديو
 
 

(واو) عدنان الصائغ مساحة خاصة تسبح في يمّ يستخدمه صيّادون آخرون

موقع "كتاب العراق"
28/08/2011

 

ترتبط قصيدة الشاعر العراقي عدنان الصائغ بالزمن بصورة حادة. فهي تمضغ ألم الشاعر، وترميه في الصفحة من دون أن تنزع عنه الصفة السياسية أو الملحمية أو الفردية. في هذا المعنى، فإنه واحد ممن يحملون تحت جلدهم ملامح قصيدة لا تتنازل في بلاغتها قيد أنملة امام البوح، وهذا ما يميز غنائيتها.
في مجموعته "واو" (دار "الكوكب" - منشورات رياض الريس)، نجد أن الشعر يتحول منتجاً لغوياً فذاً، في محاولة لإشراك اللغة كثوب جمالي، يمكن أن يكون له كيان مستقل بمنأى عن قوة الصورة الشعرية المتضمنة أو صعوبتها أو عاديتها او سهولتها.
قد يكون الألم والتغرب كلمتي السر في شعر الصائغ (من مواليد الكوفة، 1955)، فهما، كشرطين محيطين بالشاعر في الوقت الحاضر، يكفلان دفعه للمضي داخل ذاته المضغوطة بالتفاصيل العابرة، تلك الذاكرة التي يعجز الشاعر عن تفكيكها أو تعريبها. كأن يضع مثلا عدنان الصائغ العاشق على مسافة من ذلك المغترب عن أهله وبيته ومكانه الأصلي الهائل المسلوخ عنه (إقامته في بلدان عدة كلبنان، الأردن، أسوج، انكلترا، وتعرضه في مهرجان المربد الثالث في البصرة للتهديد بالقتل وقطع اللسان بتهمة التطاول على المقدس بسبب قصيدته "نصوص مشاكسة قليلا").
ينتمي عدنان الصائغ إلى طائفة من شعراء عراقيين غيِّبوا عن المشهد الشعري لسبب أو لآخر، وهؤلاء مأخوذون بالتزامهم الوطني لعراق تراجيدي، إنسانه يكون حرا، كما التزامهم لنبرة شعرية لا تنحني امام ضرورة الصورة الفانتازية، بل تولي الضوء الأول للتفعيلة. وقد يكون الصائغ الوحيد الذي يتجرأ على أن يقيم اختباراته اللغوية والصورية والصوتية والإيحائية داخل المعترك التفعيلي نفسه، بدل التخلي والخطو نحو النثر المنفلت. فهو يتمسك بالتفعيلة كنظام وهيكل للكتابة من جهة، في مقابل توقه إلى التجديد من جهة أخرى وإبقاء مضمون إشكالي. من هنا، نتبين حدة الشاعر في استفزاز القارئ بدءا من العنوان (واو). فلهذا الحرف تأويلات عدة في اللغة العربية، وهو يمكن أن يشتمل على الجر كما يشتمل على المعية، أو يمكن أن لا يكون شيئا سوى واو، الحرف الما قبل الأخير من الأبجدية، بما في ذلك من دلالة سياسية، وتوظيف رمزي. الفضاء أحيانا مفتوح إذاً أمام القارئ لكي يغضب ويؤوّل كيفما شاء، كما هو فضاء محدد الملامح بتحديد القصدية في المعنى وتطويق القصيدة بما يجوس في نفس الشاعر.
يولي الصائغ الصوت اهتماماً خاصاً، ولعله العامل الأبرز الذي يعزز استقلالية الشكل، ويشد من أواصر القصيدة لجعلها جسما متين الأطراف. قد يتلاعب بالمفردات المتشابهة التكوين، جاعلا بعضها يقيم تناصّاً مع بعضها الآخر، أو اشتقاقا، او ضربا من ضروب المجازفة في الجملة الشعرية. وهو ما استخدمه كذلك العديد من شعراء التفعيلة الغنائية في الستينات والسبعينات. إلا أن ما يميز رؤيا الصائغ لقصيدته خروجه الحاد على سلطة التفعيلة نفسها وتمديد العبارة صوتيا وزمنيا، بما يشي بأنها تمرد مقصود، ومحاولة للإيحاء بأمارات بصرية، وبحيز آخر خاص بأدوات اللغة نفسها وحروفها وكلماتها.
يترك الشاعر بقايا المفردات كضرورة فنية، أو كحاجة لدعم تصوراته الشعرية بمشروع حداثوي لا يتخلى عن التفعيلة بتاتا بقدر ما يمزجها بتصورات موسيقية طنانة اكثر تحررا من القانون التفعيلي نفسه وأقل التزاما للصيرورة الإجبارية في بنية القصيدة: "...../ .... إلى أين تنأى/ ى ى/ أفي كل يوم م م م/ ستختار منفى جديدا دا دا دا/ لتنأى بعيدا دا دا دا:/ إلى أول القطب/ بِ بِ بِ/ - أعني: إلى آخر الصحبِ-/ بِ بِ بِ/ أو آخر الكتبِ)". هنا، قد نكون امام ارتباك شعري مقصود أو تأتأة من شأنها أن تعوق السيرورة الشكلية للنص، وأن تدل على الخلل في النظام الإنساني بقدر ما تستدل بدورها على أطراف في نهاية الجملة لبعث الهذيان الفني للشاعر هناك. وهي تأتأة تفتت مهابة التفعيلة.
لا يهتم الشاعر كثيرا لصوغ صور بلاغية عميقة، بقدر ما يهتم لمحتوى صورة العراق المفتت في الواقع والجميل في الذاكرة. لا نستنتج من هذا أن عدنان الصائغ يزكي خطابية شعرية ما. على العكس، فهو بحكم تجربته مع التغرب والأمكنة، يبدو شاعرا مسؤولا أمام قاموسه ومفرداته، فمن غير المسموح أن يقدم لقارئه قصيدة معطوبة من هنا او هناك. وهو يشبه المصمم الذي عليه أن يسلح جيشا ذاهبا إلى المعركة، فيكسوه بالدروع والتروس التي تبدو انيقة، صلبة، وسلسة التفاصيل في وقت واحد.
لكن كل محاولة لقراءة علاقة عدنان الصائغ بالزمن، تحيلنا في الضرورة على أوجه عدة لهذا الزمن. أولا هناك الزمن الشخصي للشاعر، الذي يتكثف بهيئة استقدامات طارئة من سيرته الخاصة، فيضخ في قصيدته تفصيلا من حدث "يومي" و"عادي" في العراق "السابق". بهذا، نجد أن الزمن الخاص بالشاعر الفرد، هو زمن يتعارك من أجل فُتاته شاعر وكائنه المطمور فيه كإنسان بعيد الملامح. أما البعد الثاني للزمن، فيكون زمنا تقنيا، مرتبطا ارتباطا لغويا بالقصيدة المكتوبة. الصائغ يؤكد ظاهرة الشعراء العراقيين الذين يحتكمون إلى لغة شعرية تتمسك بشكل ملموس بالتفعيلة، وتنتج نصا بقدر ما يفصح، يتباخل ولا يتنازل عن ضرورات استعمال هذه النبرة الموسيقية الضابطة للمعنى. هذا البعد للزمن، يوحد ما بين صورة عراق "آفل"، وصياغة شعرية هي بدورها آخذة في الأفول. هذا بالطبع ليس وقت قصيدة التفعيلة، إلا أن إصرار الشاعر على ربط ذاكرته بهذه التقنية، يرجعنا دوما إلى خصوصية الشاعر في الكتابة والبحث عن مساحات مستقلة في يم واسع يستخدم فيه الصيادون التقنيات ذاتها.

 

 
البحث Google Custom Search